مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة غدير بنت سلمان
حين يصبح الفكر سجينًا.. كيف نتحرر؟”
في تاريخ الفكر الإنساني، لم يكن التقدم وليد تراكم بسيط للمعارف، بل كان دومًا نتاج ثورات فكرية، وانقلابات على المألوف، ورفضٍ صريحٍ للجاهز والموروث الذي كبّل العقول، وحجب عنها رؤية النور والسعي للتقدم والتطور ودخول المنافسة مع باقي الأمم بروّح الحكمة .
وهذا ما نبّه إليه القرآن منذ قرون، حين عاتب من ساروا على خطى آبائهم دون تفكّر ولا وعي:
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (سورة الزخرف: 23)
ولم يكتفِ القرآن بوصف ذلك، بل فضح نتائجه حين تصبح العادة دِينًا يُتبع، ولو كان على ضلال:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (سورة البقرة: 170)
هذا تمامًا ما أطلق عليه باشلار “الرفض الإبستيمولوجي” أي رفض الجمود العقلي والموروث الأعمى، والبدء بفكر حرّ نقديّ يستعيد كرامة العقل.
فالإنسان وُهِب أعظم نعمة: العقل. والقرآن يذكّرنا أن هذه الكرامة الإلهية ليست امتيازًا فقط، بل مسؤولية.
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70)
وأخطر ما قد يفعله الإنسان هو أن يُسلم عقله لغيره، فيصبح رهينة أفكار لم يصنعها، وعقائد لم يتفكّر فيها.
بل يصبح له قرين يقيّده بها:
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَـٰنًۭا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٌۭ} (الزخرف: 36)
وكثير من الناس يحسبون أنهم على هدى، وهم في دروب الوهم والفساد:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى ٱلْأَرْضِ قَالُوٓا۟ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12)
ثم تأتي الآية العميقة التي تكشف حال من غرق في الدنيا، يظنها غاية، وهي في حقيقتها لهو ولعب:
{وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا لَعِبٌۭ وَلَهْوٌۭ ۖ وَلَلدَّارُ ٱلْـَٔاخِرَةُ خَيْرٌۭ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنعام: 32)
ومن هنا، ندرك أن بناء حضارة جديدة، وعقل يقظ، لا يتم إلا حين يسترد الإنسان “صبغة الله” التي فُطر عليها:
{صِبْغَةَ ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةًۭ ۖ وَنَحْنُ لَهُۥ عَـٰبِدُونَ} (البقرة: 138)
الفيلسوف غاستون باشلار، أحد العقول الجريئة في فلسفة العلم، أسّس أطروحته على أن المعرفة الحقيقية لا تنمو عبر تراكم المعلومات فحسب، بل من خلال ما سماه “الرفض الإبستيمولوجي”؛ رفض الأفكار الجاهزة، والتصورات السطحية، والأنساق الذهنية الجامدة التي تورثناها دون وعي. إنه الرفض الذي يشبه كسر القيود التي لا تُرى، لكنها تقيد حركة الفكر في عمقنا.
باشلار كان يرى أن العلم لا يتقدّم إلا حين يُراجع منطقه الخاص، وينقض بنفسه تصوّراته القديمة. أي أننا لا نصل إلى معرفة صادقة إلا إذا امتلكنا شجاعة قول: “لقد كنّا مخطئين”. ومن دون هذا الوعي الشجاع، يظل الإنسان حبيس زوايا معتمة من ظنونه وأوهامه.
ولأن الرأي العام، أو كما سماه باشلار “الرأي الجاهز”، غالبًا ما يقف عقبة أمام الفكر النقدي، فإنه يتحوّل إلى جدار صلد يقيّد العقول تحت مسمّى العُرف، التقاليد، أو المصلحة. فكم من فكرة عظيمة أُجهضت تحت وطأة:
“ماذا سيقول الناس؟”
“هكذا اعتدنا”
“من سبقونا أعلم منا”
لكن باشلار لا يكتفي بنقد الفكر الجمعي، بل يتعمق أكثر في العلاقة بين الخيال والعقلانية. فهو يدعو إلى تحرير العقل من الصور الشعرية والعاطفية حين يتعامل مع حقائق الكون. ليس لأنه يحتقر الشعر أو العاطفة — بل لأنه يؤمن أن العلم لا يُبنى على الانفعال، بل على اختبار صارم، وتجربة حيّة، ومنطق واضح.
في زمن تُغلف فيه الأكاذيب بثياب الحكمة، ويُباع الوهم على هيئة معرفة، نحتاج نحن، أكثر من أي وقت مضى، إلى ثورة فكرية داخل ذواتنا.
ثورة تبدأ بالسؤال:
“هل ما أؤمن به اليوم هو حق، أم إرث لا أدري من زرعه في عقلي؟”
ولأن الإنسان حين يعجز عن مراجعة معتقداته يصبح أداة في يد غيره، فإن الدعوة الحقيقية اليوم ليست للمعرفة الجاهزة، بل لليقظة. أن يقف كل واحد منا مع نفسه، عاريًا من الأقنعة، ويسأل:
- من الذي صنع أفكاري؟
- من الذي قرر ما أؤمن به؟
- وما الذي يمنعني أن أعيد التفكير، وأكسر هذا السجن اللطيف الذي أسموه “الرأي العام”؟
نعم، التحرر مؤلم. لكنه وحده القادر على بناء إنسان حرّ، يستطيع أن يرى بعينيه، لا بعدسات الآخرين.
فيا صديقي القارئ…
لا تكن عبدًا لفكرة ورثتها عن غيرك.
ولا تنم قرير العين تحت سقف معتقدات مهترئة.
ابحث، شكّك، تحرّر.
لأن المعرفة ليست مسألة معلومات… إنها قضية كرامة عقل.
يا أيها القارئ…
لا تسمح أن تكون عبدًا لموروثات قيدتك عن أن ترى.
ولا تقف صامتًا أمام عاداتٍ قتلت حركة الفكر.
اصنع ثورتك، وكُن أنت من يعيد الإنسان إلى كرامة عقله، ونقاء فطرته.
فالمعرفة ليست تراكمًا… إنها يقظة تُعيد الإنسان إلى النور.
حيوا على الرشد.
رابط النشر- https://arabsaustralia.com/?p=41966