مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة غدير بنت سلمان
منذ أن وطئت قدم الإنسان هذه الأرض، وهو في صراعٍ بين النور والظلام، بين الرحمة والبطش، بين صوت الفطرة ونداء الشهوة. ولقد شهدت البشرية عبر تاريخها مجازر، وظلمًا، وسقوطًا أخلاقيًا متكررًا… لكن قليلًا ما اجتمعت أقدار الأرض، لتضع الإنسانية جمعاء أمام امتحانٍ بهذا الوضوح والفظاعة، كما يحدث اليوم في فلسطين.
في ذاكرة الإنسانية، لا شيء أفظع من جريمة تجويع الأطفال. كان الإنسان القديم، رغم بدائيته، يتقاسم كسرة خبزه مع جاره، ويسكن في كهف يتسع للجميع عند اشتداد العاصفة. أما نحن اليوم، في القرن الحادي والعشرين، في عصر المصانع الممتلئة والمخازن المتخمة بكل ما لذ وطاب، نشهد تجويع أكثر من 71,000 طفل فلسطيني تحت الحصار، تحت سمع العالم وبصره. وقد حُرموا من الطعام والدواء والدفء… لا لأن الطبيعة عجزت عن إطعامهم، بل لأن قلوبًا صلدة وعقولًا مريضة قررت أن تجوّعهم عمدًا، في عصرٍ يُقدَّم فيه الطعام للحيوانات الأليفة أكثر مما يصل إلى أفواه هؤلاء الأطفال.
وهذا ليس صراع حدود… إنه امتحان لسر وجود هذا الإنسان.
هؤلاء الأطفال، ليسوا مجرد أرقام في نشرات الأخبار، بل هم مرآة تفضح وجوهنا، وتكشف عُرينا الروحي في حضارةٍ استبدلت الإنسان بالآلة، والرحمة بالربح.
لو أدرك هذا المخلوق — الإنسان — سر وجوده وعلّة خلقه، لعلم أن قوته ليست في سلاحٍ يحمله، ولا في سلطةٍ يعتليها، بل في قيمته عند الحق. لو وعى ذلك، لتحركت الجبال معه، وارتجفت الأرض تحت خطاه، وهو مقبلٌ على صراط العدل لإقامة الرحمة.
فليس هناك امتحان أعظم من أن ترى المظلوم يُصلب أمامك، والطفل يُقتل جوعًا، وأنت صامت.
إنَّ دماء الأطفال في غزة اليوم ليست مجرد أرقام، بل علامات فارقة في كتاب البشرية. فمن يقف اليوم صامتًا، قد حكم على نفسه أن يكون من جوقة الساقطين في امتحان الضمير.
والتاريخ لا ينسى.
والروح لا تُشفى من جرح الخذلان.
وإنها ليست قضية فلسطينية وحسب — إنها قضية الإنسان.
لأن كل من ظنّ أن الاحتلال الصهيوني محصورٌ بجغرافيا فلسطين، واهم.
فاليوم نحن جميعًا تحت الاحتلال:
احتلال الإعلام المضلل،
واحتلال الاستعباد الاقتصادي،
واحتلال التلاعب بالعقول.
إن ما نعيشه اليوم، ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، ولا نزاعًا حدوديًا محليًا. بل هو أعظم اختبار تواجهه البشرية منذ نشأتها. إنه اختبار لجوهر وجودنا… هل نحن بشر، أم مجرد آلات استهلاكٍ تمشي على قدمين؟
منذ فجر التاريخ، لم تعرف الأرض ظلمًا أعظم من ظلمٍ يُمارَس على الطفل. حتى أكثر الجبابرة والطغاة تركوا للأطفال حق الحليب، وملجأً يأويهم.
أما اليوم، في عصر العولمة، النظام (System) الذي يدّعي التحضر، هو من يُحاصر الطفولة، ويمارس عليها القتل البطيء، باسم السياسة والاقتصاد.
بين ماضي العدل وحاضر الاستعباد
كان القدماء يقدسون العدل بوصفه قيمة إلهية. المصريون الأوائل رسموا “ماعت” — ربة العدالة — ميزانًا في قلب الوجود. وفي حضارات الرافدين وبلاد الشام، وُجدت قوانين تحمي الضعيف قبل القوي.
أما في شريعة السماء، فقد جعل الله إطعام الجائع فرضًا، وكفّ الجوع عن الإنسان والحيوان من أعظم القربات.
قال النبي الكريم في أنفسنا أجمعين :
“ليس المؤمن الذي يبيت شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم.”
فلو كان دين الله الحق قائمًا في الأرض، لما مات أحد من الجوع.
لكن المأساة الحقيقية أن العالم اليوم تحكمه منظومة صنعت من الرغيف سلعة، ومن الماء استثمارًا، ومن الدواء تجارة، ومن الإنسان عبدا مقنّعًا بربطة عنق.
النظام العالمي الجديد… استعمار الروح
في الحقيقة، ما نشهده من تجويع وحصار وظلم ليس فعلاً عشوائيًا، بل هو ثمرة مشروع طويل بدأ منذ عقود، ويدعى اليوم:
“النظام العالمي الجديد”.
ذلك النظام الذي يُفرغ الإنسان من قِيَمه، ليملأ جيبه.
يجعل الناس يتصارعون على أوهام الاستهلاك، بينما يتلاعب الكبار بمصير الأمم.
نحن أمام استعمارٍ جديد، ليس احتلال أرضٍ فحسب، بل احتلال وعي.
احتلال يفرض معايير للنجاح لا علاقة لها بالإنسانية، ولا بالعدل، بل بالربح وحجم الحساب البنكي.
وحدة الرحمة… صرخة العصر
لكن وسط هذا الظلام، ظهرت أنوار في الأفق.
اليوم، لم تعد القضية الفلسطينية شأناً محليًا. بل أصبحت رمزًا عالميًا للوحدة الإنسانية.
نشاهد شعوبًا من شتى الأديان والأعراق، تصرخ في وجه الظلم.
من نيويورك إلى كيب تاون، من كوالالمبور إلى الرباط.
نرى ولأول مرة، وحدةً شعبية عالمية تتجاوز الحدود.
هذه ليست مجرد مسيرات، بل صرخة عالمية باسم الرحمة.
كأن الكون كله يبعث برسالة مفادها:
“إما أن نتوحد على العدل… أو نفنى عبيدًا للنظام.”
في عصر العلب… صرخة حرية
نعم… نحن نعيش في عصرٍ معلّب.
الطعام معلب.
المشاعر معلبة.
الأفكار معلبة.
حتى الإنسان صار رقماً في قوائم الإنتاج والاستهلاك.
لكن المأساة الفلسطينية — وهذه المذبحة البطيئة بحق أطفال غزة — جاءت كصرخة تنسف هذا التعليب.
إنها لحظة اختبار للروح الإنسانية… هل سنكتفي بالتفرج؟
أم نستعيد معنى الإنسان الذي كان إذا رأى مظلوماً أغاثه، وإذا سمع صرخة جائع هبّ، وإن كان في أقصى الأرض.
ختاماً : موعد مع النور
في كل لحظة تجويع، يولد ضمير.
وفي كل مشهد حصار، تولد إرادة.
ما يحصل اليوم هو بداية النهاية لمنظومة العبودية الحديثة.
ومقدمة لوحدة عالمية، لا تقوم على العِرق أو اللون أو المال، بل على كلمة واحدة: العدل والرحمة.
هذه الواقعة التي تهز اليوم فلسطين، ليست مجرد مأساة.
إنها بداية عصر جديد، يعيد فيه الإنسان اكتشاف نفسه، ويعرف أن كرامته الحقيقية ليست في “النظام” الذي صنعه ليُستعبد، بل في الحرية التي خُلِق لها.
والعالم اليوم يُنادى بنداءٍ واحد:
يا أحرار الأرض… دمنا ليس برخيص
دم العرب، ودم بني الإنسان، ودم الطفل الجائع، ودم الأم الثكلى، ليس للبيع.
ولا سلام على عالمٍ تُسفك فيه الدماء ثم يُطالب فيه الضحايا بالصمت.
نسأل الرحمن الرحيم بعباده أن يُتم نوره، ولو كره المستبدون، وأن يُسقط الطغاة واحدًا تلو الآخر.
فالحق لا يموت.
والرحمة ستظل أقوى من الجوع.
والعدل قادم، كطلوع فجرٍ بعد ليلٍ طويل.
رابط النشر-https://arabsaustralia.com/?p=42872