spot_img
spot_imgspot_img
spot_imgspot_img

إصدارات المجلة

العدد 46

آخر المقالات

كارين عبد النور- قصّة أنف نازف… وإبرة وخيط

مجلة عرب أستراليا- بقلم الكاتبة كارين عبد النور «فتنا على...

د. زياد علوش- قرار مجلس الأمن الدولي”2728″يؤكد عزلة اسرائيل ولا ينهي العدوان

مجلة عرب أستراليا- بقلم د. زياد علوش تبنى مجلس الأمن...

هاني التركOAM- البحث عن الجذور

مجلة عرب أستراليا-بقلم هاني الترك OAM إن الانسان هو الكائن...

إبراهيم أبو عواد- التناقض بين الحالة الإبداعية والموقف الأخلاقي

مجلة عرب أستراليا-بقلم الكاتب إبراهيم أبو عواد الإبداعُ الفَنِّي يَرتبط...

د. زياد علوش ـ”إسرائيل”عالقة في وحول فشلها وفظائع مجازرها

مجلة عرب أستراليا- بقلم د. زياد علوش تتواتر التهديدات الإسرائيلية...

الكاتب عصام جميل ـ البعض يُسرقُ مرتين

مجلة عرب أستراليا سيدني – البعض يُسرقُ مرتين

عصام جميل
عصام جميل

قصة قصيرة بقلم الكاتب عصام جميل

لم تجد حبيبة زوجها في نوبة غضب مثل هذه من قبل ، كانت خائفة تتوسل اليه أن يهدأ بينما كان يضرب جدران البيت بكفه حتى أحدث ثقباً في واحدة منها . كان مفرطاً في طوله ، ذو صلعة كبيرة لامعة وكتفين عريضين حتى يمكن وصفه بالرجل الضخم  بكل معنى الكلمة .

ورغم انه جاوز الستين الا  انه ما زال يحتفظ بقوته وعنفوانه. ولكن لابد من التنويه هنا الى ان الجدار الذي نتحدث عنه لم يكن جداراً كونكريتيا او مصنوعاً من ألآجر، كما تظنون، فقد كان معمولاً من مواد عازلة تُصَنّع لتكوين قواطع فاصلة بين الغُرَف داخل الدور المشيدة حديثاً ، لا سيما تلك الدور التي تشيدها الدولة للعجزة ولكبار السن وللعاطلين عن العمل‫.

كان جلال يسكن في أحدى تلك الدور حيث استطاع ان يحصل على واحدة

منها بعد معاناة طويلة وانتظار مرير

“ماذا فعلت ! لقد احدثت ثقباً في الجدار !  سيطردونا من البيت بسببك”

فَكَأنَّ هذا التلف الذي احدثه في الجدار اعاد اليه صوابه ، فهدأت ثائرته ولكنه اسند راسه هذه المرّة على الجدار وصار يبكي كطفل ، حتى بدا مظهره مثيراً للشفقة، كان عبارة عن كتلة كبيرة وضخمة تبكي، وكانت هذه هي المرّة الاولى التي تراه حبيبة على هذه الحالة

‫“ كل  شئ يمكن تعويضه يا جلال ، فقط أهدأ أرجوك ، أخاف ان يصيبك مكروه ‫, هل  فكرّت ما الذي سافعله بدونك في هذه الارض الغريبة ”   ثم صارت تبكي هي ايضاً فأمسك راسها، قبله واسنده الى صدره . كان يعلم ان ما سُرِقَ منه شئ يصعب تعويضه ، ميداليات فضية وذهبية كانت هي كل ما تبقى له من حياته الرياضية الحافلة بالبطولات المكرّسة لرفع الاثقال . وبينما كان يفكر في هذه الخسارة الكبيرة شعر برائحة شعرها العطرة تنساب الى انفاسه فَسكَّنَتْ بعض من لوعته ‫.

كانت لا تزال تعتني بشعرها وتنفق كثيراً من الوقت لتسريحه وتعطيره فيضفي على سنوات عمرها الخمسة والخمسين مظهراً أكثر نضارة وشبابا .  لم تكن سرقة الميداليات بحد ذاته  ما يقلقها قدر خوفها عليه ، فقد كانت تعلم مدى تعلقه وهوسه بهذه الاشياء التي سُرقت. كان هو رجل شبابها الذي عشقته منذ صباها وفازت به دون غيرها من أترابها ممن اعجبن بفتوته .

وهنا حريٌ بنا ان نذكر بأنها حاولت طوال سني عمرها التي قضتها معه ان تعوضه عن الذرية  بمحبة تفوق الوصف ، ربما كعرفان للجميل بعد أن ظلَّ وفياً لها ، حتى بعد أن تيقن انها لا تنجب. كان ما يزال يضمها الى صدره ناظراً الى الجدار الذي عُلِقت عليه صوره القديمة بالابيض والاسود والتي تعيد الى الذكرى بطولاته الرياضية ، ولكن تلك الذكريات المجيدة في حياته بدت بلا معنى بعد ان غابت عنها تلك الميداليات التي سُرقت في وضح النهار والتي كانت تعتلي الرفوف المُسنَدة على الجدار كتيجان لانتصارات زائلة

” أين ساعة يدك؟”

قالت زوجته وانفلتت من احضانه بينما كانت عيونها تفتش عن الساعة

‫“ لقد تركتها هنا على الرفوف ، لا شك انها سُرِقت ايضا ‫“

‫“لا ادري من اين اتى هذا اللص وكيف دخل ، كنت في المطبخ أُعِد الطعام ولم

اسمع اي صوت‫”

” اُقسم لو امسكت به لقتلته ”

قالها ثم ضرب الجدار بكفه مرة اخرى فاحدث دوياً اختلط مع طرقات الباب ‫,

كان صديقه وابن بلده النابلسي ابو مازن يقف على الباب حيث جاء لزيارته، كعادته كل سبت ، وكان قد سمع من بعض الجيران إنهم قد رأوا السارق وتعرفوا عليه

” من هو ، قل لي من ؟ ”

سأله جلال بلهفه

 

‫“  أنه احد المتشردين الذين اعتادوا على التسكع هنا وهناك ، انا اعرف شكله

جيداً ، انه لا يفارق  محطة القطار‫”

“اذاً هيا بنا ، ماذا تنتظر ”

قال جلال وهو يَحُضّ صاحبه ليسرع الخطى

“انتظر الى اين تذهب ، أين تحسب نفسك !  انت هنا في استراليا ”

قال ابو مازن محاولا كبح اندفاع جلال

” ماذا تعني ، أتريد ان ندع المجرم طليقاً ”

” لم اقل هذا ولكن دع الامر بيد الشرطة وهي ستتكفل بالامور”

‫“ أي  شرطة ، الشرطة لا تستطيع ان تفعل شيئا لمثل هؤلاء،  تعال معي نبحث عنه ‫“ .

قال ذلك غير عابئ بمحاولات اعاقته ثم اردف وهو يحث الخطى

‫“ ابو مازن ، هل تتصور ما معنى ان تسرق كل ذكرياتي ، لقد سُرق وطني ووطنك من قبل واليوم تُسرَقُ اجمل ذكرياتي ، لم يعد لي شئ في الحياة لأعيش لأجله ، اني أعيش على ذكرى تلك ألايام ‫“

ولكنه ما ان قال ذلك حتى خذلته ركبتاه عن المشي فوقف ثم أقعى على الارض ووضع راسه بين فخذيه، فكأن ذكرى أيام أمجاده قد شلَّت قدماه ‫.

كان أبو مازن يعلم علم اليقين شكل ذلك اللص الذي سرق الميداليات غير إنه لم يكن راغباً أن يَبُح بالكثير لصديقه لكي يجنبه ما لا يحمد عقباه . لقد تضرعت اليه زوجة جلال ان لا يدعه يتصرف بتهور ، وهو يعلم ان قبضته ستكون مهلكة لا محالة ان امسك باللص . وأرجو ان لا يأخذنا العجب لكل ذلك الغضب الذي اجتاح جلال ، إذ يكفي ان نتصور رجل مثله يتحاشى الجميع الاصطدام به ، ثم يأتي صعلوك متشرد ويدخل بيته في وضح النهار ليسرق اعزَّ ما لديه ‫.

 

فكَّر ابو مازن ان يهادنه ويمضي للبحث عن السارق عند محطة القطار، ولكن في قرارة نفسه كان عازماً ان لا يُعرفَهُ على السارق حتى لو كان على بعد خطوات منهما ‫.  وهكذا وصلا عند محطة القطار وكانت الساعة قد قاربت على الثانية ظهراً ، وبينما كانت عيون جلال تتنقل يميناً ويساراً  منقبة في وجوه الناس كان ابو مازن يصف له ملامح اللص

” أنه طويل …ونحيف ، عيونه غائرة، شعيرات ذقنه طويله ناتئة”

” كل هؤلاء المتشردين يبدون متشابهين ، انظر الى هذا ..انظر”

واشار له الى احدهم ولكن ابو مازن نفى ان يكون هذا هو  السارق ‫.

بعد نصف ساعة من البحث والاستقصاء كان جلال قد تملكه الملل فأسقط ما بيده ، وهنا كانت الفرصة سانحة لصديقه ليعيد عليه ما اقترحه سابقاً في ان يذهبا الى قسم الشرطة لتسجيل الحادث‫.

عند قسم الشرطة استقبلهم شرطي شاب في الثلاثينات ، كان معتن بهندامه وشعره وتحدث معهم من خلف زجاج مُثقّب يفصل الشرطة عن المراجعين

‫“ هل من خدمة أؤديها لكما”  قال الشرطي فاجابه ابو مازن

“نعم يا سيدي ، نريد الابلاغ عن حادثة سرقة”

ثم بدأ جلال بعدها يسرد للشرطي قصة الميداليات وكان الشرطي يسجل في دفتر ملاحظاته ما يسمعه. أثار انتباه جلال تلك الساعة التي يضعها الشرطي حول معصمه ، كانت شبيهة بساعته فاعتراه الشك، وحين نزع الشرطي ساعته ووضعها على المكتب ليريح معصمه تبين لجلال انها ليست ساعته ، اذ كان يبدو انها ساعة غالية الثمن. دوّن الشرطي كل البيانات ثم اخذ يسأل ان كانا قد تعرفا على اللص فأخذ ابو مازن يصف له اللص

“انه أصهب ، متوسط القامة ، نحيف ، ملتحي ”

وهنا قاطعه جلال محتجاً ومتحدثاً معه بالعربية

‫“  ولكن سبق لك أن قلت لي انه طويل ، كما انك لم تذكر لي انه كان أصهب أو ملتحي ‫! ‫“

 

. كان الشرطي من اصول انكليزية ولم يفهم ذلك الحوار الذي دارَ بالعربية

” ما ألامر ؟ هل هناك مشكلة ؟”

كلا يا سيدي ، لا شئ‫””

أجاب أبو مازن ثم التفت الى جلال وكلمه

“لقد تذكرت الان ، ما المشكلة ”

بعد تسجيل وقائع السرقة طلب منهم الشرطي بعض الصور للمسروقات وقد كان جلال محتفظاً بهذه الصور في هاتفه الخلوي ‫.

انتهى الشرطي من عمله وشكرهم ثم وعدهم انهم سيتابعون الموضوع ، ولكن جلال وقف ينظر بعينين ذاهلتين ولم يغادر المكان . كان غير سعيد أن تنتهي المقابلة بهذا الشكل وتوقع  ان يكونَ رد فعل الشرطة أكثرَ حسماً فقال محتجاً

” هل سيأتي أحد من قبلكم لمعاينة مكان الجريمة ؟ ”

قال الشرطي بنبرة تخفي بعض السخرية

مكان الجريمة ‫! ‫“  ”

‫“ نعم ، بالتأكيد .مكان الجريمة ، ألا يستدعي الامر أخذ بصمات الأصابع” قالها جلال بطريقة تظهر انه غير مقتنع بكفاية الاجراءات المتبعة فابتسم الشرطي قليلا وقال

‫“ بصمات الأصابع ! كلا لا يستدعي الامر كل هذا ، سوف نتحقق من الأمر بطريقتنا الخاصة ، مع السلامة ‫“

كانت كلمات الشرطي  توحي بأنه لا يريد ان يسمع المزيد ولكن جلال كان واقفاً كالطود لا يتحرك ، رغم ان ابو مازن كان يحضه على الخروج

” ولكن يا حضرة الشرطي هذه المسروقات غالية الثمن وهي عزيزة عليّ جداً ”

” يمكنك ان تبحث عنها في محلات كاش كونڤيرتر ان شئت ذلك”

 

قال الشرطي ذلك  ثم أقفل عائداً الى الغرفة الخلفية تاركاً اياهم في صالة

الانتظار وحدهم

‫” هيا يا جلال ، لا داعي للانتظار أكثر ‫“

قال ابو مازن هذا وهو يحاول ان يتأبط جلال ليحثه على الخروج بينما كان الاخير فاغراً فمه مندهشاََ‫.

عندما صاروا خارج قسم الشرطة انبرى جلال لتقريع صاحبه قائلا

‫“ أرأيت بعينك ، هؤلاء هم الشرطة الذين صدعّت راسي بذكرِهم ، ثم ما معنى ان تغير اقوالك كل حين، مرة طويل القامة ومرة متوسط القامة ثم أخيراً هو أصهب ، ما الامر ! هل تحاول خداعي ‫“

قال جلال ذلك غاضباً ولكنه كان يعي إن خوف صديقه عليه كان هو السبب الذي جعله يخفي عليه اوصاف السارق الحقيقية ‫.

لم يتوان جلال عن البحث ولم يهدأ له بال ، فبعد ان خرج من قسم الشرطة اتجه مباشرة الى محلات كاش كونڤيرتر ، والتسمية بالانكليزية تحيل الى معنى تحويل اي شئ للبيع الى نقود ورقية . هذه المحلات معروفة للجميع في استراليا ولها فروع في كل مدن القارة، وما تتميز به  انها تبيع مواد مستعملة او مسروقة دون مسائلة قانونية، ولهذا السبب فهم يشترون من الزبائن بسعر زهيد جداََ ‫.

كان من اليسير عليه ان يجد فرع لهذه المحلات في المدينة التي يقطنها ، ولكن قبل أن يدخل المحل أوقفه ابو مازن ،الذي لم يفارقه لحظة ، واوصاه قائلاً

‫“ أسمع يا جلال ، إن وجدنا تلك الميداليات فلا تظهر للبائع انها تخصك ، فقط تأكد من وجودها وبعدها سنذهب الى الشرطة ‫“

ولكن جلال لم يرد بنعم او لا ، بل دلف الى المحل . بدا ابو مازن مضطرباً فتبعه الى داخل المحل بسرعة ، كان يخشى على صديقه ان يجد المسروقات فيندفع في تصرفٍ لا يُحمَدُ عقباه ‫.

كان المحل يعرض بضائع مختلفة . كاميرات فديو، موبايلات، اجهزة كومبيوتر ‫,

 

عدد صيد، مضارب غولف. ولكن كل هذه الاشياء لم  تُثِر انتباه جلال ، بل ما كان معروضاً خلف معرض زجاجي يحتوي على اشياء صغيرة الحجم وغالية الثمن مثل خواتم ذهبية وفضية، قلادة نسائية , تذكارات , قطع نقود اجنبية ، ساعات يدوية

“انظر الى هذه الساعات اليدوية ، هل تجد ساعتك بينها ؟”

قال ابو مازن هامساً بينما كان ينظر بحذر الى البائع الذي بدا مرتاباً منهما

‫“ كلا ‫, لا شئ ‫, هيا نخرج ‫“ .

لم يكن الامر سهلا مثلما كانا يتصوران ، وفكَّرا أن اللص قد يلجأ الى ضواحي بعيدة عن ضاحيتهم لكي لا يتم افتضاح امره بسهولة. كان جلال عازماً على البحث في احياء أخرى لولا إن اليوم كان سبت حيث تقفل المحلات مبكراً ، وهكذا خاب أمله في العثور على ضالته ، ولكن أبو مازن وعدَهُ أن يرافقه اينما يشاء وحيثما تسنح له الفرصة. على أية حال ، كان جلال يعلم إن انشغال ابو مازن بتجارته ستعيقه حتما من ان يرافقه في البحث .

وبودنا ان نتحدث قليلا عن الصديق ابو مازن ، فقد كان رجلا ناجحاً في حياته واستطاع ان يستثمر سني عمره القليلة التي قضاها في استراليا في الاعمال التجارية حتى اصبح يمتلك متجراً كبيراً لبيع العدد والادوات الكهربائية .

ومن الضروري أن نوضح هنا ملاحظة مهمة ستفيدنا في فهم شخصية جلال ‫, فلقد حاول أبو مازن مراراً وتكراراً أن يزج  بصديق عمره وابن بلدته في العمل معه ولكنه لم يفلح في انتشاله من عالمه الضيق. والواقع فأن الامر الوحيد الذي كان يحول دون انخراط جلال في العمل هو تلك الذكريات التي كانت تسيطر على كيانه وتُكبّْل حياته بالكامل ، فهو رجل لا يقدر ان يتصور ان تكون له حياة خارج ساحات البطولات الرياضية . وحتى عندما وجد نفسه بعيداً عن بلده الام وبعيداً عن تلك البطولات فقد كانت ذكرى تلك الايام هي كل سلوته وزاده الذي يتغنى ويعتاش عليه ‫.

ولا نكتم سراً اذا قلنا بأنه كان يعتقد في قرارة نفسه بأن مزاولة اي عمل تجاري مهما كان نوعه،  من شانه  ان يحط من صورة البطل التي حددت حياته. نعم ، لا نستطيع القول بأنه لم يكن يبحث عن عمل طيلة هذه السنين التي قضاها في استراليا ولكنه كان هو الذي يحدد شروط ذلك العمل الذي يبحث عنه وهو الذي يضع مواصفات المهنة التي تتلائم مع وضعه كبطل رياضي .

ومنذ حطت قدماه اول مرة  ارض بلاد الكنغارو البعيدة قبل ثلاث عشرة سنة ، وهو يحاول جاهداً ان يجداً له عملا يتناسب وكفاءاته وخبراته ، ولكن لم يكن يسيراً عليه ان يجتاز تلك الموانع والمعوقات، وكان تعلم اللغة الانكليزية واتقانها يمثل قمة هذه المعوقات التي أثبطت عزيمته ‫.

والان ، ها هو جلال يعود خالي الوفاض ،  وسوف يكرر البحث هنا وهناك في الاسابيع القادمة وسوف لن يجد ضالته ، فاللصوص في الاونة الاخيرة اخذوا يغيرون من اساليبهم وطرقهم ، ولم تعد محلات كاش كونڤيرتر هي وجهتهم ألوحيدة ‫.

كان الوقت مساءً عندما عاد جلال من جولات البحث التي صارت ديدنه في كل يوم.  وكان من الصعب طبعاً ان يرافقه صديقه ابو مازن لانشغاله بتجارته ، وهكذا كان يركب القطار لوحده دونما هدف ثم يترجل عند المحطات التي يقف عندها القطار تباعاً ، باحثاً بعيون اصابها الكلل علَّهُ يعثر على ما سُرِق منه ‫.

عندما عاد الى البيت في ذلك المساء لم يتكلم ولم يتناول الطعام . حاولت زوجته كعادتها أن تخفف عنه ، إلا انه كان زاهداً عن ألحديث . أعتكف في غرفة النوم مبكراً ، حتى قبل ان يسدل الليل استاره ‫,  فكَأن ذلك اليوم كان فاصلاً بين مرحلتين ، إذ قرر ليلتها أن يَكُف عن البحث وأن لا يعود لزيارة محلات كاش كونڤيرتر اللعينة التي أخذ يتقزز منها،  كما لم يعد يطيق حتى ان يُذكِره احد بما جرى‫.

لم تنفع محاولات زوجته في الايام التي تلت في أن تعيد اليه مزاجه وضحكاته الصاخبة التي افتقدتها منذ حادثة ألسرقة. حتى صديقه ابو مازن لم يستطع ان يخرجه من عالمه ، فكأن تلك الميداليات التي سُرِقَت قد اخذت معها شطراً من حياته لا سبيل لاستعادته. لقد توقف عن الحديث عن  تلك الامجاد والبطولات التي كان يرويها لصحبته وأحبته مراراً وتكراراً ، فكأن تلك الذكريات قد شُطِبت من حياته والى ألابد ‫.

كان يبدو عليه انه يذوي ويتقدم في العمر بسرعة كبيرة ، وعبثا كانت محاولات زوجته  في أن تعيد اليه حيويته . كان يردد مع نفسه دائماً وعلى وجهه ابتسامة حزينة ، انه سُرِق مرتين ‫.

وفي أحد تلك الايام الصعبة التي قاست فيها زوجته الوفيه حدث ما لم تكن تتوقعه او يخطر على بالها. خرج جلال من اعتكافه الطويل ثم اقترب من زوجته التي كانت جالسه الى مائدة الطعام لوحدها . وكانت قد دأبت في الأيام الاخيرة أن تهيأ الطعام وتنتظر ليخرج اليها من حجرة النوم حتى يشاركها الاكل وليته كان يفعل ذلك . ولكنه  الان يقف امامها بعيون ذابلة وقلب كسير ، وقفت فَرِحة ودعته ليأكل ولكنه امسك براسها وقبَّلَهُ ثم احتضنه محنياً جذعه الطويل ثم قال لها بحنان

“سامحيني يا حبيبة ، لقد أتعبتك معي كثيراً”

“تعبك راحة لي يا عمري ”

ثم احتضنته ووضعت راسها بين ذراعيه كحمامة وديعة وفي عيونها ترقرقت الدموع فرحاً ثم اردفت

“كل شئ يمكن تعويضه، لا تشغل فكرك كثيراً ”

‫“ لقد ظلمتك معي طيلة هذه السنين، اوجعت راسك ببطولاتي وامجادي بينما كنت غافلاً عنك، لقد رفضت كثيراً من الفرص في أن أعمل واجتهد لأوفر لك حياة هانئة بينما كنت منشغلا  عنك بنفسي  ، كم أنا نادم ، كنت انظر الى نفسي

دون غيرها ، كم كنت أنانياََ ‫“ ‫.

قال ذلك ثم انسل من احضانها وخرج من البيت قبل ان تلاحظ دموع الندم في

عينيه، وحينما خرجت وراءه لتناديه كان قد غاب عن ناظريها.

رابط مختصر…https://arabsaustralia.com/?p=16626

ذات صلة

spot_img