مجلة عرب أستراليا سيدني – العملات الرقمية Crypto Currencies-بين الايجابيات والمخاطر القومية
بقلم بروفسورة وديعة الاميوني – باحثة اجتماعيّة واستاذة جامعيّة
ظهرت العملات الرقمية أو المشفّرة في المجتمع المعاصر بعد تطوّر الشبكة العنكبوتية والاتصالات، ورواج مفاهيم العولمة والانفتاح الاقتصادي العالمي؛ وتتنوّع إشكالياتها نظراً لارتباطها باختصاصات مختلفة مثل الهندسة والتكنولوجيا والاقتصاد والقانون والسياسة، ويتسّم التعامل بها بقلق حول تبدّلات وتغيّرات سريعة تتصل بأسباب تقنية وغير تقنية في الوقت عينه، مثل السعر والأهمية والعرض والطلب والاحوال السياسية والاقتصادية على المستوى العالمي.
راجت العملة الرقمية منذ سنوات بشكل كبير في المجتمعات المتقدّمة، ووصلت الى لبنان مع تقدّم ملحوظ في الاقبال عليها خلال العامَين الاخيرَين، خاصة بعد الازمة المالية وحالة الافلاس والانهيار الاقتصادي التي تعاني منها البلاد. وعليه،نلقي الضوء هنا بهدفزيادة الوعي حولها واستكشاف أبعادها المختلفة وسلبياتها وإيجابياتها.
ما هي العملة الرقمية؟
العملة الرقمية افتراضية ذات أصول رقمية بحتة، أهمّها عملة البيتكوينBitcoin . تعتمد على مبدأ “الند للند” Peer – to – Peer وتُستخدم كوسيط للتبادل، ويمكن الاستثمار فيها حيث تعتمد قيمتها على العرض والطلب ومدى الثقة بها.هي مفتوحة المصدر ولامركزية لها، أي لا يوجد سلطة مركزية تسجّلها أو تضبط عملها، وتبقى مجهولة المالك Anonymous على رغم أنَّ عناوين ملكيتها عامة ومتاحة، ولكن يصعب التعرّف على اصحابها.
تختلف العملات الرقمية عن مثيلاتها الالكترونية لجهة لامركزيتها وتوزيعها العام والكامل Fully Distributed، ويرتكز معيار المفارقة هنا على مسألة الوصول الى العملات وقيمتها ومعرفة “الزبون” والإنتاج والمصدر والتنظيم والضبط. كل ذلك ولا يمكننا إطلاق صفة النقد Money عليها لتبقى عملة Currency تتطلب أصول قانونية ومحاسباتية. فالنقود تخضع لثلاث وظائف أساسية، أوّلها توفّر وسيط للدفع Medium of exchange ومخزن أو مستودع للقيمةStore of Value ووحدة حساب Unit of account، ولها قيمة بذاتها مثل الذهب والفضة.
تبقى البيتكوين أشهر العملات الرقمية وأوّلها، وتتميّز بخصائص الأموال المتمثلة في الصمود وقابلية التحمّل والتبادل والندرة وقابلية القيمة وسهولة التعامل، وهي تتنامى مع المستخدمين والتجار والشركات الناشئة، وتستمّد قيمتها حصرياً من الراغبين في قبولها كطريقة للدفع.
ظهرت البيتكوين في عام ۲٠٠۸كوظيفة تشفير Cryptographic hash بهدف تسوية بعض التبادلات الافتراضيّة، ويؤرّخ بعض الباحثين أنّها تأسّست بدافع إيجاد نظام بديل لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية التي حصلت حينها، وذلك من قبل شركات كبرى مثل سامسونج Samsung وتوشيبا Toshiba وموتورولا Motorola. وظهرت عام ۲٠۱۱ عملة رقمية أخرى باسم لايتكوينLitecoin وايثيريوم Ethereum عام 2013وصولاً إلى آلاف العملات عام ۲٠۲۱ الحالي، حيث بدأت الدول تهتم بها بعد تحقيق النجاح وازدياد حجمها عالمياً.
يبقى لكل عملة رقمية خصائص فريدة ومختلفة في طرق التشفير والتنقيب، بل تحتاج إلى حواسيب وتقنيات خاصة في بعض الأحيان. أمّا طريقة عمل العملات الرقمية فتبدأ من خلال تحديد محفظة رقمية Wallet Software لكل متعامل، وتخزّن العملة في ملفات مشفّرة أو سجل المعاملات Ledger ويتمّ تسجيل كل معاملة لدى جميع المستخدمين، وبذلك يتجدّد أساس المعاملات باستخدام تقنية التشفير والتوثيق والتوقيع الالكتروني في نظام افتراضي إداري لامركزي، باستثناء تكنولوجيا التشفير والتنسيق Blockchain. إنها نظام تبادل قائم على الإتّفاق الطويل أو القصير المدى وفق نظام نقاط متعارف عليه بين طرفين أو أكثر دون الحاجة إلى وسطاء، حيث يستطيع المستخدمون الإطّلاع على جميع التعاملات على اللوحات الالكترونية التي يمكن وضعها في أمكنة عامة (بأسماء غير حقيقية) مع حراسة التشفير.
كيفية الحصول على العملات الرقمية
يمكن الحصول على العملات الرقمية من خلال طرق عدة مثل الشراء أو الاقتناء، من خلال الأصدقاء أو بعض محلات الصرافة أو الوسطاء المعروفين على منصات عامة أو خاصة. كذلك من خلال بيع سلع وخدمات مقابل عملات رقمية، أو التعدين والتنقيب (Mining)، كما يمكن لكل فرد إطلاق وتأسيس عملة رقمية جديدة. ويُقصد بالتعدين أو التنقيب عمليات حسابية رياضية حاسوبيّة معقّدة وليس عملة معدنية يتمّ اقتناءها. فالتعدين يتمّ من خلاله التأكّد من المعاملات وإضافتها إلى اللائحة وإصدار بيتكوين جديد، ويمكن لأي شخص أن يقوم به من خلال الإنترنت والأجهزة المناسبة.
أما عن تأسيس عملة رقمية جديدة، فيتطلّب الأمر خطوات عدّة تبدأ باستهداف جمهور معين لبناء وتغذية العملة الرقمية الجديدة، ثم البدء في برمجتها من خلال وضع كود Code جديد أو تعديل كود برمجي لعملة سابقة، وصولاً إلى ابتكار شبكة متعاملين من خلال التسويق والبحث عن مستثمرين.
مزايا العملة الرقمية
يبقى المستخدمون أكثر المستفيدين من العملات الرقمية مقارنة بمصدر هذه العملات، وترخي مزايا عدة على مستوى الأفراد والمجتمع والمنظومة الإقتصادية. فالفرد يستطيع فتح حسابه الافتراضي مجاناً بسهولة ودون قيود، وإجراء التحويلات دون ضرائب ورسوم والمعاملات والتبادلات بسرعة كبيرة وكلفة منخفضة مع توفّر شرط السرية المطلقة والبعد عن الرقابة، كل ذلك في ظل نظام لامركزي بعيداً عن تدخّل ورقابة وصلاحيّة الجهات السياسية والرسمية في الدولة، وعن محاولات وإمكانيات التزويد التي تطال الأوراق النقدية. والجدير ذكره هنا، ان الإقبال على احتواء العملات الرقمية في لبنان فاق التوقعات خاصة بعد فقدان الثقة بالنظام الإقتصادي والبنوك والإنهيار الحاصل في الفترة الأخيرة. هذا ونضيف ان شبكة Visa و Tesla سمحوا بالدفع وفق العملات الرقميةولكناستناداً الى شروط معقّدة.
عيوب العملات الرقمية
يحتاج نظام العملات الرقميّة إلى توفّر تكنولوجيا اتّصالات موثوقة وخصوصاً شبكة الإنترنت، كما يصعب مراقبة التعامل والتلاعب بها ممّا يجيز فرضيّة استخدامها لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب والجريمة المنظّمة،الامر الذي يؤدي إلى تداعيات وخيمة على مستوى الأمن القومي من خلال تعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي للمجموعات الإرهابية والإجرامية. هذا ولا تتوفّر إمكانية ضبط السوق النقدي من خلالها والتجارة الدولية، إضافة إلى مخاطر القرصنة والإختراق الالكتروني للحاسوب أو المحفظة. ففي عام ۲٠۱۷ تمّ سرقة محفظة إفتراضية قيمتها ٦٤ مليون دولار أميركي (ما يعادل وقتها ٤۷٠٠٠بيتكوين) من شركة Nice Cash في سلوفانيا. كذلك أفلست شركة Mt Gox للسبب عينه.
تزيد قيمة العملات الرقمية في العالم اليوم، وتصلقيمة البيتكوين الواحدة في لبنان على سبيل المثال الى حوالي 54,000USD، وهي تتأثّر نزولاً وصعوداً بالمعطيات السياسية والاقتصادية العالمية، ويمكن تجزئتها مثلاً لأضعاف عدة مثل شراء0,5بيتكوين بقيمة 26,000 USD او 0،25الخ، ولا نعلم اذا مااستخدمت الى حد اليوم كوسيلة لتهريب او تبييض الاموال.
وفي منحى آخر، نروي حادثةتدل على الزيادة الكبيرةلقيمةالعملة الرقمية في المجتمع المعاصر مقارنة مع السنوات الماضية نظراً للطلب الكثيف عليها،حصلت مع رجل أمريكي عام 2010 حيث دفع 10.000 بيتكوين مقابل قطعتي بيتزا، وهي تساوي اليوم ملايين الدولارات.
الواقع القانوني
لا يوجد الى حد اليوم تشريعات وقوانين واضحة لمسألة التعاطي في العملات الرقميّة، وقد أدّت الضبابيّة على هذا المستوى عام 2017 الى تعطيل تداول عملة البيتكوين في تونس، وأثارت قلقاً في المغرب على النقد الأجنبي والدرهم،وأوقف القطاع المصرفي التعامل بها في مصر. كذلك انعكفت جهات معنيّة بتنظيم الأسواق في كوريا الجنوبية على فحص ستة بنوك تقدم للمؤسسات خدمة فتح حسابات بالعملات الرقمية عام 2018. هذا وحرّم الموقف الشرعي التعامل بها في كلّ من مصر وتركيا وفلسطين، وتتخوّف كلّ من روسيا والصين وبنغلادش وبوليفيا من استخدامها، في حين ان الإقبال عليها يتزايد في دول أخرى مثل أوكرانيا وأمريكا والدانمارك وهولندا والسويد وكندا والإمارات وغيرها الكثير، خاصة الفئة من نوع Bitcoin و Ethereum .
وأخيراً نقول، انه يجدر الأخذ بعين الاعتبار الأبعاد المختلفة للعملات الرقميّة في لبنان وإجراء الدراسات العلميّة الجادة للتعرف على مخاطرها والوعي بها. فالبعد القانوني يتطلّب دراسة مشروعيّة هذا النظام الاقتصادي الافتراضي الجديد مع طرح مخاطر السرقات والتلاعب والسلع الممنوعة مثل السلاح والمخدرات وإيجاد النصوص والقوانين المعاقبة. إضافة إلى إثارة البُعد الاقتصادي والنقدي لمعرفة دور هذه العملات في المنافسة والتنمية والتنظيم وطرق الإصدار وتأثيرها على التوازن والتضخم الاقتصادي.
أمّا البُعد الإداري فيجدر التطرّق إليه بهدف معرفة آثار العملة الرقميّة المشفّرة على التجارة والأنظمة الماليّة، كما البُعد السياسي والاجتماعي لمعرفة أثرها على مستوى الأفراد والدول. أمّا البعد الأخير الذي يجدر الالتفات نحوه، فهو المجال التقني الذي تفرضه المعاملات الرقمية وظهور مجالات تكنولوجيّة جديدة أصبحت بمثابة تخصص ومصدر للدخل؛ وبالتاليوضع مجموعة من التوصيات التي تطال مخاطر تداول العملات المشفّرة من قبل البيئة القانونيّة والاقتصاديّة لابراز ايجابيات وسلبيات استخدامها، وتبيان دور العملة الرقمية الحقيقي في الحياة الاقتصادية،مع الاستفادة الايجابيّة من تكنولوجيا التشفير تقنياً واقتصادياً، إذا ما وُجدت لتعود بالنفع على الوطن اللبناني.
رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=16908