مجلة عرب أستراليا سيدني- في اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلِّف-الكتاب والتحدّي الحقيقي لبناء الإنسان الكتاب والتحدّي الحقيقي لبناء الإنسان
بقلم الكاتب كايد هاشم
عَمِلَ التحول الرقمي السريع، الذي أصاب الثقافة والمجتمع بتأثيراته المباشرة كما أصاب المجالات الأخرى، على استقطاب الاهتمام والانشغال بالوسائل التكنولوجية الحديثة وما تقدمه من أشكال وأوعية متنوعة لتقديم المعرفة، والتسلية، وإمكانات التواصل مع الآخرين بجاذبيات مختلفة، تشترك في تلقيها أكثر من حاسة من حواس الإنسان في آن، مما جعل هذه العملية بخصائصها التفاعلية عملية ثرية حسيّاً؛ بصرياً وسمعياً وأحياناً صوتياً، عدا التحكم بعرض المادة وتحريكها أو تصفحها، والاتصال بروابطها والانتقال بينها عن طريق جهد بسيط متمثل بالضغط على أزرار «الكيبورد» أو باللمس المباشر للشاشة الإلكترونية على جهاز الهاتف الخلوي الذكي.. كما جعلها نوعاً من التجارب المثيرة التي تنطوي على سهولة استخدام وسرعة وصول إلى محتويات الشبكة العنكبوتية، تُرضي غريزة الاكتشاف لمناطق في الفضاء الافتراضي ولا سيما تلك التي تقع في خانة المجهول والبعيد عن الأعين في الواقع الحقيقي، بما لهذا الفضاء من سعة تتجاوز حدوداً مختلفة ربما أبسطها الحدود الجغرافية، وأخطرها حدود الخصوصيات والحريّات ومنها الحريّات الشخصية.
هذا التحوّل بأبعاده لم يكن تحدياً مقتصراً على وسائط الثقافة الإلكترونية في مقدرتها التوسعية على حساب مساحات الوسائط التقليدية، وإنما بدأ ينعكس بشكلٍ متواتر على مفاهيم الثقافة وفلسفتها ومصادرها وموثوقية هذه المصادر، الأمر الذي خلخل كثيراً من المفاهيم التي كانت استقرت على مدى عصور سابقة، وزعزع هيبة تقاليد هيمنت في الماضي على النشر الثقافي والتلقي والتوجيه، حين أصبح محتوى الوسائط كما لو أنه مشترك بين خليط من المصادر المتباينة في كل شيء، في معلوميتها ومجهوليتها، وفي اتجاهاتها وغاياتها، ونخبويتها وعاميتها، والأخطر من ذلك في أساليب الاستقطاب والإيحاء ولغة الخطاب ورموزها التي تخدم رسالتها مهما كانت أغراضها. وأصبح على العالم أن يعمل بسرعة وبأكبر قدر من الجهد لوضع مقاييس جديدة للتعامل مع ظواهر هذا التحدي المتباينة أيضاً في إيجابياتها وسلبياتها المفتوحة على نطاقات متداخلة؛ ثقافية واجتماعية وتكنولوجية واقتصادية وسياسية.
وحين نتناول – بمناسبة اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلِّف – الظواهر التي طرأت على الكتاب في عصر الثورة المعلوماتية بوصفه مُنتَجَاً ثقافياً معرفياً أصابته الخسارة والتراجع في وساطته الورقية، مقابل اكتسابه من خلال وساطته الإلكترونية لمزايا يُسر الاستخدام ومحسناته تقنياً، مع اتساع الانتشار وسرعة الوصول إلى القراء واجتياز الحواجز والحدود بأشكالها المادية والمعنوية.. ينبغي ألا يغيب عن الأذهان والأفهام أن المحتوى الذي يتضمنه الكتاب ليس خارج تحديات التأثير التكنولوجي عليه وعلى نوعيته ونوعية الجمهور المستهدف، وكذلك على أسلوبه الخطابي وصياغته ومواءمته في تقديم المعرفة مع الوعاء الإلكتروني الذي يحتويه، فَسِمة التلقي هنا تغدو السرعة أو قل العجلة في تحصيل المعرفة وقابليتها لإفادة هذا المتلقي ذهنياً دون أن نغفل تلبية حاجات استثمار المعلومات عملياً، وصقل المهارات في التعامل مع تكنولوجيا سريعة التطور والتغيّر في بُناها وتعددية وسائلها المتاحة واستخداماتها.
حصيلة هذه المتغيّرات مجتمعةً تدعو إلى تفعيل وتطوير دور قواعد البيانات المتعلقة بالقراءة وواقعها واتجاهاتها في منطقتنا العربية وعلى أُسس من العمل الثقافي المؤسسي العربي المشترك، الذي يشارك فيه المجتمع المدني والحكومات جنباً إلى جنب،لضمان استمرارية التجاوب مع التطورات المتسارعة في جوانب التكنولوجيا وأدواتها وتأثيراتها، والأهم رصد طرق التأثير في العقول والمشاعر والكيفية التي أصبحت تتشكل فيها مقومات ثقافة العصر، ودخول مفاهيم العولمة واقتصاد السوق على الثقافة كمجال يُستثمَر لخدمة وتعزيز مفاهيم التسويق والاستهلاك والإيحاءات التي تخدم نزعات رأسمالية بقدر كبير يطغى على كون القراءة قيمة للوعي وتنمية العقل والتفكير والتحليل واستيعاب التحولات ومنطلقاتها، على نحو يكفل الإسهام في بناء الإنسان وحفظ حقه في المعرفة والحصول عليها، وعلى المهارات التي تمكنه من حفظ كيانه الإنساني ومكوناته، وبالتالي مشاركته في حركية المجتمع نحو التقدم الحضاري وصناعة المستقبل من واقع حاجاته وحاجات مجتمعه، وليس وفق هياكل من خارج بيئته الاجتماعية الثقافية والتراثية، تبث رسائل مصممة لخدمة غايات صانعيها مهما كانت هذه الغايات.
ورغم أن هناك أرقاماً وإحصاءات واستطلاعات تظهر بين حين وآخر من جانب مؤسسات ومراكز بحث ومنظمات دولية وأجنبية، وأحياناً عربية، تتناول نِسَب القراءة ونشر الكتب في العالم العربي، إلا أننا ما زلنا نفتقد على هذا الصعيد إلى البيانات والدراسات القادرة على صنع المؤشرات الحقيقية الدالة على ما يحتاجه المتلقي عبر الوسائط الإلكترونية من محتوى ثقافي ومعرفي يُعيد ما انقطع بين الإنسان العربي وثقافته، وفي الوقت ذاته توفير مرجعيات استثمار التكنولوجيا في التطوير الثقافي الذي لا يلغي هُوية الإنسان ولا يفصله عن جذوره، ويضمن له القدرة على التعامل مع متغيرات العصر وتحدياته بكفاءة ذهنية ومرونة مهاراتية وفهم على ذات المستوى الذي تكون عليه التحديات.
حينذاك يمكننا أن نطلق الأحكام المعيارية على أحوال القراءة وحجم الإقبال والانتشار القرائي للكتاب العربي بصورة شمولية واسعة الأفق، لا تقف عند جزئيات لا تفصح عن حقيقة الواقع الثقافي وجوهر ظواهره، كأن يكون الإقبال في سوق الكتاب مثلاً على الروايات أو المذكرات والسِّيَر دليلاً مجرداً وحده على أن القراءة بخير، أو أن طباعة كميات بالآلاف من كتب قد تكون جامعية أو لغايات دراسية معينة معناه تحقق انتشار للكتاب، فالتعميم هنا غير موضوعي، فيما التخصيص مطلوب في مناهج دراسة أوضاع الكتاب وتصنيفات المحتوى ونشره وانتشاره ومستويات القراءة وأنواعها، من أجل تكوين الصورة العامة لتفاعلات الثقافة وأدوارها في بناء المجتمع وتمتين الجسور بينه وبين نتاجات العقول والفكر والإبداعات في عصر المعرفة والرقمنة.
رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=23139