spot_imgspot_img

إصدارات المجلة

العدد 53

آخر المقالات

غدير بنت سلمان ـ ومن الحُبِّ ما قَتَل ـ حين يتحوّل النور إلى قيد

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة غدير بنت سلمان ومن الحُبِّ...

أبو غزاله العالمية تقاضي حاكم مصرف لبنان السابق

مجلة عرب أسترالياـ أبو غزاله العالمية تقاضي حاكم مصرف...

عباس مراد- عرض لكتاب بشارة مرهج “ما لم ترى عين” جذور الانهيار الاقتصادي في لبنان

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتب عباس علي مراد في مجموعة...

أ.د. عماد شبلاق ـ ومن كان يرجو لقاء (ضيوفه) فليعمل عملاً صالحاً!

مجلة عرب أستراليا ـ بقلم أ.د. عماد وليد شبلاق...

غدير بنت سلمان ـ فلاسفة عصر التنوير المظلم: حين يُفتن العقل ويُقصى الضمير

spot_img

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة غدير بنت سلمان  

في القرنين السابع عشر والثامن عشر، شهدت أوروبا ما سُمّي بـ”عصر التنوير”، حيث ساد الاعتقاد بأن العقل والعلم هما مفتاحا الخلاص من قيود الجهل والخرافة والظلم. غير أن هذا النور الذي أضاء دروب الفكر حمل في طياته ظلالًا قاتمة، إذ تحولت بعض أفكاره إلى أدوات للهيمنة والإقصاء، متجاهلة البعد الروحي والأخلاقي للإنسان، ومُجردة العالم من قدسيته.

فلاسفة تلك الحقبة، رغم دفاعهم المعلن عن الحريات والعدالة، وقع كثير منهم في تناقضات حينما سوّغوا لأنظمة قمعية أو تبنّوا أفكارًا عنصرية، وشيّدوا باسم العقل منابر تُشرعن السيطرة على الآخر. وهكذا نشأ ما يمكن تسميته بـ”عصر التنوير المظلم” — حيث استُخدم نور العقل في غياب ضمير الروح، فغدا العلم أداة تسلط بدل أن يكون قاطرة تحرر. (وكم يشبه واقع اليوم في بلادنا صياغة واضحة لتلك الحقبة).

عندما نُعيد النظر في تلك المرحلة، ندرك أن التنوير لم يكن دومًا نورًا خالصًا، بل حمل بين ثناياه ظلالًا كثيفة، صنعت عالمًا ميكانيكيًا باردًا، نزعت عنه أسمى معاني الإنسان وعمّقت الهوّة بين المادة والروح.

في قلب هذا المشهد، برز فلاسفة أدركوا خطورة هذا الانحراف، فحاولوا إنقاذ العقل من طغيانه، والعلم من تجرده القاسي.

كان جان جاك روسو من أوائل من نبّه إلى أن التقدم العلمي لا يقود بالضرورة إلى ارتقاء أخلاقي، محذرًا من أن المدنية الحديثة، بما تحمل من مظاهر زائفة ورفاهية خادعة، جرّدت الإنسان من فطرته النقية وأبعدته عن ذاته.

ثم جاء فريدريك نيتشه، الذي أدرك أن العقلانية المتطرفة قتلت الإيمان والمعنى، وأن الإنسان الذي تجرّد من المقدس وقع في فراغ قاتل، غدا فيه عبداً لنزعات القوة والهيمنة. بالنسبة لنيتشه، فإن “موت الإله” الذي بشّر به التنوير، لم يكن تحررًا، بل سقوطًا وجوديًا مريعًا.

وحتى هيغل، الذي تبجّل العقل المطلق، كان شاهدًا على المفارقة المأساوية حين يُستخدم العقل لتبرير الاستعباد تحت مسمى التقدم، لتتحول مشروعات التحديث التي لا تستند إلى القيم إلى أدوات دمار لا خلاص منها.

وفي العصر الحديث، واصل تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر هذا النقد الجذري من خلال كتابهما “جدل التنوير”، حيث كشفا كيف أن التنوير الذي بدأ بوعد تحرير الإنسان، انتهى إلى آليات هيمنة جديدة، إذ تحوّل العقل الأداتي إلى صنم معبود، يُخضع كل شيء لحسابات النفع والربح، وأفرز أنظمة شمولية تختبئ خلف شعارات الحداثة والعلم.

هؤلاء الفلاسفة لم ينكروا العقل ولا العلم، بل دعوا إلى إنقاذهما من الغرور والاختزال، وحذّروا من أن التقدّم بلا ضمير أخلاقي، والعقل بلا وعي روحي، قد يقودان البشرية إلى هاويةٍ تُزَيَّن فيها القيود بألوان الحرية.

واليوم، ونحن نحيا في عصر يزداد فيه التطور التقني، تتسارع فيه التكنولوجيا وتتسع الفجوة الإنسانية، بات من الضروري استحضار هذه الرؤى النقدية. إذ لم يعد الأمر ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. فالإنسان الحديث، وسط ضجيج الشاشات وسرعة الاستهلاك، بات في أمسّ الحاجة لسؤالٍ غائب:

ما غاية هذا التقدّم؟ وأي معنى لحياة تفقد بعدها الروحي والأخلاقي؟

إن الحل يكمن في إعادة الاعتبار للفلسفة الأخلاقية، وفتح حوارات جادة حول علوم الروح وسر الوجود، بعيدًا عن سطوة المادية البحتة. يجب أن نعيد ربط الإنسان بجوهره العميق، وأن يُوظَّف العلم لا كأداة سيطرة بل كوسيلة لخدمة القيم والعدالة.

فالوعي العالمي اليوم أحوج ما يكون لمشروع حضاري يتجاوز فكرة “المادة للإنسان” إلى “الإنسان بما هو روح وعقل وضمير”. علينا أن نُعيد صياغة منظومة التربية والثقافة، لتجمع بين حكمة العقل، ضياء الروح، وسموّ الأخلاق، حتى يُبنى مجتمع أكثر عدلاً، وكون يسوده السلام الداخلي والخارجي.

فالحضارات لا تنهار حين يُظلِم العقل، بل حين يصمت الضمير.

سوف نستمر ونكتب بأحرف من نور نُوقظ به نور اليقين، ونتذكّر ان الكلمة الصادقة قادرة تحرّك ارواح وتهدي القلوب الى النور الواحد الحق.

رابط مختصر-https://arabsaustralia.com/?p=41929

ذات صلة

spot_img