spot_img
spot_imgspot_img
spot_imgspot_img

إصدارات المجلة

العدد 47

آخر المقالات

هاني الترك OAM- نعم كان قبلها وإعتذرت له

مجلة عرب أستراليا- بقلم هاني الترك OAM دخلت المواطنة أولغا...

ريما الكلزلي- قراءة في فكر الباحث ماجد الغرباوي

مجلة عرب أستراليا- بقلم الكاتبة ريما الكلزلي تجلّيات التنوّع...

أ.د.عماد شبلاق ـ الشعب يريد تعديل النظام!

مجلة عرب أستراليا- بقلم أ.د.عماد وليد شبلاق-رئيس الجمعية الأمريكية...

كارين عبد النور- الحسم لـ”الدونكيشوتية” والفرز السياسي في “مهندسي بيروت”

مجلة عرب أستراليا- بقلم الكاتبة كارين عبد النور «ما رأيناه...

أستراليا بلد التكامل الاجتماعي رغم تهديدات التطرف والإرهاب

أستراليا بلد التكامل الاجتماعي رغم تهديدات التطرف والإرهاب بقلم صاحبة...

عصام جميل- ما خفي كان أعظم

مجلة عرب أستراليا سيدني

الكاتب عصام جميل

ما خفي كان أعظم ..بقلم الكاتب عصام جميل

بينما كانت السيارة تتهادى فوق ذلك الطريق المحاذي للجبل، كان صوت هدير الأمواج التي تتلاطم على الساحل يُسمع بوضوح رغم الإرتفاع الشاهق لذلك الطريق عن الساحل . كان الساحل الشرقي الأسترالي يبدو وكأنه يحتضن ذلك الطريق المقوس ومن خلفها لجبل في عناق حميم، كما أن ركائزه التي رسخت في عمق الساحل وارتفعت نحو خمس مئة متر قد عُدَّت واحدة من الصروح المعمارية الجميلة التي تستوقف الناظرين .

في ذلك الصباح كان سعيد يقود سيارته بسرعة منخفضة جداً، وقد إختار هذا الوقت المبكر صباحاً ليتحاشى كثرة المركبات، كما أن هذا الوقت كان مناسباً له تماماً لكي يتواصل مع أصدقائه ومتابعي صفحته على الفيسبوك، ذلك أن معظمهم ينحدرون من أصول شرق أوسطية، حيث تكون صفحته على الفيسبوك في أوج نشاطها حين يكون الوقت مساءً في الجانب الآخر من الكرة الأرضيه.
كان الذراع الحامل للهاتف النقال يرتفع كرأس أفعى ليصوّر مشاهد البحر الأخاذة وكانت شاشة المحمول تُمَكّن سعيد من متابعة التعليقات واللايكات والقلوب التي كانت تتصاعد من أسفل الشاشة كفقاعات هواء تنبثق من أسفل إلى أعلى ثم تنفجر فتغمر سعيد بالبهجة والحبور فيزداد حماساً في تعليقه ووصفه للمكان أثناء قيادته، وكثيراً ما كان يردّ بالعرفان والشكر على التعليقات التي تتتابع على شاشة المحمول, إنتَبَهَ لوجود سيارة تكاد تلتصق به من خلف وقد أثار سائقها الضجيج بمنبهات الصوت المتكررة, كان يبدو أنه في عجلة من أمره وقد أغضبته القيادة البطيئة لسعيد الذي إحتكر الطريق مما إضطر الأخير إلى الانحياز إلى حافة المسار ليفسح المجال لذلك السائق كي يمر ; ولكن ما أن إجتاز بسيارته حتى أطلق منبه الصوت ثم أخرج رأسه منا لنافذة صارخاً
“فاكيو”  ثم إنطلق بعيداً ملوحا باصبعه بحركة بذيئة، أثارت كلماته وحركة إصبعه هذه ضحكات المتابعين فانطلقت القهقهات التي ظهرت في شكل كلمات أو رسومات كاريكاتورية على شاشة المحمول مما أضطر سعيد إلى التنويه
“عذراً إخوتي وأخواتي، هذه الكلمات والحركات التي أطلقها ذلك السائق تعتبر مسبّة بذيئة، يبدو إننا ضيقّنا عليه الطريق”  ثم توالت اللايكات الزرقاء والقلوب الحمراء تتطاير من أسفل الشاشة من جديد .

كانت هذه الفيديوهات التي يبثها سعيد تثير في نفسه متعة لا تضاهيها أي متعة. لقد بدأ الأمر معه بالصدفة حين صور فيديو قصير يتابع فيه إرتفاع المياه في أحد السدود في سنة من السنين أوشكت فيها على الفيضان، وسرعان ما إنتشر هذا الفيديو وذاع صيته مما شجعه لصنع فيديو آخر وآخر. وفي الواقع كانت هذه الهواية قريبة إلى نفسه حتى قبل أن تطأ قدماه أرض أستراليا منذ ستة عشر عاماً. لا يُفهم من كلامنا هذا إنه كان يصنع سابقاً فيديوهات أو أفلاماً سينمائية، كلا… ولكنه كان مولعاً بالتحقيقات الصحفية، وفي الفترة التي عاشها في العراق إستطاع أن يجدله مكاناً في إحدى الصحف المحلية لينشر، على سبيل الهواية، تحقيقات صحفية متنوعة، راصداً شؤون الناس وهمومهم اليومية، كما إستطاع أن يكون عضواً فاعلاً في صحيفة مهنية تخص وزارة النفط، حيث كان يعمل موظفاً .

على أية حال، فإن دوام الحال من المحال، كما يقال، فبعد سقوط النظام العراقي السابق ودخول الجيش الأميركي إلى العراق وما تلا ذلك من أحداث دموية واقتتال طائفي، كل ذلك دفعه إلى ترك العراق مرغماً بعد حادثة إختطاف ولدهِ ودَفعِه الغالي والنفيس لكي يفك أسر ولده بفدية؛ وهكذا غادر بخُفَّي حُنين إنقاذاً لعائلته الصغيرة المكونة من زوجة وطفل تَبِعهُ بطفل آخر ولد في الغربة، مودِعاً عالمه القديم وذكرياته وأحلامه للريح لتذرّيها وتبددها كيفما تشاء.

حسناً، يمكننا أن نقول أن الوقت أصبح سانحاً له في هذه البلاد الجميلة ليسقي هذه النبتة لتكبر وتزهر من جديد. كان سعيد حريصاً كل الحرص على متابعة ما يدور في بلده الأم يوما بيوم، فكأنه كان يعيش بجسمه فقط في هذه البلاد الغريبة،أما روحه فمازالت ترف هناك، حيث تتغذى وتنهل من ذكرياته التي تركها مع ما ترك، كما هو حال آلاف مؤلفة تركوا بلدانهم مرغمين وغرسوا أوتاد خيمهم في بلاد المهجر. والحقيقة فقد كانت هذه الحالة سبباً في شقائه، بل هي ضريبة يدفعها المهاجر شاء ذلك أم أبى, ضريبة لا تقيّم بدولارات تُدفع كل أول سنة مالية بل هي شيء آخر يثقل الصدور بالحنين الى الماضي وتتفاوت شدته من شخص الى آخر, ونستطيع القول بأن البعض قد أدرك بعد وصولهم إلى أرض المهجر أن فخاخ الماضي حري بها أن تسحقهم، فانخرطوا في مهن غير مهنهم مبتعدين قدر المستطاع عن أن يقعوا فيها.

ولكن للأسف، صاحبنا سعيد، كان من الذين سقطوا في شباك هذا الكمين فارتضى أن يعيش قانعاً بأغلال الماضي التي تكبله, وبلا شك فإن صناعة هذه الفيديوهات كانت تعيد الى نفسه بعض من التوازن النفسي الذي يعوضه عما خسره في بلده الأم من أمجاد صحفية مؤجلة لم تأخذ وقتها لتورق وتزهر، بل كانت حياته كصحفي مثل نبته قطعت قبل أوان نضجها .

بين أوراقه القديمة كانت ترقد بعض الأبيات الشعرية، أو هي محاولات متواضعة لمشروع قصيدة كان قد كتبها قبل سنين مضت…” أنفضي عنك أوراقك يا شجرتي البائسة فلقد قُطعتِ قبل أوانك وصارت أغصانك مداساً في بلاد الغربة “.
كانت محاولات شعرية لم تستمر ولكنها كانت تشي بمقدار ألمه ولوعته، ولقد كان هذا الأمر مصدر شقائه الذي قاد إلى نقمته على كل من بقي في وطنه من الكُتّاب ممن أثمرت أعمالهم وذاع صيتهم , وهكذا وجدنا صاحبنا يحاول أن يجمع في قائمة أصدقائه على الفيسبوك كل أولئك الكتّاب الذين فارقهم في وطنه الأم، فكأن لسان حاله يقول لهم من خلال هذه الفيديوهات …أنظروا الى الحياة التي أعيشها في بلاد المهجر حيث الرفاهية والتمدن يكتسح كلما هو قديم وبائد …

في إحدى قصائده التي لا يجرؤ على نشرها كتب يقول :
“ها أن ذا أقف على المرتفع وأنظر إليكم من علو…تبدون في حجم صغير كالنمل…لقد وصلت أخيراً فاقضموا تفاهات نجاحاتكم في قعر جحيمكم ”

إن أردنا الحق، لم يكن أي من أقرانه، ممن لم يغادروا أوطانهم، يحفل بتلك الفيديوهات أو يقيم لها وزناً، أو حتى ليشغل نفسه بالتفكير بصديقهم القديم الذي فتح بوابات سور الصين العظيم، فلقد كانوا منشغلين بأنفسهم ,أما صاحبنا سعيد فكان يرصد كل شاردة وكل واردة عنهم، فيعلق من طرف خفي على بعض نتاجاتهم من خلال ما ينشره على الفيسبوك، وغالباً ما يحمل تعليقه طابع النقد، فكان يبدو كأنه مترفع عنهم، نعم …لم يكن يشير صراحة إلى أسمائهم أو إلى نتاجهم، ولكن المتفحص النبيه لما ينشره يستطيع أن يستنبط من كان يعني بهذا ومن كان يعني بذاك .حسناً…هل نستطيع أن نسمي حالته هذه حالة مرضية نفسية؟ في الواقع إن زوجته هي من ادّعت ذلك وهي التي قدمت دعوى طلاقها لإعتبارات مرضية نفسية جعلتها غير قادرة على العيش معه تحت سقف واحد .

كانت حياتهما الزوجية في أول وصولهما إلى أرض المهجر ترفل بالأحلام الوردية، ككل المهاجرين ممن كان يحدوهم الأمل في أن يؤسسوا دولة أحلامهم بعيداً عن الوطن الأم، ولكن بمرور السنين يبدأ هذا الحلم يذوي ويتآكل تحت وطأة المعيشة والقوانين الجديدة التي تُسيّر تلك المجتمعات ,ومما زاد الطين بلة هو إنشداد الزوج إلى الماضي وحسرته على أمجاده الصحفية،فكان هذا الأمر عقدةً تضغط على حياته وتشكل طبيعة علاقته بزوجته، فكانت علاقتهما تتأرجح يميناً وشمالا حتى انفصمت حباتها وتبعثرت.

إنتهت رحلته وانتهى معها البث الحي الذي كان يرافقها وهاهو يعود أدراجه إلى شقته المتواضعة في ذلك الحي المكتظ بالسكان المنحدرين من أصول مختلفة. كان يحرص في كل فيديوهاته التي يصورها أن يتحاشى نقل ما يدور في الشوارع الخلفية في تلك الأحياء الفقيرة، بل كان يكتفي بنقل الجانب المضيء وحسب، محاولاً جهد المستطاع أن يضع نفسه في ذروة التفوق وبعيداً عن سفوح الماضي .

كان الحي الذي يقطنه يكتظ بعمارات سكنية لا تجرؤ أن ترفع قامته الأكثر من ثلاثة أدوار وذلك لقدم بنائها،وقد تداخلت فيما بينها محلات بقالة عربية وصينية وهندية مكونةً مزيجاً ثقافياً باحت به شرفات الشقق السكنية التي عُلقت عليها ألوان شتى من الملابس المغسولة وأغطية الأسرّة ومفارش الطعام .

ركن سيارته قريباً من العمارة التي يسكنها بعد أن أحكم غلقها جيداً ووضع عصاً على مقود السيارة تستعمل كقفل، كان حري به أن يتدبر بعض الإجراءات الاحترازية حيث تكثر السرقات في تلك الأنحاء. ما أن شق طريقه نحو بوابة العمارة وارتقى أول سلالمها حتى لطمت أنفه تلك الرائحة النفاذة التي تتدفق منشقة جارته الهندية محملة بشتى أنواع البهار، ثم تدافع بعض الصبية نازلين يتراكضون قاطعين السلالم بسرعة وهم يتضاحكون مما إضطره أن يلتصق بالجدار كي يتحاشى الإصطدام بهم.

في شقته المتواضعة كانت رائحة العفونة والهواء الثقيل تصفع من يدخل فكأن شبابيكه المتُفتَح منذ زمن طويل. كان الركود يُثقل على كل شيء وينشر ظلاله حتى على الجدران التي بلت صبغتها وكلحت. على مائدة طعام صغيرة تتوسط الحجرة الرئيسة تكدست الأوراق والرسائل فلم تترك إلا مساحة ضيقة وضعت عليها بعض الصحون التي مازالت تحمل بقايا طعام بائت لم يؤكل.

أما في مواجهة المائدة فكانت هناك مساحة ضيقة أُستخدِمت كمطبخ، وكانت في حالة أكثر بؤساً من مائدة الطعام، إذ تكدست أواني الطبخ في مغسلة الصحون ونشرت رائحة بقايا الطعام في كل ركن. جلس سعيد إلى المائدة مغتماً وكأنه أفاق من حلمه الذي كان يعيشه في فيديوهاته التي يبثها . كانت الرسالة التي تحمل شعار الشرطة مازالت تتربع على كدس الرسائل، التقطها بأطراف أصابعه بلا إكتراث وصار يتابع سطورها بعينين ذاهلتين، كان قد قرأها مراراً وتكراراً، مازالت بقع من الشاي تلطخ أطرافها باللون البني …كانت أللاءات تأخذ حيزا كبيراً من كلمات تلك الرسالة وقد كتبت هذه أللاءات بخط بارز…لا …يجوز الإقتراب من حدود المنطقة الجغرافية التي يقطنها الخاضع للحماية …لا …يجوز الإتصال بالخاضع للحماية إلا من خلال المحامي..لا …يجوز ترهيب الخاضع للحماية بأي شكل من الأشكال…لا…لا…لا…سلسلة طويلة من أللاءات. .

ثم ضرب بقبضة يده على المائدة بعنف …”أتمنى أن ألتقي بكِ يا من تتمتعين بالحماية ولو ليوم واحد …لا بل حتى لبعض الوقت، ولكن ليس في هذه البلاد، لكن تلقنتك درساً لن تنسيه” قال مع نفسه وهو يصر وجهه غضباً .
كانت المحكمة قد فرّقت بينهما إثر طلب الزوجة التي ادعت أنها تعرضت للعنف العائلي بعد مشادة عائلية إحتد بها وفلت صبره. كان قرار المحكمة بعد أن توثَقَ الطلاق أن لا يقترب الزوج من زوجته وأولاده كإجراء إحترازي يبعد عنهم الضرر.
“لم أضربها…كنت غاضباً وحسب..ماذا كان سيحصل لو ضربتها” كان يردد مع نفسه ذاهلاً
بينما كان صدى صوت زوجتهمازالحبيستلكالجدرانيقرعفيرأسهرغمأنحولاًمنالزمنقدمرعلىالحادثة …
” كَبّلتني بأحلامك وأمجادك حتى صارت أثقالا وأغلالا تقيد رقبتي، كفى أوهاماً، أريد أن   أعيش مثل باقي الناس،لم أغادر بلدي لأعيش بين جدران هذه الشقة العفنة …”

حمل تلك الصحون التي كانت على المائدة وألقى بها في المغسلة مع أواني الطبخ، كان يتحرك ويعمل شارد الذهن،بينما كانت كلمات تلك المشادّة تطن في أذنه…
“أنت تعلمين إنني أعمل لكي أوفر لك حياة كريمة…أنا أفعل ما بوسعي”
تدفقت المياه في مغسلة الصحون بعد فتحِ محبسها فأحدثت المياه المنسكبة دوياً اختلط بدوي أفكاره…
“بالطبع تعمل ما بوسعك…فأنت كاتب كبير ولا يجوز لك أن تعمل أعمالاً لا تناسب مكانتك”

قُطِعت سلسلة أفكاره إثر تنبيه صوتي صادر من جهازه المحمول، تلك الرنة ليست غريبة عنه، هي إشعار بوصول تعليق على الفيسبوك، وسرعان ما شدّه هذا الأمر فألقى ما بيده وهرع لالتقاط جهازه المحمول فأخذ يُقلّب صفحاته بشغف , كان الفيديو الذي بثه اليوم قد حاز على عدد كبير من اللايكات والتعليقات فصار يعيد بعضاً من مقاطع تلك الرحلة التي قطعها في سيارته صباحاً، كان المنظر الذي صوَّره جميلاً بالفعل،ثم سرعان ما إن بسطت أسارير وجهه من جديد . كان آخر تعليق قد كُتب قبل لحظات لأحد المتابعين للموقع من مصر،وكان التعليق بسيطاً ومختصراً جاء فيه ” إبسط ياعم …يا هنيالك”…

رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=19927

ذات صلة

spot_img