spot_imgspot_img

إصدارات المجلة

العدد 55

آخر المقالات

الدكتور طلال أبوغزاله ـ تفويض عالمي لتحقيق العدالة في فلسطين

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الدكتور  طلال أبوغزاله لقد تحدثت جنوب...

عباس مراد ـ الذكرى الخمسون للانقلاب الأول في تاريخ أستراليا منذ الاستيطان الأبيض

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتب عباس مراد قبل ستين عاماً...

الدور الأسترالي في تعزيز الأمن في جنوب المحيط الهادي

مجلة عرب أسترالياـ بقلم د. نور عماد تركي الملخّص تؤدّي...

راجي زيتوني ـ الاكتشافات العلمية بين ظلال الحلم وومضات الذات  

مجلة عرب أسترالياـ بقلم المهندس راجي زيتوني   في أولى صفحات...

غدير بنت سلمان ـ المرآة الإلهية ـ حين يرى الإنسان وجه الله في وجه نفسه.

spot_img

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة غدير بنت سلمان

المرآة الإلهية ـ حين يرى الإنسان وجه الله في وجه نفسه.

“كلّ ما يراه الإنسان في الله، إنما هو صدى ما يراه الله فيه.”

مقدمة النور

لم يكن اختلاف الناس في رؤيتهم للخالق صدفة، ولا تنوّع صور الله في قلوبهم وهمًا، بل هو انعكاسٌ لأحوالهم النفسية ودرجات وعيهم.

فالخالق لا يتغيّر، بل الإنسان هو الذي يتبدّل في وعيه، فيراه بما فيه لا بما في الله.

منهم من يراه سيدًا جبارًا يخاف بطشه، ومنهم من يراه رحيمًا محبًّا يغمره باللطف.

تلك ليست اختلافات في الله، بل في الإنسان.

فكلّ قلب يرى الإله بمرآته الخاصة، ومن هنا يبدأ تأويل سورة الناس، كمرآةٍ كونيةٍ كُشف فيها سرّ النفس والوعي الإلهي في آنٍ واحد.

المرآة الأولى — ربّ الناس

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾

الربّ في جوهر معناه هو المربّي، الهادي، الذي ينقل النفس من جهلها إلى نورها، ويُعلّمها بالتجربة لا بالعقاب.

لكن بعض الناس لا يرون الربّ إلا سيّدًا متسلّطًا، لأنهم يعيشون داخل ذواتٍ تحكم وتسيطر، فيُسقطون تلك السلطة على السماء.

من يطلب الطاعة يعبد إلهًا يطلب الطاعة، ومن يخاف فقدان السيطرة يرى الله غاضبًا دائمًا.

في الحقيقة، هؤلاء لا يعبدون الله، بل انعكاس ذواتهم في صورة الإله.

لكن حين يذوب الإنسان من كبريائه، حين يخرّ ساجدًا بصدقٍ داخلي، يكتشف أن الربّ لم يكن عدوًّا، بل معلّمًا رحيمًا يمدّه بالنور منذ البدء.

حينها يسمع النداء الخفي:

“ارجع إليّ، فأنا أنت حين تتطهّر منك..”

المرآة الثانية — ملك الناس

﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾

الملك الحقيقي ليس من يملك الأجساد، بل من يملك النفوس بالعدل والحكمة.

لكن الإنسان، الذي تجرّع مرارة الظلم أو مارسها، يرى الملك من خلال تجربته الأرضية.

من عانى من الطغاة يراه قاسيًا، ومن ذاق عدلًا يراه رحيمًا، ومن ظنّ أنه مالك لغيره يستبطن نزعة الألوهية في ذاته.

وهكذا تتحوّل فكرة “الملك” في وعي الإنسان إلى مرآةٍ لسلطته الداخلية.

يعبد بعضهم الله وهم في الحقيقة يعبدون فكرة السلطة التي تمارسها نفوسهم.

لكن الملك الحقّ، كما يُعلّمه القرآن، ليس متعاليًا على الخلق بل قائمٌ فيهم، قيّومٌ عليهم، لا يحتاج سُجودًا حركيا بل وعيًا مرتقياً في لب الأسباب.

الذين يخافون ملك الله إنما يخافون من أنفسهم،

أما الذين أحبّوه فقد عرفوا أن الملكية الحقيقية هي حرية النفس حين تتطهّر من عبوديتها للهوى والخوف.

المرآة الثالثة — إله الناس

﴿إِلَٰهِ النَّاسِ﴾

الإله هو الوجه الجامع لكل الصفات، نقطة التوحيد وسرّ الجمال.

لكل إنسانٍ صورةٌ عن الإله تنبع من حالته الداخلية:

من امتلأ حبًّا رآه حبًّا، ومن امتلأ خوفًا رآه عقابًا، ومن امتلأ حيرةً رآه مجهولًا.

اختلاف الأديان والمذاهب ليس في الله، بل في كيفية انعكاس نوره في مرايا النفوس.

النور واحد، لكن المرايا مكسورة ومختلفة الزوايا،

فتتفرّق الألوان ويظنّ الناس أن الحقيقة متعدّدة، وهي في الأصل واحدة.

قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾،

لكن القلوب التي غشّاها الصدأ لا ترى النور إلا شظايا متفرّقة،

فتنشأ المذاهب، لا من الوحي، بل من تفسيرات الأنا التي أرادت احتكار النور.

الوسواس الخناس — صدى العقل الملوَّث

﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾

الوسواس ليس كائنًا خارجيًا يهمس في الأذن، بل هو فكرة داخلية تتلبّس الوعي.

هو انقسام الإنسان عن ذاته، حين ينسى أن الله أقرب إليه من نفسه.

الوسواس هو الصوت الذي يشكّكك في نورك، فيذكّرك بالعقاب أكثر من الرحمة، وبالخوف أكثر من الحب.

هو النظام الداخلي الذي بُني على الخطيئة لا على الفطرة.

ولذلك، فإن الاستعاذة ليست هروبًا من الشيطان، بل استردادٌ للنقاء من شوائب الوعي، وطيش النفس،

عودةٌ إلى صوت الحقيقة الذي وُلد معك قبل أن تلوّثه الموروثات والخرافات العودة إلى النفس المطمئنة التي أدركت بالمعية الإلهية منذ الولادة حتى لحظة الموت.

كلما صمتَ الإنسان من ضجيج المعتقدات، سمع الله يتكلّم فيه.

خاتمة النور — توحيد المرايا

البشر يعيشون أطوارًا من الوعي الديني والوجودي:

من الإلحاد إلى الإيمان، من الشك إلى اليقين، من الخوف إلى المحبة.

كل مرحلةٍ هي درجة من مراتب الشفاء.

الملحد يبحث عن الله الذي لم يفقده، والمؤمن يبحث عن نفسه في الله، والمتنوّر يرى الله في الكلّ.

الخالق لا يتغيّر، لكن الوعي الذي يراه هو الذي يتلوّن.

فمن داخله سلطانٌ متسلّط، يرى الإله سلطانًا متسلّطًا، آمرًا ناهياً، يخاف بطشه ويطلب رضاه بذلٍّ وعبوديةٍ مشوّهة.

لأنه في داخله الحاكم، وفي لا وعيه يعيش ثنائية “الحق والباطل” كما يراها هو، فيُسقطها على الإله في صورة “إلهٍ حاكمٍ يخضع له الجميع”.

أما من امتلأ قلبه حبًّا ورحمةً، فيرى الله محبةً مطلقة، ورحمةً واسعةً لا تُقاس.

لأنه هو ذاته يحبّ، ويغفر، ويُعطي دون انتظار مقابل.

فيرى الخالق في وجه الرحمة، لا في وجه السلطة.

وهكذا تتنوّع صور الإله بتنوّع النفوس.

كلّ إنسانٍ يعبد الإله الذي يشبهه.

لا لأنّ الله يتعدّد، بل لأنّ الإنسان يتجزّأ في وعيه.

قال العارفون: “من عرف نفسه، عرف ربّه.”

ليس لأنّه صار إلهًا، بل لأنّه رأى في نفسه تجلّي الإله.

من يعيش الجحيم يعيش جحيم ذاته،

ومن يعيش النعيم يعيش سلامه الداخلي.

كلّ دينٍ على الأرض هو انعكاس لمرحلةٍ من تطوّر الوعي البشري،

وكل تجربةٍ مؤلمة هي باب إلى إدراك أعمق.

في النهاية، سنعود جميعًا إلى الأصل الواحد،

إلى الوعي السرمدي الذي لا يُحدّ بالمذاهب ولا بالأسماء،

نورٌ واحد يتجلّى في وجوهٍ كثيرة.

تبارك النور الذي يرى نفسه فينا،

وتباركت المرايا التي انكسرت لتُظهر وجهه الكامل في الإنسان…تبارك النور الذي يتجلّى في الكلّ،

وتبارك الوحدة التي توحّدنا وإن ظننا أننا متفرّقون.

رابط النشر- https://arabsaustralia.com/?p=44399

ذات صلة

spot_img