مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة غدير بنت سلمان
في خضمّ كل صراع، وفي عمق كل كارثة وطنية، يقف سؤال جوهري لا يطرحه كثيرون: من الذي يصنع الطغاة؟
هل يولدون على هيئة وحوش متعطّشة للسلطة، أم تُربّيهم الشعوب بأنظمتها المريضة، وبتواطؤها الصامت، وتنازلها التدريجي عن القيم والوعي؟
الحق أن الطغاة لا يأتون من كوكب آخر، ولا يفرضون أنفسهم فجأة على المجتمعات.
بل هم نبتٌ خبيث خرج من تربة مهملة — شعبٌ خان نفسه، وتنكّر لأخلاقه، فأنبت لهم طاغية يشبههم في أمراضهم ويزيدهم خالق الكون وسنن التكوين في مرضهم وفي طغيانهم يعمهون .
حين يبيع الناس كرامتهم من أجل الخبز،
حين يُصفّق الجاهل للظلم إن أصاب غيره،
حين يصبح الدين تجارة، والثقافة ديكوراً،
حين تُهان الحقيقة وتُكافأ الكذبة،
حين تُخاف الكلمة، وتُمدَح العبودية،
حينها فقط، يُصنَع الطاغية… لا من فراغ، بل من جماجم الصمت وغبار الخيانة اليومية للضمير.
فإذا تنكّر الشعب للأخلاق والثقافة، فقد تنكّر لروحه، ولن ينجو من الحروب ولا من الانقسامات ولا من الاستبداد المقنّع بالمشاريع القومية أو الدينية أو الاقتصادية.
التاريخ شاهد.
لم يُولد نيرون وحده، بل صوّت له جمهورٌ مجنون.
هتلر لم يبدأ بالقتل، بل بدأ بخطبة هتَف لها الملايين.
والزعماء العرب الذين أجهضوا أوطانهم، لم يفعلوا ذلك إلا حين سكتت الشعوب، أو صفّقت، أو باعت نَفَسها الأخير من أجل وهم الأمن.
الشعب هو من يصنع زعيمه، والطاغية يولد من رحم الجهل العام، ومن عقم الضمير الجماعي.
وما الطغيان إلا صورة معكوسة لمجتمع قرّر أن يتخلّى عن مسؤوليته الأخلاقية، وعن واجبه في قول كلمة حق، ولو على نفسه.
حين يصنع الشعب طاغيته — الخيانة الصامتة وسقوط مقام الإنسان الى اسفل السافلين.
{وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون}
إنها سنّة كونية. ليست صدفة، ولا لعنة من السماء.
الطغيان لا يهبط فجأة.
بل يُصنَع على عين الشعوب، بصمتهم، بجهلهم، بخياناتهم الصغيرة اليومية.
- الشعب هو من يُنبت الطاغية
لا يولد الطغاة طغاة…
إنهم يُربَّون في أحضان الشعوب المهزومة،
يُصفَّق لهم في ساحات المهرجانات،
ويُهلَّل لأكاذيبهم في نشرات الأخبار،
ويُبرَّر ظلمهم باسم “الضرورة”، “الاستقرار”، و”المصلحة العامة”!
هم ليسوا آلهة، بل أصنام منحوتة من طين الجُبن الجماعي، والمُلكية الزائفة للوطن.
الطاغية لا يصعد وحده…
يُرفع على أكتاف المنافقين، ويُدافع عنه الجاهلون، ويُصفق له الجبناء.
هو ابن بيئته، مرآة لشعب باع ضميره مقابل حفنة شعارات، وخبزٍ مغمّس بالذل.
قال تعالى:
{ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار}
فكم من نعمة تحولت إلى لعنة، لأن القوم خانوا الحق؟!
- حين تموت الثقافة، يولد الاستعباد
الثقافة ليست زخرفة لغوية أو شهادات أكاديمية، بل هي أخلاق تُردَع بها النفس، وصوت يوقظ الضمير، وموقف يُقال في وجه السلطان الجائر.
الثقافة ليست رفاهية،
إنها حزام النجاة في زمن الغرق، وسيف الكلمة في وجه من يُدجّنون العقول.
حين تموت الثقافة، يولد العبود.
وحين يُهان العقل، يُستقبل الطغيان بالتصفيق، لا بالمواجهة.
فإذا ماتت الثقافة ماتت المقاومة، وإذا ماتت المقاومة، وُلد الاستعباد.
قال عليّ بن أبي طالب: “ما جاع فقيرٌ إلا بما مُتّع به غنيّ.”
ولو امتدَّت هذه المقولة اليوم، لقلنا:
ما استبدّ طاغية إلا لأن شعبه خانه، أو خان نفسه، أو خان الحقيقة.
- دين بلا وعي، هو وقودٌ للطغيان
كم من حاكم صعد على أكتاف “الفتاوى”،
وكم من منبر تحوّل إلى منصة تبرير للقتل والفساد!
الدين الذي لا ينهى عن الظلم ليس دينًا، بل أفيون مسموم.
كم من طغاة لبسوا عباءة الدين والتديّن الفاسد!
وكم من منابر كان صوت فرعون لا صوت موسى!
الدين الذي لا يحرر الإنسان، هو دين باطل، ولو صاح به ألف مؤذن.
وقد قال تعالى:
{إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}
فكيف نلوم الطغاة، وقد عبدنا الكهنة وتاجرنا باسم الرب؟!
فويلٌ لأمة تقدّس العمامة وتنسى العدالة.
- الحرب الأهلية لا تبدأ بالرصاص، بل بكسر الكلمة.
الحرب تبدأ من الداخل قبل الخارج الدماء لا تسفك فجأة.
قبل الحرب، هناك خيانة…
خيانة الفكرة، خيانة الأخلاق، خيانة العهد الكوني والوطن باسم الانتماء.
الميليشيا لا تولد من فراغ، بل من غياب التربية، وانهيار القيم، ومن شعب يختار الراحة على السعي لتحقيق كرامة الإنسان .
قبل أن يُشهر السيف، تُكسر الكلمة، وتُهان الفكرة، وتُخون النوايا الصادقة.
يبدأ الانهيار حين يسكت الأحرار، وحين تُشترى الأقلام، وحين يُربّى الجيل على الخوف والجهل بدل الحرية والعلم.
فالجهل لا يحمي وطنًا، بل يهدمه من الداخل.
- الصحوة تبدأ حين يقول الشعب: لا
التغيير لا يُستورد… يُستنهض
لا أحد ينقذ أمة لا تريد أن تنهض.
قال الله:
{ذلك بأن الله لم يكُ مغيّرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}
فابدأ بنفسك.
كن ثورة صغيرة تمشي على قدمين.
قل لا للظلم… حتى في قلبك.
قل لا للصمت… حتى أمام المرآة.
فالتغيير يبدأ من النفس… من البيت… من السؤال:
هل أنا حرّ؟ هل أُربي أبنائي على الكرامة؟ هل أقول الحقيقة في عملي، في بيتي، في سري؟
الطاغية يسقط حين يسقط الخوف من قلوب الناس.
وما الثورة الحقيقية إلا عودة الإنسان إلى إنسانيته،
وما الأمة إلا ضمير جمعي حيّ يقول للباطل: كفى.
- خلاصة المقال — صيحة اليقظة:
لا تلعنوا الطغاة… بل ابحثوا فيكم: من صنعهم؟
من صوّت لهم؟
من خاف من قول كلمة الحق؟
من خان الضمير ورضي بالذل صامتًا؟
القيامة لا تبدأ من السماء، بل من أعماق الضمير حين يفيق.
الطغاة لا يصنعون أنفسهم،
بل يولدون من رحم الشعوب الخائفة،
المُغيّبة، المُدجّنة، التي اختارت الأمن المزيف على الحرية، والخبز على الكرامة، والكذب على الحقيقة.
فلا تلوموا المستبد، بل ابحثوا في المرآة… هل أنتم من صنعه؟
قال تعالى:
{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}
فهل أنتم مستعدون للتغيير؟
أم أن الطغاة القادمون يُربَّون في صمتكم الآن؟
نحن لا ننتظر منكم حلاً،
لأنكم أنتم أصل العُقدة،
أنتم من جعلتم من الكرامة سلعة،
ومن الدين رايةً لتبرير الذلّ والسجود لعروش الطغاة.
فلتعلموا…
أن شعوب الأمة لم تَعُد تنتظر “قمّتكم”،
بل تحمل في حناجرها نداءًا جديدًا:
“قمّة الحق آتية… من تحت الركام، من رحم الغضب، من صوت المظلومين.”
رابط النشر- https://arabsaustralia.com/?p=42550