مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة غدير بنت سلمان
هل وقفت يومًا أمام مرآة الوجود، وسألت نفسك: لماذا أنا هنا؟ ما المعنى من هذه الحياة التي تبدأ وتنتهي بلا تفسير كافٍ؟
منذ لحظة وعي الإنسان الأول، ظل سؤال «لماذا؟» يلاحقه كالظل، وكلما تطلّع إلى السماء باحثًا عن إجابة، قابله صمتٌ مهيب. صمتٌ جعل الفلاسفة يتأملون، والأنبياء يتضرّعون، والشعراء يبكون.
هكذا ولدت فلسفات موجعة لكنها صادقة، مثل العبثية والعدمية، لا من رغبة في الهدم، بل من أمانة التجربة.
في عالم يزداد تشظّيًا، وجد البعض في العدمية مرآةً لخيباتهم. اعتقدوا أن الحياة بلا قيمة موضوعية، وأن مصائر البشر تنتهي أمام كوكب بارد لا يأبه بأحلامهم.
أما العبثية، كما صاغها ألبير كامو، فهي الوعي بالتناقض: بين توق الإنسان إلى معنى، وصمت الكون المستفز.
ليست العبثية سخرية سطحية، بل صراع داخلي مرير مع «ما لا يُعقل».
وحين عجزت الأجوبة الجاهزة عن إرواء ظمأ الوعي، لجأ الناس إلى هذه الفلسفات — بعضهم وجد فيها خلاصًا من الزيف، وآخرون اتخذوها محطة للتمرد والخلق.
فلم يكن كامو يدعو للموت، بل للتمرد.
ولم يُنكر نيتشه انهيار القيم، بل طالب بإعادة بنائها.
أما جان بول سارتر، فجعل من عبثية العالم فرصة لتحمّل مسؤولية الاختيار والوجود.
اليوم، يزداد حضور هذه الأفكار في وعي الشباب.
ليس لأنهم أكثر كسلًا، بل لأنهم أكثر صدقًا في طرح السؤال:
ما فائدة التفوق في عالم مقلوب؟
ما جدوى الالتزام في حضارة تتآكل من الداخل؟
يصنع البعض من الألم نكاتًا سوداء، وكأن الضحك صار وسيلتهم الوحيدة لتثبيت أقدامهم على أرض رخوة.
بينما آخرون سقطوا في عتمة الاكتئاب أو العزلة، حين اكتشفوا أن السؤال لا يجد جوابًا إنسانيًا مُرضيًا.
ومع ذلك، تبقى هناك قلوب اختارت أن تصنع من العبث بدايةً.
لم يُنكروا العدم، بل رفضوا أن يستسلموا له.
رسموا لوحات، كتبوا شعرًا، تأملوا بصمت، أو زرعوا شجرة في أرض قاحلة كمن يعلن:
“أنا هنا، ومعنى حياتي هو أن أكون”.
وهكذا، يمكن تجاوز العدمية، لا بإنكارها — فهذا ضعف — بل بالاعتراف بها كمحطة حتمية في رحلة الإنسان نحو وعي أعلى.
يمكننا أن نخلق معنى من العدم، كما يخلق العاشق أغنية من صمته، وكما يخطّ الحزين قصيدة من دمعه.
المعنى ليس هبة من الخارج، بل فعل داخلي.
كل لحظة حب، كل كلمة صدق، كل عمل فيه بذرة نور — هو تمرد على العدم.
في النهاية، العبثية والعدمية ليستا خطيئة.
إنهما صرخة الإنسان وهو يواجه عري هذا الوجود.
لكن الخطيئة الحقيقية، أن نموت أحياءً.
أن نستسلم.
أن نختار الصمت حين يُطلَب منا أن نحيا.
كما قال كامو:
في أعتم اللحظات… توجد بذور الأمل.
وأضيف:
وفي أبرد الأكوان… يمكن أن يولد قلبٌ ساخن.
رابط النشرـ https://arabsaustralia.com/?p=43091