مجلة عرب أستراليا سيدني – بيروت لما رأيتها !
بقلم كايد هاشم
في ذكريات الطفولة والصبا أطياف من أماكن أحببتها، ورغم أن ما بقي منها في الذاكرة لا تفتأ السنون ربما تقضم منه شيئاً وتباعد بينه وبين الحاضر ما وسعها ، إلا أن استرجاعها قد يمنح الذاكرة بعض حيوية ويستعيد ما كنت أظنه نسياً منسيا، وقد استشعر ما أقوله بعض الأصدقاء الذين تمنوا عليّ أن أكتب ما في الجعبة من ذكريات السفر من باب التبسط في الحديث، والاستراحة من الكتابات التي تقتضي جهداً مختلفاً أقصد كتابة الدراسات وما تقتضية من مناهج البحث وجهد التفكير والتنقيب، ولكل كتابة على أي حال رونقها ومتعتها.
على طريق الشام – بيروت
بيروت والشام في وجداني أوّل اللهفة إلى الفرح في عهدي الطفولة ومطلع الصبا، ومبتدأ تفتح الوعي على دنيا مختلفة في مصباح الذكريات؛ الصورة الساحرة النابضة التي تتكون من الأبخرة الملونة بألوان زاهية الخارجة من ذاك المصباح كأشرطة حريريّة تتماوج صاعدةً بلحظات وأشواق حنين لا تغيب عن الخاطر، تتجلّى قصراً ملوّناً بالفرح يحتويك لتجري في أبهائه كطفلٍ كانت والدته توقظه وأخويه الأصغرين في أحد الصباحات الباكرة من أوائل أيام عطلة الصيف المدرسية، وأحيانا في صباح شتائي من إجازة منتصف العام الدراسي، وربما في سانحة من أيام الربيع، توقظنا استعدادا للسفر إلى الحلم الدائم .. الشام وبيروت !
ذلك الاسم المقرون برحلة سفر له رنين حلو كان يجعلنا نهبّ من الفراش بنشاط على غير العادة دون تلكؤ، وكأن دعوة الاستيقاظ هي لرحلة في الخيال على بساط الريح، أو مركبة فضائية تأخذنا إلى كوكب آخر وجولة بين الأقمار والكواكب في الفضاء !
سريعاً نتأهب للسفر ويدبّ فينا النشاط والقوة السوبرمانية لنتسابق على محاولة حمل حقيبة جلدية كبيرة أو اثنتين – حسب مدة الرحلة – تحتويان ملابس العائلة وغالباً ما تكونا أكبر منّا حجماً وأثقل وزناً من وزن أي واحد فينا نحن الصغار على كل حال، نشدُّ الأيدي على الحقيبتين فيما يكون والدنا يصعد بهما وبنا سلم الدرجات القصير نحو الباب الخارجي للمنزل في شارع الخيام بجبل اللويبدة، ليتناولهما منه أبو جهاد سائق السيارة الأميركية الكبيرة من نوع “شيفروليه”، من سيارات “مكتب تكسي الرشيد”، التي ستقلّنا إلى بيروت، ويضعها بحركة خفيفة في صندوق السيارة الخلفي!
صباح هادىء في عمّان
يتخذ الوالد مقعده إلى جانب السائق ويشعل سيجارته “البلايرز” ذات الرائحة التبغية الأخاذة، فيما نحن الصغار والوالدة نحتلّ الكرسي الخلفي، وتروح السيارة تخترق في الصباح الهادىء شوارع عمّان الخالية متجهةً شمالاً مرورا بالبقعة وجرش، وصولاً إلى أقصى الشمال حيث مدينة الرمثا والحدود الأردنية – السورية .
وما أن نغادر مركز الحدود السورية في درعا ونحن ندلف في الطريق نحو دمشق، حتى يزداد التوق إلى الوصول، أين الشام؟ ونعني بالشام دمشق، وتأخذ احتجاجاتنا الطفولية شكل تساؤلات : أين البحر؟ هل بيروت بعيدة من هنا ؟
يضحك السائق الطيب أبو جهاد ويدعونا إلى أن نصوِّب أنظارنا إلى الأمام لأن البحر سيظهر بعد قليل، وأتهجّى لأخوي الأصغرين اللافتات التي تحمل أسماء بعض الأمكنة التي نمرّ بها على طريق الشام .. “السويداء”، “الصنمين”، “الشيخ مسكين”.. وننتظر أن تظهر لنا لافتة مكتوب عليها “بيروت” لكن انتظارنا يطول … فنوجِّه بدافعٍ من فضول معرفة طفولي السؤال إلى السائق عن معاني هذه الأسماء، ولماذا لا نرى هذا الشيخ مسكين واقفا أو ماشيا على الطريق !؟
وبدوره يسأم أبو جهاد من كثر أسئلتنا، فيستطرد في أحاديثه عن غرائب السفر على هذه الطريق وعن أحوال العرب بعد هزيمة ١٩٦٧، وعن أمجاده في سياقة السيارات وخاصة أيام العواصف الثلجية، وكنّا نراه بعين نزقنا أبطأ في السياقة من سلحفاة تُغالب النعاس!
لم يكن الوالد يبدي ضيقاً من أحاديث السائق الذي أمضى نصف عمره يجوب طرقات السفر ويكتفي بالابتسام والاستماع، فيما الوالدة تحلّ حيناً مشكلات التعدّي على حيز الجلوس في السيارة بيننا، وتحثّنا على أكل قطع التفاح المقشَّر التي أعدتها لرحلة السفر، أو تتفقد أحدنا وقد غلبه النوم فتنقله إلى حجرها، فتخفّ حدّة الخلاف على أولوية الجلوس قرب النافذة بعد أن نام طرف في الخصومة، لكنها ترقب كقوات السلام استتباب الأمن لكي لا يعبث من جلس قرب النافذة بباب السيارة أو يخرج رأسه من النافذة ليطوح به في الهواء المندفع بشدة في الخارج !!
ندخلُ دمشق وتنجلي أمام أعيننا شيئاً فشيئاً حركة الناس، ومناظر الحدائق ونهر بردى والمباني الجميلة القديمة والحديثة … يوقف أبو جهاد سيارته ناحية ساحة المرجة، ومع تعدد الرحلات أصبحنا نحن الصغار ندرك أن المسافة إلى بيروت باتت قريبة، وأن هناك بعض الباعة في تلك الناحية بدمشق الشام يبيعون زجاجات المشروب الغازي المُثلَّجة أو ما كان يطلق عليه “الكازوز” بألوان البرتقالي والتوتي والأصفر، وغيرها … ولا بد أن نُبلل ريقنا ونطفىء العطش بطعمه اللذيذ، وفي كل مرة كنّا نغتنم الفرصة لنبحث بين السائرين في الشارع عن “غوار الطوشة” و”حسني البورظان” و”أبو صياح”، أو عن صدفة تقودنا إلى ” مقهى الانشراح” و”حمام الهنا” حيث كانت تدور أحداث المسلسلين الشعبيين الأشهر في تلك الأيام والتلفزيون آنذاك بالأبيض والأسود .
تعود السيارة للانطلاق عبر طريق دمشق – بيروت وصولاً إلى المصنع مركز الحدود اللبنانية، وبعده شتورا وزحلة، ولا بد من التوقف في شتورا لشراء ساندويتشات “عرايس اللبنة” بخبز “التنور” اللبناني، وليس ألذّ من طعم لبنة شتورا وخبزها ذاك !
وما أن تبدأ السيارة في النزول من ضهر البيدر باتجاه رأس بيروت حتى يلوح البحر بزرقته اللازورد كأنه بعض سماء تتهادى أسفل الجبل، فيصرخ أبو جهاد كطفل : وصلنا بيروت!
فيروز ووديع الصافي والمطر
في النزول من ضهر البيدر نحو بيروت يبدو البحر أنه أول مَنْ يستقبل إطلالة المشتاق، تحتفي زرقته الممتدة إلى الأفق البعيد بقدومك، وكأن المنازل والفلل بأسقفها القرميدية الحمراء وألوان حجارتها المقدودة من صخر عراقة وسط خضرة الجبل على جانبي الطريق زهور تفترش طريق الزائر، وكل زائر في هذا السحر عاشق وتلميذ في مدرسة الجمال حين تشترك الطبيعة والإنسان في إبداعه !
لطالما كنت مأخوذاً بهذا المنظر الذي ارتسم في مخيلتي منذ ذلك الحين ولم يفارقها مدى الخمسين عاماً الماضية من العمر، وخاصة حين يرتسم في رحلات الشتاء إلى بيروت مع الغيم السخي وحبات المطر المنداحة على زجاج نوافذ السيارة، وصوت فيروز أو وديع الصافي أو نصري شمس الدين على موجات الإذاعة اللبنانية يلتقطها راديو السيارة بشيءٍ من التشويش المطري وتأثير الرياح، لكنك لا تفقد طعم الصفاء فيه، ولا لذّة النغم في أجواء أسطورية آسرة تزيدها فرحة الوصول إلى بيروت سحراً على سحر، وتنعش الخيال والحواس بآيات من الروعة وسعادة اللحظة !
قصر الموسيقار وزمان يا حبّ
تتمهل السيارة ويشير السائق إلى مجموعة من الفلل والقصور على منحدر يبعد عن جانب الطريق بمسافة غير قليلة: هناك قصر فريد الأطرش، ويصمت .. تمضي السيارة نحو رأس بيروت وما يزال تساؤلنا: أين هذا القصر بالضبط ؟ .. في كل زيارة إلى بيروت يتكرر السؤال، ولا نعرف أي من المنازل المتناثرة على الجبل التي تتراءى لنا هو قصر الموسيقار، وأروح أرسم في خيالي صورة ذلك القصر كلما شاهدت فيلماً لفريد الأطرش وخاصة فيلم “زمان يا حب” مع زبيدة ثروت سنة ١٩٧٣، وفيلم “نغم في حياتي” مع ميرفت أمين وحسين فهمي سنة ١٩٧٤/ ١٩٧٥، أذكر أنني قرأت في مكان ما أن أحد الفيلمين أو ربما كلاهما يتضمنان لقطات صورت في ذاك القصر!
كان أحد الأقرباء من شدّة إعجابه بفن فريد الأطرش يصفه بأنه “ابن العم”، وكنت على صغر سني أعتقد أنه قريبنا حقيقةً، وأتساءل لماذا لا نزوره عندما نذهب إلى بيروت !؟
الحمرا والروشة والبحر
لا يطول الوقت حتى نصل إلى “أوتيل الحمرا” حوالي منتصف النهار أو بعده بقليل، وتسبقنا الحقائب إلى جناح كان والدي حجزه على الهاتف مسبقاً باتصال من عمّان . نتحجَّج بأي حجة من حقوقنا المشروعة بعد رحلة حُشِرنا فيها داخل سيارة لمدة ست أو سبع ساعات على الأقل، للخروج سريعاً حتى لا نلبث في الفندق أكثر من نصف ساعة .. نريد رؤية البحر الآن .. دعونا نذهب إلى محل الألعاب الكهربائية في شارع الحمرا .. وآخر الحجج إذا وجدنا تلكأً : جعنا خذونا إلى مطعم .. لكن مدير الفندق المهذب شارلي الذي التهمته الحرب كما قيل لنا بعد ذلك، رحمه الله، يسارع إلى إرسال الضيافة .. القهوة للوالدين و”كوكا كولا” لنا نحن الصغار، فيمضي حوالي الساعة قبل أن ننطلق إلى شارع الحمرا نذرعه قليلاً قبل أن نتخذ طريقنا إلى الكورنيش .. نُصرّ على المشي نحو الروشة، نستعجل الوالدين ونحن نتقافز أمامهما .. لهواء بحر بيروت لمسة انتعاش تزيل تعب السفر وتدعو قسمات الوجه إلى الانبساط .. وبين ازدحام عالم كورنيش بيروت بالسائرين من أهلها ومن اختاروها سكناً ومقاماً، فضلا عن زوارها .. ومراقبة أمواج البحر وهي تعلو وتهبط تغازل الصخور وحاميتها صخرة الروشة (صخرة الانتحار) التي يجذبك منظرها ورمزية استمرار الحياة في صمودها الدهريّ والقوارب تمر تحتها عبر ما يشبه بوابتها، ويقلقك ارتباطها بالانتحار وما فيه من معاني اليأس ومأساوية نهاية الحياة !
وبين الكزدرة وسط بسطات الباعة الجائلين، وعربات الذرة المشوية والآيس كريم والمرطبات، وبعض من يتقنون ألعاب خفة اليد، وهواة صيد السمك ينزلقون على الصخور القريبة من المياه .. بين كل مظاهر المهرجان الدائم على الكورنيش، يمضي اليوم سريعاً حتى يبسط الظلام رداءه على البحر وفوق الأرض، لكن أضواء بيروت ومنارتها البحرية تبدده ويحلو السهر …
أن تذرع عالماً بدراجة صغيرة !
كنت في كل زيارة مع الوالدين إلى بيروت خلال أواخر الستينات وحتى سنة 1975، أقود حملة صغيرة مكوّنة منّي ومن شقيقي الأصغرين، لمطالبة والدينا بالذهاب إلى أماكن ترضي رغباتنا الصغيرة بالحرية في معقلها فور أن تطأ أقدامنا رصيف شارع الحمرا، وأذكر منها – عدا البحر أو شارع الكورنيش – حديقة الصنائع، والسبب في قصدها أن نستأجر من محل كان بقربها دراجة هوائية بنصف ليرة أو أقل – لمدة ساعة في كل مرة، وكان صاحب هذا المحل كأنه مُراقب الحديقة أو حارسها أيضاً، وقد يفاجئك في ممراتها قبل انتهاء الساعة ينادي عليك بالعودة لتسليم الدراجة، إذا سِرتَ بها فوق المساحات أو الأحواض المزروعة بالنباتات أو المغطاة بالنجيل الأخضر، أو حاولت أن تستعرض مواهبك البهلوانية وأديت مشهداً سينمائياً في قيادة الدراجة بسرعة وتهور وضايقت المتنزهين المارين أو اللائذين بظلال الأشجار الجميلة المنسقة بذوقٍ مبدع يدعوك إلى تذوق جمال الطبيعة وسط المدينة.
في كل الزيارات لم أرتكب أو أحد أخوي شيئاً من هذه المخالفات وربما غفل أحياناً صاحب محل الدراجات عن خروجي من حدود الحديقة لأكتشف ما هو خارجها بفضول طفولي فأجد والدي – رحمه الله – يعدو خلفي … كنت أتخيل بيروت عالماً يمكنني ذرعه على الدراجة الصغيرة !
والمهم أننا كسبنا ثقة صاحب المحل وأصبح يعرفنا ويتغاضى عن التأخير لبعض الوقت في إعادة الدراجة أو الدراجتين المستأجرتين، فنستمتع ولا نزهد في الجري “بالبسكليت” في أرجاء الحديقة، والوالدان يرقباننا من مسافة غير بعيدة .. هذه المراقبة العائلية لم نحسب حسابها، لكنها لم تحرمنا من متعة المغامرة و”الصنائع” الحديقة هي التي تعلَّمت فيها بالتجربة الساذجة حب الطبيعة واحترام الأشجار وكل ما هو أخضر حي، ولا سيما في رحلات الربيع التي كانت النزهة فيها كما نزهة في الجنة بنظرنا، خاصة عندما تأتلق شمس العصارى في سماء بيروت، وأفواج المتنزهين من أهل البلد والسياح كأنهم في صحبة أشعتها الرقيقة في بيت الأسرة الكبير يتناثرون على المقاعد، وشيء من الهدوء يخيِّم على المكان يشرح النفس ويهدهد تعب المتعبين، ويرأف بالمتأملين والسارحين بأفكارهم والسائرين بين أشجارٍ وظلال تختزن قصصاً وأحاديث وضحكات وأصداء أصوات جاءت يوماً إلى هنا ..!
ذكَّرتني بهذه المشاهد لقطات من فيلم “حبيبتي” لفاتن حمامة ومحمود ياسين شاهدتها على يوتيوب مؤخراً، وكانت صُوِّرت في هذه الحديقة سنة 1974 كما قرأت من معلومات عن هذا الفيلم، الذي أخرجه هنري بركات، ووضع موسيقاه التصويرية الياس رحباني بمعزوفة يعشقها كثيرون من أبناء جيلي والبعض يعرفونها باسم “عازف الليل” المسلسل التلفزيوني الشهير لهند أبي اللمع وعبد المجيد مجذوب.
السوق والصيف و”الجلَّاب”
المكان الثاني الأثير الأسواق القديمة ومنها سوق الطويلة وسوق سرسق، والوصول إليهما تبرره رغبة الأهل في التسوق من متاجرهما التي كانت البضائع فيهما من الأقمشة والملابس أسعارها معقولة ولها جودتها المرغوبة، ونعد نحن الصغار مكافأتنا من مرافقتهم في رحلة التسوق المضنية لنا، أن نتوقف في داخل سوق سرسق لنتناول شراب “الجلاب” من عربة أو عدة عربات في وسط ساحة صغيرة، وإحدى هذه العربات تحمل كومة وافرة من الثلج المبروش يجرف منها البائع كمية تملأ شيئاً من الكأس الزجاجي النظيف ويصب عليه الشراب العنابي اللون ويضيف إليه بضع حبات من اللوز المقشور والمنقوع في الماء البارد، ثم يمنحك إياه لتطفىء ظمأ القيظ في أيام الصيف .. وقد تستزيد من هذا الشراب اللذيذ، وغالبأً ما استزدنا وعدنا لنتناوله وسط عجقة السوق وتزاحم رواده حول عربات “الجلاب” الفخمة … ولكن يوم عدت إلى بيروت قبل بضع سنوات لم أعرف المكان الذي كان فيه سوق سرسق إذ اختفى نهائياً، وما زلت منذ ذلك الحين أشعر بالظمأ إلى أجمل أيام عشتها … وكانت أيام !
رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=18632