spot_imgspot_img

إصدارات المجلة

العدد 55

آخر المقالات

الدكتور طلال أبوغزاله ـ تفويض عالمي لتحقيق العدالة في فلسطين

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الدكتور  طلال أبوغزاله لقد تحدثت جنوب...

عباس مراد ـ الذكرى الخمسون للانقلاب الأول في تاريخ أستراليا منذ الاستيطان الأبيض

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتب عباس مراد قبل ستين عاماً...

الدور الأسترالي في تعزيز الأمن في جنوب المحيط الهادي

مجلة عرب أسترالياـ بقلم د. نور عماد تركي الملخّص تؤدّي...

راجي زيتوني ـ الاكتشافات العلمية بين ظلال الحلم وومضات الذات  

مجلة عرب أسترالياـ بقلم المهندس راجي زيتوني   في أولى صفحات...

غدير بنت سلمان ـ فلسفة آية الظل ــ بين المدّ والسكون كوعيٍ يتكوّن

spot_img

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة غدير بنت سلمان

فلسفة آية الظل ــ بين المدّ والسكون كوعيٍ يتكوّن

هل الظلّ مجرّد ظاهرة ضوئية؟ أم أنه كتابٌ مفتوح يعلّمنا كيف يُبسط الوعي في حركة الزمن ثمّ يستقرّ في سكون الحقيقة؟

في قوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا}، ليس الحديث وصفًا جوّيًا بقدر ما هو هندسةٌ روحية للوجود: ظلّ يتمدّد ليُرى، وسكونٌ ممكنٌ لو شاء الحق، وشمسٌ شاهدة تهدي الظلّ إلى أصله. هنا قراءةٌ معاصرة للآية كمنهج يقظة، لا كذكرى ماضية.

1) الظلّ: المسافة الحيّة بين الحقيقة وصورتها

الظلّ هو المسافة بين النور والمادة؛ بين الجوهر الذي لا يُرى والصورة التي تُرى. كلّما اقتربنا من النور قلّ الظل، وكلّما ابتعدنا طال واتّسع. بهذا المعنى، نحن في رحلة تقليص الظلال: نزيل المسافات بين ما نعلمه في أعماقنا وما نعيشه في سلوكنا اليومي. الظلّ ليس نقصًا يُحتقر، بل فصلٌ تعليمي من كتاب الوعي؛ فيه نتعلّم بالمتناقضات: نور/عتمة، قرب/بعد، حضور/غفلة.

2) المدّ: بسط التجربة كي يتعلّم القلب

“مدّ الظل” هو أن تُفسَح للتجربة مساحةٌ تتحرّك فيها الأفكار والمشاعر والاختيارات. الامتداد هنا ليس عبثًا، بل مختبرٌ تربوي يدرّبنا على التمييز. لو جُعل الظل ساكنًا منذ البداية لتوقّفت الحركة، وذوى السؤال، وجمُدت الحياة عند صورة واحدة.

المدّ هو رحمة؛ لأنه يسمح بنضجٍ تدريجي: نسير خطوةً فخطوة، نخطئ فنتعلّم، نقترب ثم نقترب. إنه الزمن حين يصبح رَحِمًا للوعي.

مثالٌ محسوس: في الصباح يكون الظلّ طويلًا. بداية كلّ مشروع تشبه ذلك: نرى العقبات أكبر منّا. مع ارتفاع شمس الخبرة يقصر الظلّ؛ تتقلّص المخاوف لأن النور اتّسع في الداخل.

3) السكون: قرار الحقيقة بعد اكتمال الدرس

“ولو شاء لجعله ساكنًا” إعلان قدرة، لكنه أيضًا إشارة إلى الغاية: أن يصل الوعي إلى سكونٍ لا بلادة فيه ولا ركود، بل طمأنينةٌ بعد اكتمال الفهم. السكون الحقّ ليس تعطيل الحركة، إنما حضورٌ لا يتقلّب مع كلّ ريح. هو استقرار الميزان في القلب: لا إفراط في الظلال ولا تفريط في أسبابها، بل مقام يرى الأشياء على قدرها.

مثالٌ محسوس: متدرّبٌ على العزف يبدأ بمدّ التمرين: أصابع مضطربة وأخطاء متكرّرة. فإذا ملك القاعدة سكن الإيقاع في يده وقلبه؛ الحركة باقية، لكن روحها استقرّت.

4) الشمس دليلًا: وعي أعلى يهدي وعيًا أدنى

لا يُعرَف الظل إلا بمرجعٍ أعلى يُقاس عليه. جعل الله الشمس دليلًا، أي إن لكلّ ظلٍّ معيارًا من نور. في المعنى الوجودي: يحتاج وعينا الجزئي دائمًا إلى نورٍ مرجعي، قيمةٌ كبرى، مقصدٌ أسمى، حقيقةٌ لا تتبدّل — نقيس بها تحرّكاتنا اليومية. حين يغيب المرجع يبتلع الظلّ الشكل، وحين يحضر ينكمش الباطل أمام الحقّ كما ينكمش الظلّ عند قيام الظهيرة.

مثالٌ محسوس: مرآةٌ غير نظيفة تشوّه الصورة. تنظيفها ليس خلقًا للنور من العدم، بل إزالة عوائق تمنع مَشاهِدته. القلب كذلك؛ يتجلّى فيه الدليل كلما صُقل.

5) المدّ والسكون كخريطةٍ عملية للنهار الإنساني

  • في الفكر:
  • المدّ: توسيع السؤال، قراءةٌ ونقاش، سماعٌ لوجهات نظر.
  • السكون: موقفٌ موزون بعد البيان، لا تردّدًا ولا عنادًا.
  • في السلوك:
  • المدّ: تجريب منضبط، تعلّم من الخطأ.
  • السكون: عادةٌ مستقرة منسجمة مع القيم.
  • في العلاقات:
  • المدّ: مساحةٌ للحوار والاختلاف.
  • السكون: ميثاقٌ واضح يحفظ الكرامة والحدود.
  • في العبادة والروح:
  • المدّ: مجاهدة النفس، تطهير النيّة.
  • السكون: طمأنينة اليقين حين يثبت القلب على الحق.

6) أمثالٌ تُضيء الطريق

  1. البذرة والنخلة:

البذرة في الأرض ظلٌّ للنخلة القادمة. تمدّ جذورها في الخفاء ثم تسكنُ شامخة. المدّ تهيئة، والسكون ثمرة.

  1. الموج والبحر:

الموج حركةُ بحرٍ ساكن في عمقه. من تعلّم الحكمة لم يخف الموج؛ لأنه يعرف قرار الماء.

  1. المهندس والبناء:

المخطط امتدادٌ احتمالي، والهيكل سكونٌ مُتحقّق. لا قيمة لسكون بلا تصميم، ولا لمدّ بلا هدف.

7) قواعد للوعي المستقيم بين المدّ والسكون

  1. اجعل لك شمسًا مرجعيّة: قيمة عليا تُقاس بها تفاصيل يومك. من لا شمس له يبتلعه الظلّ.
  2. افتح مساحةً آمنة للتجربة: مدٌّ منضبط لا فوضى؛ تعلّم بلا تهوّر.
  3. اختر لحظة السكون بوعي: قرّر متى تثبّت الهدف كي لا تبقى أسيرًا لتردّدٍ لا ينتهي.
  4. صَفِّ المرآة دومًا: التزكية ليست انقطاعًا عن العالم، بل تنظيفٌ يُحسن الرؤية فيه.
  5. وازن بين التغيّر والثبات: طوّر الوسائل، وثبّت المقاصد.

8) نحو بيانٍ يختم الدرس

الظلّ هو لغة الكون لتعليمنا: الامتداد ليس تشتّتًا إذا كان على هدي الشمس، والسكون ليس موتًا إذا كان ثمرة البصيرة. حين نفهم آية الظل نرى العالم بعيْنٍ جديدة: نعرف متى نمدّ لنتعلّم، ومتى نسكن لنشهد.

خلاصة القول:

  • المدّ: زمن تتربّى فيه البصيرة.
  • السكون: مقام تستقرّ فيه الحقيقة.
  • الشمس: الدليل الذي يحفظ التوازن بينهما.

فلنمشِ تحت شمسٍ نقية، نقلّص ظلالنا ونحن نتقدّم، حتى إذا استقام النهار في قلوبنا سكن الميزان، وهدأ الكون فينا، وصرنا على قدر كلمة الحق.

رابط النشر- https://arabsaustralia.com/?p=44554

ذات صلة

spot_img