مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة غدير بنت سلمان
ومن الحُبِّ ما قَتَل — حين يتحوّل النور إلى قيد
قيل قديمًا: “ومن الحب ما قتل” — ولم تكن مجرد عبارة شعرية، بل كشف مبكر عن الوجه الآخر للحب حين يخرج عن توازنه، ويتحوّل من طاقة خَلقٍ وشفاء، إلى طاقة تملّكٍ ودمار.
لكن هل الحب هو السبب؟ أم الجهل بطبيعته، وبأبعاده، هو ما يقتل؟
الحب، في أصله، ليس خطرًا.
إنه اللغة الأم بين الأرواح.
ولكن عندما يُشوَّه، أو يُفهم من بُعدٍ واحد، يتحول إلى مرضٍ نفسي، أو إدمانٍ عاطفي، أو سجنٍ روحي.
فلنفهم معًا: ما هو الحب؟ لماذا قد يؤلم؟ وكيف نعيد له توازنه؟
أولًا: ما هو الحب في جوهره؟
الحب ليس فقط شعورًا رقيقًا ولا انجذابًا جسديًا.
بل هو حقل طاقيّ واسع، يمتد عبر ثلاثة أبعاد متداخلة:
الحب الطفولي (الغريزي):
حيث نحتاج ونطلب. الحب هنا أشبه بالصراخ الداخلي: “أحبني، أنقذني، املأ فراغي.”
هو حب النفس الجائعة، لا الناضجة.
الحب العقلي (الاختياري):
حيث نفكّر ونختار من نحب بناء على معايير ومفاهيم، وهو أكثر توازنًا من الأول، لكنه قد يكون مشروطًا ويخضع للتقييم والانسحاب بسهولة.
الحب الروحي (المتعالي):
هنا يصبح الحب مرآة للحق. لا تملك فيه الآخر، بل تتحرّر معه. هو اتحاد لا يلغي الفرد، بل يُنمّيه.
هو الحب الذي لا يطالب، بل يُنير.
ثانيًا: متى يُصبح الحب قاتلًا؟
عندما يُختزل في بُعدٍ واحد — خصوصًا البعد الطفولي — دون أن يرقى لوعي التوازن، فإنه يتحوّل إلى:
تعلّق مرضي:
نريد الآخر بأي ثمن، لا لذاته، بل لنملأ خواءنا الداخلي.
غيرة سامة:
نخلط بين الحب والتملك، فنكتم أنفاس الآخر خوفًا من فقدانه.
حب مشروط:
نمنح عاطفتنا فقط حين تُلبّى احتياجاتنا، فنُدخل الحب في معادلات البيع والشراء.
نزيف الروح:
حين لا يُبادلك الطرف الآخر الحب، لا تُصبح مجروحًا فقط، بل تبدأ بالذبول تدريجيًا لأنك علّقت حياتك عليه.
هنا يظهر الصراع:
هل أترك؟ أم أُقاتل؟ أم أُدمّر نفسي؟
وفي كل الحالات… يُصبح الحب أداة قَتل — قتل للهوية، للكرامة، وللحياة.
ثالثًا: التفسير العلمي للخلل في الحب
من وجهة نظر علم النفس وعلم الأعصاب:
الحب يطلق الدوبامين والأوكسيتوسين — هرمونات السعادة والتعلّق.
ولكن، عند الانفصال أو التهديد، ينخفض هذا التدفق فجأة، ويظهر الكورتيزول — هرمون التوتر.
الجسم يدخل في حالة تشبه أعراض الانسحاب من الإدمان.
نعم… الحب غير المتوازن يُشبه الإدمان.
كلما اعتمدت على الآخر ليمنحك “المعنى”، زاد احتمال الانهيار حين يغيب.
رابعًا: كيف نعيد الحب إلى توازنه؟
ابدأ بالحب الداخلي:
لا أحد يستطيع أن يملأك إن كنت خاويًا.
ابحث عن مصدرك الحقيقي، لا عن مرآتك في الآخر.
ادخل العلاقة بك، لا بجرحك:
لا تبحث عن أحد ليُصلحك.
بل كن شريكًا واعيًا لا مريضًا خائفًا.
تعامل مع الحب كأرض مقدسة:
لا تلوثها بالتحكم، ولا تُطفئها بالتوقعات.
فالحب الحق، لا يُطالَب به… بل يُحترم ويُرعى.
افهم متى تنسحب:
ليس كل حبٍ يُكمل.
أحيانًا، الحب الصادق، هو أن تنسحب بسلام، لا أن تبقى مكسورًا باسم الوفاء.
خامسًا: الحب بوصفه اختبارًا وعيًا
في القرآن، يقول الله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} المودة قبل الرحمة…
أي أن الحب الحق، يبدأ بمشاعر الرفق، لكنه لا يكتمل إلا برحمةٍ تتقبّل ضعف الآخر وتغفر وتتجاوز.
الحب الناضج لا يقتلك.
بل يُحييك.
لا يُقيدك.
بل يُحرّرك.
ختاما : الحب كما أراده الله
الحب طاقة خَلق، لا قيد.
رسالة نور، لا ساحة صراع.
فإن وجدتَ نفسك تذبل في علاقة، تُهان، تُخون ذاتك…
فاعلم أن هذا ليس حبًا، بل استغلال لاسم الحب.
الحب في فلسفة الواقع الواعي ليس هروبًا من الوحدة، ولا اندماجًا يفقد فيه الإنسان ذاته،
بل هو حالة توازن مقدّسة
يتناغم فيها العقل حين يُدرك،
والقلب حين يشعر،
والروح حين تشهد وتحتوي.
فإذا اختلّ واحد من الثلاثة…
تحوّل الحب من نورٍ يُحيي، إلى نارٍ تُفني.
لكن حين يتّسق الثلاثة،
يُولد الحب كما أراده خالق الاكوان :
رحمة… ونجاة
ومن الحب ما قَتَل…
لكن من الحب أيضًا، ما يُبعث فيك من جديد.
فاختر نوع حبك، كما تختار نوع حياتك.
رابط النشر- https://arabsaustralia.com/?p=42381