spot_img
spot_imgspot_img
spot_imgspot_img

إصدارات المجلة

العدد 46

آخر المقالات

كارين عبد النور- قصّة أنف نازف… وإبرة وخيط

مجلة عرب أستراليا- بقلم الكاتبة كارين عبد النور «فتنا على...

د. زياد علوش- قرار مجلس الأمن الدولي”2728″يؤكد عزلة اسرائيل ولا ينهي العدوان

مجلة عرب أستراليا- بقلم د. زياد علوش تبنى مجلس الأمن...

هاني التركOAM- البحث عن الجذور

مجلة عرب أستراليا-بقلم هاني الترك OAM إن الانسان هو الكائن...

إبراهيم أبو عواد- التناقض بين الحالة الإبداعية والموقف الأخلاقي

مجلة عرب أستراليا-بقلم الكاتب إبراهيم أبو عواد الإبداعُ الفَنِّي يَرتبط...

د. زياد علوش ـ”إسرائيل”عالقة في وحول فشلها وفظائع مجازرها

مجلة عرب أستراليا- بقلم د. زياد علوش تتواتر التهديدات الإسرائيلية...

عصام جميل ـ قصة قصيرة “السباق الانتخابي”

مجلة عرب أستراليا سيدني – قصة قصيرة “السباق الانتخابي”      

بقلم عصام جميل

بدأت القصة مع ظهور صورة للسيد جون آدمز واقفاً بجانب رئيس المجلس البلدي ، أو ما يُسمى ب (الماير)،على الصفحة الرئيسة للصحيفة المحلية إثر تحقيق صحفي يتحدث عن مشروع مركز ترفيهي مزمع إقامته قريباً. والسيد آدمز هو موظف بسيط في البلدية يعمل مساحاً للاراضي وقد طُلب منه مرافقة الماير لتحديد الموقع المُراد تخصيصه لأنشاء أحد  المراكز الترفيهية في المدينة. وبالفعل حالما طُلِب منه ذلك حمل جون عدته المكونة من ناظور ضوئي يُسنَد على ثلاثة أرجل ومسطرة مترية وحقيبة صغيرة يضع فيها عبوة مياه معدنية للشرب وشطائر بيض مسلوق وخس كانت زوجته المحبة قد أعدتّها له من قبل.

وقف الماير يستطلع تلك المساحات المسطحة الخالية التي ستتحول الى مسبح كبير وقاعة للعب البولنغ ودار سينما ومطاعم وكافتيريات حسب ما تم الأتفاق عليه في خطة المجلس البلدي للسنوات الخمس المقبلة. وبينما كان  السيد آدمز مستغرقاً في عمله خلف جهاز المسح الضوئي إقترب منه الماير وطلب أن ينظر بنفسه في العدسة ، وما أن إنحنى الماير ووقف خلف الجهاز حتى انهالت عليه الصور الفوتوغرافية من اتجاهات مختلفة من قبل المصور الصحفي الذي كان يرافقه. وعلى ما يبدو إن الماير كان قد أعد كل شئ من قبل لكي يظهر على الغلاف الرئيس للصحيفة المحلية، وهو قد استدعى جون لمرافقته فقط لكي يحظى بصور مثيرة له خلف جهاز الناظور الضوئي. حتى الان لم تكن هناك مشكلة ، إذ أنتهت المهمة بسلام وعاد الجميع الى عمله بانتظار قراءة التحقيق الصحفي الذي سيظهر في  العدد القادم من الصحيفة المحلية. ولكن بعد مرور أيام على ذلك حدثت حركة غير طبيعية في دائرة البلدية عند ساعات العمل الاولى من الصباح. كان بعض الموظفين يتهامسون فيما بينهم بينما كان البعض الآخر منهم يَفِدُ من الطابق العلوي مسرعاً لينقل ما يدور من أخبار عن الماير الذي كان يستشيط غضباً .

أما سبب ثورة الماير فهي إن هذا المصور الصحفي (الأحمق) ، على حد وصف الماير، كان قد وضع الصورة الخطأ على الغلاف الرئيس للصحيفة، أذ لم تُبرِز الصورة وجه الماير بوضوح أثناء وقوفه خلف الناظور الضوئي بينما ظهر السيد آدمز واقفاً بجانب الماير ضاحكاً ورفعاً إبهام كفه الايمن للأعلى ، كأشارة على القبول. والواقع إن كثيراً من الناس قد اختلط عليها الامر حتى ظنوا إن السيد آدمز هو الماير الجديد، لاسيما وإن عنوان الغلاف الذي ظهر أسفل الصورة قد أوحى بهذا ، أذ كُتب بحروف بارزة ( الماير يعطي موافقته على مشروع المركز الترفيهي) .       ” أنظروا الى هذا الهراء ، الماير  يعطي موافقته على مشروع المركز الترفيهي بينما يرفع السيد آدمز إبهامه في صورة الغلاف، فكأنه هو الماير وليس أنا” قال الماير في غضب بينما كان يلوح لمساعده بالصحيفة المحلية. ” أرجوك أن تهدأ سيدي الماير ، لقد أبلغت رئيس تحرير الصحيفة بالامر وهو يبلغك أسفه الشديد” قال المساعد ليهدئ من غضبه. ” وماذا أنتفع من أسفه الشديد ! لقد ظهرت الصحيفة ووزعت على كل  الناس” قال الماير ثم تساءل

” وأين هو هذا العبقري الذي كان يرفع إبهامه بالموافقة ؟”

” أنه هنا في مكتبه بالطابق الارضي”

” لا أريد أن أرى وجهه ، أعطه أجازة لثلاثة أيام حتى يهدأ غضبي” .

إن أردنا الحق فإن السيد  آدمز  لم يكن يقصد كل هذا، فهو قام بإشارة من إبهامه للمصور ليهنئه على التقاطه للصور على أكمل وجه، ولكن الصدف شاءت أن يختار الصحفي هذه اللقطة الاخيرة لتكون صورة الغلاف. كان جون آدمز وسيماً فارغ الطول ذو أكتاف عريضة على عكس الماير الذي تكوّر جسمه وانتفخت بطنه، الأمر الذي جعل ذلك المصور الصحفي  ينتقي تلك الصورة لجاذبيتها. عند عودته الى بيته استقبلته زوجته عند الباب واحتضنته بفرح :  ” جون حبيبي انا فخورة بك ، أنظر لقد وضعوا صورتك على غلاف الصحيفة” قالت ذلك وكانت تلوّح وبيدها عدد الصحيفة ثم اردف :  ” لقد جاءتني جارتنا مارغو بعدد الصحيفة ، تقول إنك أصبحت الماير الجديد ”                                                                         ‫“كفي عن هذا الهراء ، كيف تصدقين أن أُصبح رئيسا للمجلس البلدي بين يوم وليلة ‫“ قال ذلك ثم دلف الى البيت مغتماً. في الحقيقة كان جون غير سعيد بكل هذا الذي يدور حوله، لا سيما بعد أن نقل اليه زملاءه في العمل إستياء الماير مما جرى ، محذرين إياه بأنه سيكون في مرماه عاجلاً أم آجلاً . حتى هذه الاجازة الطارئة التي مُنِحت له فقد كان يعلم إنها تبدو كفرصة الاستراحة في جولات الملاكمة أو المصارعة وسرعان ما سيتبعها ضرب وركل . عندما تبعته زوجته أسرَّ لها جون بهذه المخاوف ولكنها كانت كعادتها تلك الزوجة المعينة اذ سرعان ما حاولت أن تبدد قلقه وتهدأ من مخاوفه . على أية حال، كان جون في أمَسْ الحاجة الى تلك الاجازة وقد وجدها فرصة سانحة للتسوق وحلاقة شعره الذي طال حتى كاد يغطي أذنيه، ولكن ما أشد دهشته حين ولج الى دكان الحلاق الذي أعتاد عليه منذ سنين ، فلقد استقبله الحلاق بالاحضان صارخاً:           “جون …أهلًا بالماير الجديد” ثم قاده الى الجدار ليريه  صورته التي ظهرت على غلاف الصحيفة وقد تم تاطيرها وتعليقها . أطلق جون ضحكة تنم عن دهشته ثم خطا وجلس على كرسي الحلاقة . ” الماير الجديد …!” قال جون هازئاً

‫“وما الغريب في الأمر، أنت تستحق ان تكون مايراً أكثر من هذا الفاسدالسمين”   قال الحلاق بينما كان يباشر عمله في تهذيب وقص شعر جون

كلا ..أرجوك لا تقل هذا ، أنا لا أحب أن أطلق الاتهامات جزافاً”

‫“ ” أنا لا أطلقها جزافاً ، كل المدينة تعلم من هو هذا الماير ، لقد إتسعت ثروته وتضخمت الى حد لا يمكن تخيله ، من أين جاء بكلِ  هذا ! ‫“ قال الحلاق ذلك ثم أردف: ” سوف أقص لك شعرك اليوم بشكل مختلف ، شكل يليق بالماير الجديد ” ثم أطلق ضحكةً مجلجلة . ولم يكد جون ينتهي من الحلاق حتى وجد الامر يتكرر حين مَرَّ على اللحّام وبائع الخضار والخباز  وكل  من التقى بهم في الطريق من معارفه ، حيث أحتفى به الجميع أشد الأحتفاء ، وكان معظمهم قد أحتفظ بنسخة من الصحيفة المحلية  إعتزازاً  بصاحبهم الذي صار بين ليلة وضحاها أشهر رجل في المدينة. ولم تمض أيام الاجازة حتى حدث أمرٌ آخر لم يُحسَب له حساب. اذ سرعان ما تلقت أحدى الصحف الأسبوعية المحلية خبر ذيوع صيت جون آدمز فقررت إجراء مقابلة صحفية معه وكان أول سؤال وجِهَ اليه:  ” سيد آدمز ..  هل تنوي الترشح لمنصب الماير في انتخابات المجلس البلدي المقبلة؟” سألت الصحفية الشابة جون أثناء زيارتها له في بيته في اليوم الثالث من أيام أجازته.

كان جون رجلاً يحب أن يخدم الناس ويندر أن وجِدَ من يطعن في سلوكه، ولكنه لم يكن يفكر في يوم ما أن يرشح لأنتخابات المجلس البلدي، وقبل أن يجيب بنعم أو لا نظر الى زوجته التي كانت تجلس في الزاوية المقابلة وقرأ في تعابير وجهها ما يشجعه ليقول نعم ، ولكنه كان متردداً وضلّ يماطل في الاجابة مردداً: ” ..في الحقيقة ..انني ..لا ادري بماذا أجيب…” والواقع إنه أثناء ترديده لهذه الكلمات، كان يمنح نفسه الوقت الكافي ليفكر  في ردود فعل الماير اذا ما أجاب بنعم، إلا ان تأثير زوجته التي كانت تهز له رأسها لتشجعه كان سبباً كافياً لجعله يتجرأ أخيراً ويقول: ” اذا كان الواجب يستدعيني لخدمة الناس فلم لا”. حين أنتهت أيام الاجازة وعاد الى عمله كان جون يكتم في صدره خبر ذلك اللقاء الصحفي ، ولكنه كان يتوجس من عواقب هذا التحقيق الصحفي الذي سيظهر وينتشر فور توزيع الصحيفة في السبت المقبل .                   “سوف يجن جنون الماير بعد أن يقرأ التحقيق الصحفي الأخير، أنا متأكد من ذلك” فكر جون مع نفسه أثناء انشغاله في عمله في تلك القاعة الكبيرة التي جمعت تحت سقفها المرتفع  رسامين هندسيين ومهندسين ومساحين .  وبينما هو منشغل البال  دخل الماير الى القاعة ثم أتجه الى أحد المهندسين وانشغل بالحديث معه متحاشياً النظر الى جون مما ضاعف قلق الاخير .

في الحقيقة ، من المهم أن ننوه هنا بأنه على الرغم من إن السيد آدمز قد أجاب بإمكانية ترشحه لمنصب الماير ،  إلا إن  فكرة الترشح للانتخابات المقبلة بشكل جدي كانت ما زالت بعيدة عن إهتمامه وإن زوجته كانت هي التي تحثه لاتخاذ هكذا قرار، فهو رجل لم يمتلك يوماً مثل هذا الطموح ، وكل ما يشغل باله هو عمله وعائلته الصغيرة المكونة من بنت في السادسة عشر وصبي ذو أربع عشرة سنة، إضافة الى أهتمامه الشديد بهواية اقتناء السيارات القديمة ، حيث كان يمتلك واحدة منهن ، وغالباً ما كان يقضي جل وقته بتشغيلها وتلميعها والمشاركة بالاستعراضات التي يجريها أصحاب هذه الهواية لسياراتهم في أيام السبت . ولا يفوتنا أن نذكر بأن هناك عامل آخر كان يشجعه لدخول المعترك الانتخابي وهو رغبة أولاده وهَوَسهم بفكرة ترشح أبيهم لمنصب الماير وتشجيع معارفه الذين التقى بهم ، كل ذلك جعل جون يفكر في إحتمالية أن يتقدم لمثل هذه الخطوة.

إلا إن هناك أيضاً  عامل مهم جداً لا يجدر بنا أن نغفله وقد بقي خفي يعتمل في نفس جون، وهو اكتشافه لمتعة أن يكون مشهوراً ومحط أنظار الناس أينما حل. على أية حال، وسواء أراد لنفسه الترشح أم لم يرد ، فقد وجد السيد آدمز نفسه مرغماً على ركوب الموجة . فبعد ساعات من ظهور عدد الصحيفة الاسبوعية في صباح يوم السبت  إنهالت عليه المكالمات الهاتفية من أصدقائه ومعارفه يهنئونه ويشجعونه على خوض هذا المعترك. غير إن أهم مكالمة تليفونية تلقاها في ذلك السبت هي من السيد روجرز الزعيم المعروف عن حزب العمال . كانت زوجة جون تنظر باندهاش الى الاهمية التي أعطاها جون لصاحب تلك المكالمة مرحباً به بزيارة بيته مساءً، وحينما أغلق جون سماعة الهاتف وقف واجماً لبضع ثوان حتى تقدمت منه زوجته وسألته : ” جون من كان هذا ؟‫”

” إنه السيد روجرز ، الزعيم العمالي المعروف”

قال جون بهدوء وعلامات الدهشه قد كست ملامحه. ويبدو إن الدهشة والوجوم قد إنتقلا الى زوجته أيضاً فضلّت صامته لبضع ثوان قبل أن تستعيد طبيعتها ‫.

” وكيف عرف برقم هاتفك”

” من دليل الهاتف بلا شكً”

كانت علامات الاضطراب والارتباك بادية عليهما معا، فهذه هي المرّة الاولى التي تزورهم فيها شخصية سياسية مهمة ‫.

” ألم يخبركَ عن سبب رغبته بزيارتنا ”

” بالتأكيد بسبب الانتخابات ، وما عسى أن يكون غير ذلك ؟ ”

” وهل تعتقد إن هذه الزيارة ستكون في صالحنا ؟”

قالت والحيرة تأسرها ‫.

” لا ادري ، لنر ماذا سيحدث ، المهم الآن هو أن نهيأ انفسنا لاستقباله” .

كان سبتاً يختلف عن أي سبت، ففيه أستقبل جون وزوجته عدداً من المكالمات الهاتفية يفوق ما استقبلوه خلال شهر ، ثم كان المساء ، وها هما ينتظران الزعيم العمالي السيد روجرز وهما في أشد حالات الاضطراب . لقد هيأت زوجته بعض الحلوى وقطع الكعك، ثم زينت المنزل بالزهور بينما كان الصبي والبنت يترصدان أي حركة في الشارع لينقلا الخبر الى ذويهما .وفي تمام الساعة السادسة مساءً كانت سيارة السيد روجرز تقف أمام منزل جون ، وحين ترجل منها كانت كل العائلة في استقباله بحفاوة تليق بشخصه كرمز سياسي ‫.

كان جون وافراد عائلته يتحدثون الى السيد روجرز منبهرين ، فهذا الرجل الذي طالما تصدرت نشاطاته نشرات الاخبار يحل بينهم بلحمه وشحمه . والواقع أن السيد روجرز  كان شخصاً بسيطاً جداً وقد ازاح بتواضعه ذلك التكلف والارتباك الذي أصاب الجميع حتى إنه لم تمض سوى بضع دقائق على وجوده معهم حتى صار الجميع يتحدثون معه بحرية كاسرين حاجز  الصمت الذي غلف جلستهم في بداية الأمر.                          ” حسناً سيد جون آدمز … لِأدخل في صلب الموضوع الذي جئت لأجله، لقد أثار انتباهي التحقيق الصحفي الذي نُشِر صباح اليوم وبودي أن تقبل التعاون مع حزبنا ” قال السيد روجرز ذلك بعد أن اتخذ هيئة جادة تختلف عن هيئته المرحة التي بدأ بها لقاءه.                                      ” سيد روجرز هل يمكن أن توضح لي كيف يمكنني أن أتعاون مع حزبكم” قال جون ذلك بينما كان افراد عائلته يراقبون أطراف الحديث باهتمام شديد مستنفرين كل حواسهم لفهم ما يجري حولهم ‫.

” نريدك الترشح لمنصب رئيس المجلس المحلي ضمن قائمة حزب العمال”

” في الواقع أنا لحد الان لم أحزم أمري ، إن كنت ساترشح أم لا”

وهنا انبرى السيد روجرز بحديث حماسي عن مصالح الامة والوطن مذكراً إياهم بتلك الخطب التي طالما كان يطلقها في المجلس النيابي والتي كانت تُنقَل عبر شاشة التلفزيون ، وأخيراً ختم قوله : ” يجب أن ننتزعها منهم ، هذا الماير يعد أحد رموز الفساد التي يجب تغييرها، ولن نحظى بذلك مالم تتعاون معنا ” وما أن ختم قوله هذا حتى نهض ثم أستل بطاقة من جيبه وناولها لجون. ” تفضل ، هذا الكارت يحمل رقم هاتفي وأيميلي الشخصي ، أنتظر منك الرد بأقرب وقت” ثم صافح جون بحرارة وغادر مسرعاً بينما كانت العائلة تشيعه . كان الأمر يبدو وكأن يداً خفية تدفع بالأحداث الى نهاية مُقَدَرة، في تلك الليلة التي زارهم فيها السيد روجرز بقي جون يقظاً حتى وقت متأخر بعد أن جفاه النوم لكثرة التفكير.

أما بالنسبة إلى زوجته فقد كانت الأمور تجري في صالح طموحها وهي ما فتأت تردد لجون نظرتها الى الامر بأن الحظ يطرق الباب مرة واحدة فقط. أما جون فكان يشعر بأن عالمه الهادئ المستقر قد بدأ يتزعزع ويضطرب فكان كمن يرى في يقظته بوابة كبيرة مغلقة أوشكت أن تُفتَح مصاريعها بقوة تيار مياه هائلة متدفقة من الخارج ،  ومتى فُتِحت فأنها ستجرف حياته الى عالم مجهول تماما بالنسبة اليه. ولكنه رغم تلك المخاوف التي كانت تضطرم في صدره لم يشأ أن يُصرّح لزوجته عما يخفيه في جوانبه بل ظلَّ يقلّب أفكاره بصمت حتى هدَّه التعب فنام. حين أنتهت عطلة نهاية الاسبوع وأستقبل جون يوم عمل جديد كان جميع من معه في العمل يلقي عليه التحية بطريقة مختلفة عما أعتادوا عليه، كانوا يحيونه من بعيد بحفاوة مبتسمين متهامسين فيما بينهم

” لا شك إنهم قرأوا المقابلة الصحفية”

قال لنفسه بينما أقتربت منه أحدى الموظفات وأسندت مرفقها على مكتبه ومالت بجسمها اليه ثم قالت بصوت منخفض :” أهلا جون ..يبدو إنك أصبحت شخصية مهمة ” ثم غمزت له ممازحة واردفت: ” متى أحببت أن تصطحب أمرأة فلا تتردد في سؤالي” وأطلقت ضحكة غنجة وتركته. كان جون يستقبل كل ما يدور حوله بصمت، شاغلاً نفسه بعمله بينما كان فكره كله منحصراً فيما ستكون عليه ردود فعل الماير. بعد الظهيرة ،وقبل أن تنتهي ساعات العمل رفع جون نظره فرأى الماير داخلاً الى القاعة الكبيرة فعمل على خفض بصره شاغلاً نفسه بالرسوم الهندسية التي بين يديه ولكنه كان يراقب بطرف عينه كل تحركات الماير. كان هذا الاخير منشغلاً بالحديث مع أحدى الموظفات،  ثم تركها وصار يقترب شيئاً فشيئاً من مكتبه حتى صار على بعد خطوتين. رفع جون عينيه فوجده واقفاً إزاء مكتبه مبتسماً فوقف لتحيته وقبل أن يتفوه بكلمه بادره الماير بالقول ‫:

‫“ كيف حالك يا جون ، عسى أن تكون قد إستمتعت بالاجازة‫”

” شكراً سيدي الماير ، بالفعل كنت بحاجة لمثل هذه الأجازة ”

” قل لي يا جون كيف تقضي أجازتك، ما هي هوايتك المفضلة”

كان جون حذراً في الحديث مع الماير وكان يعتقد أن الأخير كان يمهد لحديث آخر غير معلن ‫.

‫“في الواقع أنا مغرم بأقتناء السيارات القديمة‫”

” رائع… هواية جميلة ، هل لديك سيارة قديمة تعتني بها”

” نعم ، إنها اولدز موبايل موديل ١٩٤٦”

” رائع ، كم احب هذه السيارة، إنها تذكرني بالماضي الجميل”

” بالفعل إنها سيارة جميلة ، إنها تَشغَل كل وقتي”

” رائع ، كم أود أن أرى سيارتك هذه، هل تمانع إن زرتك لرؤيتها مساءً”

بقي جون صامتاً لثوانٍ معدودات قبل أن يرد والدهشة تعلو محياه‫:

” أنت مرحب بك في أي وقت سيدي الماير”

” حسناً اذن ، أترك لي عنوانك وسأزورك مساء اليوم، الى اللقاء”

ثم خطا مبتعداً تاركاً وراءه كثير من الاسئلة التي شغلت جون. عند عودته من العمل أسرَّ جون لزوجته عن الأمر مما جعلها تقلق من هذه الزيارة المرتقبة ‫.

” ترى ماذا يريد منك ، رغبته في رؤية السيارة ما هي إلا ذريعة ”

“أعلم ذلك ، الأمر يتعلق بالانتخابات المقبلة ولا شك”

قال وهو مستغرق في التفكير ‫.

” لست مطمئنة لهذا الرجل، أجد من الأفضل أن نُخبر الشرطة”

‫“ الشرطة ! هل جننت ! ماذا ستقولين للشرطة ؟ السيد الماير سيأتي لزيارتنا‫”.

‫“ جون لا ندري ما ستكون ردود فعله …لا شك إنه شعر بخطر المنافسة وجاء لينتقم ‫“

” أو ربما ليعقد صفقة”

قال جون متأملاً  ‫. في الواقع كانت توقعات جون مصيبة، فعند المساء لاحظ جون من بعيد أقتراب سيارة رباعية الدفع وعرف إنها سيارة الماير الخاصة

عندما ركنت السيارة مقابل بيت جون ترجل منها الماير وتصنع إبتسامة على وجهه محيياً جون الذي كان باستقباله . كانت زوجة جون تقتنص النظر من خلف النافذة والقلق بادٍ عليها بينما كان جون يقود الماير الى المراب ليريه سيارته الكلاسيكية . صار الماير يلف حول السيارة مبدياً إعجابه الشديد بشكلها ولونها ثم فجأة صار يتحدث الى جون بطريقة جادة مختلفة عما قبل ‫:

” أنظر يا عزيزي جون ، السياسة لعبة خطرة لا قِبَل لك بها”

ودس يده في جيب سترته وأخرج صكاً بنكياً ثم قال ‫:

” تفضل هذا الصك ، خمسة الاف دولار ”

ثم ثبّتَ نظره بنظر جون .أمسَكَ جون الصك البنكي بيده وقد أخرسته

المفاجأة  ، حينها اردف الماير قائلاً ‫:

” هذا المبلغ لك مقابل تخليك عن فكرة الترشح”

ثم استدار عائداً وركب سيارته وأنطلق بينما بقي جون واجماً وقد عقدت الدهشة لسانه . كان جون يظن إنه سيخوض في صفقة سياسية مع الماير وقد بدر الى فكره إن الماير يحُتَمل أن يعرض عليه منصباً وظيفياً أو شيئاً من هذا القبيل، إلا إنه لم يسمح لافكاره أن تأخذه بعيداً حتى يتصور أن الماير سيعرض عليه رشوة مالية . لقد كان يسمع من الناس عن فساد هذا الرجل وعن صفقاته المشبوهه ولكنه لم يكن يصدق مثل هذا الأقاويل وكان يعتبرها ثرثرة لا تستند الى براهين، ولكنه اليوم قد توثق من الأمر حتى لا مجال للشك.  كان جون ما زال مستغرقاً في تأملاته بينما ما زال الصك البنكي بين أصابعه. نظر الى الصك وتفحصه فوجد إن كاتب الصك هو شخص آخر غير الماير ‫.

‫“ هذا اللص يعرف كيف يؤمن نفسه جيداً‫”

قال لنفسه بينما سمع خطوات زوجته تقترب من المراب فأخفى الصك في جيبه وتصنع إنه منشغل بتلميع سيارته القديمة. في الحقيقة كان جون يخشى أن يضاعف هذا الأمر من مخاوف زوجته بعد أن  قرر وعزم على أن يعيد للماير هذا الصك فور مقابلته له في مكتبه  ‫.

” جون ما الأمر ..ماذا أراد الماير منك ؟”

قالت أثناء دخولها المراب ‫.

” لا شئ ، جاء لينظر السيارة الأولدز موبايل”

ثم تركها ودلف الى الدار بينما بقيت هي تنظر بأستغراب ‫.

حسناً، لقد قلنا من قبل إن جون لم يكن راغب في خوض انتخابات المجلس المحلي وإن زوجته كانت تدفع به لهذه التجربة. والواقع إن زيارة الماير له قد غيرت كثير من الموازين. لقد تيقن جون إن تقدمه للترشح لم تعد مجرد فكرة طارئة مهدت لها الصدف بل هو واجب أخلاقي يفرض عليه أن ينتزع هذا المنصب من قبضة هذا الماير الفاسد وإن عليه أن يخوض هذه المعركة بكل ضراوتها حتى النهاية. وبالفعل كانت الأيام القادمة تحمل معها اولى نذر هذه المعركة. ففي أول يوم من أيام الاسبوع ومع بداية الدوام الرسمي ، حتى قبل أن يتوجه جون الى مكتبه، أرتقى المصعد الكهربائي وأتجه الى غرفة الماير مباشرة. وبعد أن سمحت له السكرتيرة بالدخول الفى نفسه في مواجهة الماير  ‫.

” سيدي الماير ، صباح الخير ”

ثم مد يده والقى بالصك البنكي على مكتب الماير بينما كان هذا الاخير ينظر باستغراب ‫.                                                                    ” لقد قررت أن أترشح للانتخابات المقبلة ‫“ ثم غادر الغرفة بخطى واثقة بينما سمع صوت الماير يصرخ من خلفه  ‫:

” لا تستطيع أن تباريني، لا قِبَلَ لك بهذا ”

كان جون قد تلقى خلال الاشهر الثلاثة الاخيرة عروضاً من أحزاب مختلفة لدخول الانتخابات ضمن قوائمهم ،كما حصل معه سابقاً مع حزب العمال ، ولكنه فضل أن يدخل الانتخابات كمستقل.  لقد تهيأ له ما يكفي لدعم حملته الانتخابية من بعض اصحابه ومعارفه ، فطبع الملصقات التي تحمل صوره وبرنامجه الانتخابي وتَجَنَد له عدد كبير من المؤازرين، ولكن أهم هؤلاء كانت زوجته واولاده حتى أصبح كل من في البيت خلية نحل تلصق وتوزع المنشورات والصور ، والاهم من هذه كلها هو الدعم الذي وجده من أبناء مدينته الذين آزروه وتعهدوا أن يقفوا خلفه حتى النهاية. لم يبق على موعد الاقتراع الا بضعة أيام وها هي العائلة مجتمعة في البيت تهيأ الملصقات والصور لتوزع على الشوارع والازقة في الوقت الذي كان جهاز التلفاز ينقل بعض التقارير الاخبارية . ولكي لا تتشتت افكارهم فضلت زوجة جون إخماد صوت التلفاز والاكتفاء بمتابعة الاخبار عن طريق الترجمة النصية التي تظهر أسفل الشاشة. حين ظهر رئيس الوزراء على الشاشة كان جون يتابعه باهتمام مفكراً مع نفسه إنه يمكن له أن يتبارى على منصب رئيس الوزراء اذا ما سنحت له الفرصة. كانت زوجته تنظر الى التلفاز وحين نقلت نظرها الى زوجها إستطاعت أن تقرأ ما يدور براسه فكأن تياراً كهربائياً سرى بينهما ‫.

” جون ، هل تفكر بما أفكر به ”

قالت له  مبتسمة وهي تنظر الى صورة رئيس الوزراء  على الشاشة  ، فهز راسه بالموافقة مبتسماً  ‫.

رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=19040

ذات صلة

spot_img