مجلة عرب أستراليا سيدني– ميقاتي مكلفاً من جعجع ونصرالله
بقلم الكاتب علي شندب
لم تزل نتائج الانتخابات النيابية ترخي بتداعياتها التي أفرزت كتلتين شيعيتين صلبتين، وكتلتين مسيحيتين صلبتين، وكتلة درزية صلبة، وكتلة تغييرية رخوة، وبعض النواب المستقلين، وتحولت الكتلة السُنّيّة الصلبة إلى شظايا إنشطارية بفعل “التغيير” الذي طالها دون غيرها.
وقد ثبّت انتخاب رئاسة وهيئة مكتب المجلس النيابي بالحسابات الدقيقة، أن معادلة حزب الله المكوّنة من 65 صوتاً أي النصف زائد واحد، لم تزل الأكثرية المهيمنة رغم السقوط أو الإسقاط المدوّي لحلفاء سوريا في هذه الإنتخابات.
آخر تداعيات الإنتخابات ما أفرزته الإستشارات الملزمة بتكليف نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة بـ 54 صوتاً، حيث حُجبت عنه أصوات نواب الطائفة الدرزية، وأكثر من ثلثي الأصوات المسيحية.
عند إعلان مرسوم التكليف لميقاتي، توقع البعض مبادرته للإعتذار عن قبول التكليف المطعون في ميثاقيتيه المسيحية والدرزية. لكن ميقاتي الذي لطالما تنطح مدعياً الدفاع عن مكانة ومقام رئاسة الحكومة، بلع المهانة التصويتية غير آبه بالاستضعاف والتجاوز الذي أصاب المقام على يديه وباسمه ليتبين أن الدفاع عن رئاسة الحكومة أمر غرضي تتسوّله المصلحة الخاصة، وليس موقفاً مبدئياً مرتبطاً بشكيمة الطائفة السُنّيّة ومكانتها بين المكوّنات اللبنانية الأخرى.
ربما حجّة ميقاتي في بلع الإهانة أن حكومته المرتقبة والمستبعدة ستستقيل بعد أربعة أشهر بسبب انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولأنها حكومة انتقالية بين عهدين رئاسيين، فقد كان حري بالثنائي المسيحي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية أن يحصّنا الرئيس المكلف سواء كان ميقاتي او غيره، لا أن تكون التغطية المسيحية للرئيس المكلف ضعيفة وناقصة. ويبدو أن الصراع على رئاسة الجمهورية بين الثنائي المسيحي جبران باسيل وسمير جعجع هو الذي حكم موقفهما المتطابق من تكليف ميقاتي.
ما نحن بصدده رئاسة الحكومة المهيضة الجناح في لحظة تشهد فيها المنطقة تحوّلات قيصرية. اذن هي حكومة انتقالية، والانتقالية باتت سمة ملازمة لميقاتي منذ أن شكل حكومته الاولى عام 2005. ويومها توّسط الرئيس الفرنسي جاك شيراك نظيره الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة لإقناع نظيرهما السوري بشّار الأسد بتكليف ميقاتي تشكيل حكومته الأولى للإشراف على الانتخابات النيابية التي خيضت فوق دماء رفيق الحريري.
الانتقالية لازمة ميقاتية بامتياز، فعام 2011 شكل الميقاتي حكومته التي عرفت باسم “القمصان السود” التي أعقبت حكومة سعد الحريري الذي دخل البيت الأبيض للقاء الرئيس باراك أوباما رئيساً للحكومة، وخرج منه رئيسا سابقاً، وقد بدا ميقاتي يومها كمن يغرس الملح في جراح الطائفة السنية الفائرة والغائرة.
آخر حكومات ميقاتي شكلها العام الماضي عقب اعتذار الحريري، ليرث فيها حكومة حسّان دياب واعتذار الحريري معاً. ومن مخارج التوافق بين الرئيسين الفرنسي والإيراني ايمانويل ماكرون وابراهيم رئيسي، استُولدت حكومة ميقاتي فقدّم التنازلات التي رفضها الحريري وأهمها منح “الثلث المعطّل” لفريق رئيس الجمهورية وجبران باسيل.
لم يعد سرّاً أن حكومة ميقاتي كانت نتاج تلقيح الأذرع الإيرانية للمبادرة الفرنسية. تلقيح صاغه وزير خارجية إيران أمير عبداللهيان على شكل رباعية تجاوزت ثلاثيّة حسن نصرالله. فرباعيّة اللهيان تتكون من “الحكومة والشعب والجيش والمقاومة”. وقد هرول ميقاتي للسير برباعية اللهيان العارية من كل رداء عربي. ولهذا كان الردّ الخليجي والسعودي بليغاً وقاسياً وترجم بعقوبات غير مسبوقة تذرّعت بتصريحات سخيفة للوزير السابق جورج قرداحي. ما اضطرّ ماكرون لتصحيح خطئه وإعادة ربط الملف اللبناني مع السعودية بعد تجاهله الموصوف لسيرة سلفه الأكبر جاك شيراك.
بهذا المعنى التبسيطي وغير الساذج أتى ولوج ميقاتي الى السراي الحكومي، على شكل جسر مؤقت لمعادلة وطنية كبرى، استُهدفت بالإغتيال والإلغاء السياسي طوراً، وبكل أشكال الإفتئات والتطاول ليس لموقع رئاسة الحكومة وحسب، وإنما للطائفة السُنّيّة التي ينبثق منها هذا الموقع الدستوري التأسيسي في الدولة والكيان.
من هنا يمكن النظر الى الأدوار التي تُسند لميقاتي الذي ابتسمت له الظروف كثيراً، وحالفه التزامه الوصايا الفرنسية بتموضعه كحلقة وصل، في هيكلة طموحه. لكن الرجل لم يكن بمستوى المأمول منه. فكلّ ما كان يهمّه من منصب رئاسة الوزراء بحسب ما أفصح به لمقربين منه، “أن بروتوكول المنصب يفتح له أبواب العلاقات مع قادة ورؤساء الدول ورجال الأعمال ما يسهّل له الحصول على بعض العقود والصفقات”.
لقد خيّب ميقاتي ظنّ أهل طرابلس والشمال به، ولعب دوراً بائساً في الإنتخابات النيابية الأخيرة، حيث عمل على “بلف” الكثير من القوى السياسية متخلياً عن لائحته بكامل أعضائها. ما جعل السؤال ملحّاً عشيّة الانتخابات عن الجهة التي أبرم معها صفقة تعطيل لائحته الإنتخابية!
لقد كان نكوص ميقاتي أشد فتكاً بالطائفة السُنّيّة من عزوف الحريري عن العمل السياسي، وقد تعاملت الناس مع قرار الحريري بواقعية، لكنها شعرت مع ميقاتي بالغدر وبتلقي الطعنات في الصدر والظهر.
ربما فكّ إعلان أشرف ريفي الذي تحالف مع القوات اللبنانية عن رفضه تسمية ميقاتي لرئاسة الحكومة بعض رموز شيفرة الصفقة. ويبدو أن ريفي الذي ارتكب خطيئة كبرى بمحاولته تبرئة جعجع من دمّ رشيد كرامي، اكتشف متأخراً أن القوات اللبنانية كانت متحالفة معه شكلاً، ومع ميقاتي مضموناً، ولهذا أعاد ريفي تموضعه بعيداً عنها.
ولأنّ جعجع يدرك تماماً أن وحده إخلاء ميقاتي للساحة الإنتخابية، وليس تحالفه مع ريفي، ما يؤمن فوز مرشحه في طرابلس التي لها مع جعجع حساب قديم، أقدم قائد القوات على ردّ التحية لميقاتي بمثلها في إستشارات التكليف بالإمتناع عن تسمية أحد.
بهذا المعنى، يتجحّظ أمامنا أن ميقاتي استُولد هذه المرّة لتشكيل الحكومة من تقاطعات الضرورة القسرية بين حسن نصرالله وسمير جعجع الذي يحاول تحميل مسؤولية عدم الإتفاق على مرشح بمواصفات مناسبة لكتلة التغييريين والمستقلين الرافضين تخييرهم المفاضلة بين الدويلة الحالية والدويلة السابقة التي بدأت ملامحها ترتسم من جرد العاقورة الى قاع البقاع.
إنّها الميقاتية السياسية التي تتسوّل الكرسي مهما بلغ حجم الهزال التصويتي الذي شكل سابقة في تاريخ الحكومات اللبنانية. ولأنّ اللحظة الإقليمية والدولية حرجة، والمنطقة والعالم يقفان على فوّهة البراكين، فقد كان حريّ بميقاتي أن يعقد صفقة ولمرة واحدة في حياته مع شعبه وأبناء طائفته وليس على حسابهم، وأن يعتذر عن التكليف الهزيل الفاقد لميثاقيتين مسيحية ودرزية، بدل انشغاله بعد تمريرة سمير جعجع في تدوير الزوايا لتسوية حكومية جديدة ومع جبران باسيل بالذات.
رحم الله رشيد كرامي ورفيق الحريري.
رابط مختصر.. https://arabsaustralia.com/?p=24076