مجله عرب استراليا – سدني – ادونيس –البشر كلُّهم في جهة، والوباءُ الكورونيّ في جهة، إلّا في العالم العربيّ الإسلاميّ: شعوبُه كلُّها، غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، مأخوذةٌ بإبادة بعضها بعضاً، أفراداً وجماعاتٍ وفي مختلف الميادين.
والكورونا بينهم وحولهم «على الله!»
أهي «آيةٌ» إلهيّةٌ، أم ماذا؟
أيّاً كانت الإجابة، نرى أنّ «المَصالِحَ» مهما كانت صغيرة اليوم، هي التي تُهَيمِنُ على «القضايا» مهما كانت كبيرة. وهي مَصالِح ترتبط عمَلِيّاً بالسّلطة والمال، وتبالِغ في بَسْطِ هَيمَنتها حتّى أنّها تكادُ أن تطمسَ الحضورَ الإنسانيَّ نفسَه، وتُحِلُّ محلَّه الحضورَ الآليّ.
الليبراليّة الجديدة في صورتها الأميركيّة هي قائدةُ الأوركسترا في جوقاتِ هذه الهيمنة «الثقافية»، بتجلّياتها جميعاً، مَوْضوعةً في «الكيس» الإعلاميّ الذي تسهر عليه هذه الليبراليّة، باسم العَوْلَمة. وهي، كما تؤكّد التجربة، عَوْلَمَةُ الابتذال الذي يقوم على تمجيد السّوق والكَمّ، وعلى تمجيد الآلة والشّيء.
إنّها «الوَباءُ الكَوْني» الذي يتقدّم في غَزْوِهِ وزَحْفِه الجَديدَين، لكي يُحوِّلَ الآلةَ إلى إله!
مهما كانت الآراء والتساؤلات متنوِّعةً ومتباينة حول العولمة، هذه العولمة، فمن الممكن القول إنّ المشكلة العميقة التي تثيرها واحدة، وكان قد أشار إليها سابقاً ثلاثة مفكّرين فلاسفة، كلٌّ بطريقته:
هيدغر، في مفهوم «الجشطالت»،
هابرماس، في مفهوم «تقنويّة العِلم» أو «تصنيع العلم»،
ليوتار، في مفهوم «ما بعد الحداثة».
وتعني هذه المفهومات الثلاثة أمراً واحداً:
تحقُّق الميتافيزيقا في الحياة اليوميّة، أو بعبارةٍ ثانية، قد تكون أكثر إيضاحاً: ما وراء الطّبيعة هو الآن الطبيعة نفسها.
كأنّ السّماء هبطت فعليّاً على الأرض، وها هم جنودها يملأون الشوارع، رقباءَ وحُرّاساً، ويتهيَّأون لفتوحاتٍ بلا نهاية.
بلى، كأنّ الغيبَ (الخيال) صار هو نفسُه الواقع. فتحقُّقُ الميتافيزيقا هو الآن ساطِعٌ في «وول ستريت» و«البنتاغون» كما يقول ليوتار.
التّمجيد الذي أشَرْتُ إليه، تمجيد الآلة، تمجيد السّوق والكمّ والشّيء، آخِذٌ في إيغالِه الفتّاك: تدمير الأرض ـــ رَحِماً وولادةً، في مختلف الحقول، وتدمير العلاقات، تبعاً لذلك، بين الإنسان والطّبيعة، فضاءً ونوراً، غذاءً وكساءً، ماءً وهواءً. وها هي الأرض، الكوكَبُ الأجمل، تكاد أن يمسخَها أبناؤها في مَعازِلَ ومَحاجِرَ وكهوفٍ:
مستودَعاتٍ للتقنية وآلاتها، معسكَراتٍ للغَزْو والنّهْب، حاويات للنّفاياتِ من كلِّ نوعٍ، بدءاً بالنِّفايات الذّرّيّة. وليس هذا كلّه إلاّ تدميراً للإنسان نفسِه، وتدْميراً لهذه الليبراليّة وقادَتِها: لعلّهم يُدرِكون آنذاك، وإنْ بعدَ فَواتِ الأوان، أنّ السيِّدَ «هنا» ليس في «جوهرِهِ» إلّا عَبْداً.
يقدِّم الفضاءُ الاستراتيجيّ العربيّ وثرواتُه لهذا العبد ـــ السّيّد إمكاناتٍ كبيرةً لكي يملأ السّاحةَ الكونيّة، بالتّماثيل المتنوِّعة للعجْلِ الأسطوريّ الجديد، العجْل المَنْحوتِ بذهبٍ أسودَ هذه المرّة ـــ حيث تتمثّل القوّة، والطّغيان، والبطْش، وحيث «تُطْبَخُ» المغامرات والفتوحاتُ والهَذَياناتُ الكُبرى من كلِّ نوع.
العَجَبُ هنا، وهو ما يجب أن يلاحظَه ذوو البصيرة، يكمنُ في ذلك «السرّ» الذي «يُوَحِّدُ» بين «الآلةِ» و«الإله»، بين خطاب «الآلة الواحدة» وخطاب «الإله الواحِد». وهو خطابٌ مُؤَلَلٌ (من الآلة) ـــ لا ضدَّ الطّبيعة وحدها، وإنّما أيضاً ضدّ الإنسان في كينونتِه وجوْهَرِه.
والعجَب يكمن أيضاً في أنّ أصحابَ هذا الخطاب «يجهلون» أو «يتجاهلون» كيف أنّهم يُقدِّمون بلغتهم ذاتِها وحِبرِهم ذاتِه صورةً لإلهٍ يكره البشر ويعمل على إبادتهم واحداً واحِداً. وأنّهم بفعلهم هذا، يُلوِّثون السّماء كما يُلَوِّثون أختَها الأرض.
نعم، لا يقدر الإنسان بوصفِهِ إنساناً، وبفعل حضورِه الخلّاق على كوكبِنا الأرضيّ، أن يُديرَ ظهرَه لِما يفعلُه «أخوه» الإنسانُ ـــ الآلة.
لا يقدر أن يفعل كما فعل أورفيوس: يُديرُ ظهرَه لحبيبته أوريديس، تارِكاً حبَّهُ وحيداً، في الجحيم. وماذا، إن كان صادِقاً، يقدر أن يفعل بعد أن «يترك» حبَّه لهذا المصير الجحيميّ؟
ماذا يمكن، إذاً، أن نفعلَ خِلافاً لِما فعلَه أورفيوس؟ وهو سؤالٌ أطرحُه، فيما يزدادُ «عالَمُ الآلة» كمالاً، ويزدادُ «عالَمُ الإنسان» نقصاً. فيما يزدادُ الأوّلُ سيادةً وهَيمَنةً، وفيما يزدادُ الثاني عبوديَّةً وعَجْزاً. كأنّ الإنسانَ في ضَوءِ ذلك يبدو حقّاً أنّه «يتّجِهُ نحو المستقبل، سائراً إلى الوراء» وفقاً لعبارة بول فاليري.
أنجز الغربُ الأوروبيّ ـــ الأميركيّ ثلاثَ ثورات علميّة ـــ تقنيّة،
تُوَجِّه القرنَ الحادي والعشرين وتخلع عليه طابعها.
1. الثورة الكمّيّة التي أدّت إلى التحكُّم في المادّة، وإلى نشوء أشكالٍ للحياة نفسِها تُعرَف للمرّة الأولى. وهي ثورةٌ أنْهَتْ على صعيدها الخاصّ المعرفةَ اليونانيّة.
2. الثورة الإلكترونيّة التي أسّسَت لعالَمٍ معرفيٍّ جديد.
3. الثورة الحَيَوِيَّة ـــ الجُزَيئيّة (البيو ـــ تقنيّة)، وهي التي أخذت تتحكَّم الآن في الحياة نفسها بأشكالٍ مُتَنوِّعة تستجيب، كثيراً أو قليلاً لرغبات البشر.
هذه الثورات خلخَلَت اليقينيّات كلّها، وتوَلَّدَت عنها مشكلات «خَلق الإنسان نفسه» وتعميق الفوارق بين الناس (الجينات والكيمياء البيولوجية، تهديد حريات الفرد، والحريات المدنيّة، الثورة الإلكترونيّة) وهي مشكلات تطرح أسئلةً كثيرة على الإنسان نفسه، سواء كان مُلْحِداً أو مؤمِناً. خصوصاً أنّها ربطت العلم بمتطلّبات الاقتصاد والسّياسة، وبمنطق السّوق.
لم يشارك العرب في أيّة ثورةٍ من هذه الثورات. الحياة العربيّة ـــ اقتصاداً وثقافةً وسياسةً، هي برمّتها نتاجٌ غربيّ. ـــ وقد بدأ الغربُ الأميركيّ ــ الأوروبيّ، بإعادة إنتاج الدين نفسه، سياسيّاً و«ثوريّاً».
ويمكن وصف حالةِ الشعوب العربيّة، اليوم، بأنّها لا تزال، منذ أربعة عشرَ قرناً، حالةَ «أطفالٍ» يعيشون في بلدانٍ ليست إلّا «دورَ حضانةٍ» تسهرُ عليها السياسةُ الدّينيّة، تربيةً وتعليماً.
وفي هذا ما يفسّر سُباتَ «الثّباتِ» العربيّ، ويفسِّرُ أنّ ما يتغيّر في «دور الحضانة» هذه هو «المعلِّمُ» وحده. والأفضل في هذا «التغيير» هو أن يكون المعلّم الذي يخلفه «مثله» تماماً، ويسير على نهجِه تماماً. وهو ما يفسِّرُ أيضاً أنّ ما يُسَمّى بـ «المعارضة» ليس إلّا «قفا» الصّفحةِ ــ الحاكمة. وغالباً ما يكون هذا القفا، أكثرَ سوءاً بكثير ممّا سبَقَهُ.
تاريخ العرب الحديث على الأقلّ، منذ الانقلاب العراقيّ في القرن الماضي 1958 حتى الانقلابات الربيعية الحديثة، شاهدٌ لا يمكن تكذيبه.
لكن، مع هذا كلّه، للعرب حضورٌ «مادّيّ» ضخمٌ كَمّاً عَدَدِيّاً، وفضاءً استراتيجيّاً، وثرواتٍ اقتصاديّة وماليّة. غير أنّ هذا كلّه «لا يملكه» العرب:
بعضُ الغرب يملكُ بعضَه، وبعضُه الآخر يتسابَقُ على مُلْك بعضه الآخر المتبقّي أو الخفيّ! وهذا كلُّه بسببٍ من تبعيّتهم له على نَحْوٍ شبه مطلق، وفي جميع الميادين.
هذه ظاهرة لا مثيلَ لها في تاريخ الشعوب.
لماذا، لماذا، لماذا؟
وما تكون الأجوبة إذا طَرَحْنا، مثلاً، في هذا الأفق أسئلةً من هذا النّوع؟
1. ما النَّمَطُ العقلانيّ ـــ الثّقافيّ عند العرب، أسوةً بالأنماط العقليّة ـــ الثّقافيّة، في بلدان الغرب والشّرق؟ والتي أسهَمَت في بناء الحضارة الحديثة؟
2. لماذا لا تَسمح السلطةُ الدّينيّة، بصياغة مواقف عقلانيّة ثقافيّة، أو قِيَميّة ـــ أخلاقيّة في مَعْزِلٍ عن الفقه، وتتمَأْسَس في الحياة اليوميّة، ـــ في البيت والمدرسة والشارع والجامعة والسّلطة، ولماذا لا تعترف بسلطة العلم، و«حقائقه»؟
3. ما يكون دَوْرُ العرب، معرفيّاً، وعلميّاً، وأخلاقيّاً، في مصير النّوع الإنسانيّ نفسه، بدءاً من «خلق» الذّكاء الاصطناعيّ و«خلق» الإنسان الآليّ؟ وهل سيبقون في «دور الحضانة» أم يخرجون منها، وكيف؟
تلك الأسئلة أُعيد طرحَها، في المقام الأوّل، على أنفسنا نحن العرب الذين ننتِجُ للوحشيّة الليبراليّة الغربيّة، ذلك «العجلَ الأسودَ» الذّهبيّ، نفطاً (وغازاً)، والذي هو وفقاً لعبارةٍ بريختيّة، على الأرجح، «عصير الجثث»، جثث المعادن المتنوِّعة في أعماق الأرض، والذي يتحوّل في المُمارَسة إلى «عصير جثثٍ بشريّة» يسيل دافِقاً دامِياً على وجه الأرض.
وأحبّ أن أُضيف سؤالَين أطرحهما على الأفراد الخلّاقين الأفذاذ العرب، وهم كُثْرٌ في جميع المَيادين، كما قلت وكرّرْتُ في مناسبات سابقة، خصوصاً أنّهم إلى ذلك يرثون ثقافةً تقوم على أسُسٍ نبويّة لاهوتيّة.
السؤال الأوّل هو:
ـــ ما الفرق في فعل العبادة ذاته، بين أن يتوجّهَ به الإنسانُ إلى حجرٍ (تمثالٍ، صَنَم)، أو إلى «صورة»، أو إلى «فكرة» أو إلى «عجلٍ ذهبيّ» أو «عجلٍ نفطيّ»؟
ما الفرق خصوصاً، إذا كنّا نُؤمن حقّاً بأنّ الإنسان «حيوانٌ عابد»؟ وهل يمكن تحديد الإنسان بأنّه لم يُخلَق إلّا لكي يعبد مَن خلقَه؟ وهل هذه مسألة محلولة، أم أنّها مسألة للبحث، أم أنّها لا هذه ولا تلك؟
والسّؤال الثّاني هو التّالي:
ـــ لماذا يُعذّب أو يقتل الإنسانُ الإنسانَ انطلاقاً من مُعتَقَدٍ خاصّ هو غالباً دينيّ ـــ عنصُريّ؟
علماً أنّ الطّبيعة لا تُعذّبه. وأنّ ما وراء الطّبيعة لا يعذّبه أيضاً، وأنّ أسبابَ شقاء البشر ليست إلهيّة، وليست شيطانيّة، وأنّها تصدر عن الإنسان ذاتِه، ومنه هو ذاتُه.
لماذا يسكتُ عن ذلك أهلُ الأديان أنفسهم، خصوصاً عندما يسكت عنه أهلُ السلطة والطّغيان والمال، أو يمارسونه هم أنفسهم؟
وسؤالي الأخير:
لماذا لا يكون شقاءُ الإنسان الشّغلَ الشّاغلَ الأوّل للإنسان، إذا كان إنساناً حقّاً؟
وبأيِّ عَدْلٍ إذاً أو دينٍ يمكن العربيّ اليوم، أن يكره الفكرَ أو التعقُّلَ العلمانيّ، أو الحقوق المدنيّة، أو الحرّيّات، أو يقبل بعدم المساواة بين الرجل والمرأة، أو بثقافة التّكفير؟
أليس هذا كلّه رفضاً للإنسان ذاته؟
رابط مختصر –https://arabsaustralia.com/?p=9601