مجله عرب استراليا -سدني –17 تشرين بين استمرار المنظومة والحرب الأهلية اللبنانية – بقلم الكاتب السياسي علي شندب
عام مضى على انطلاق 17 تشرين التي تعددت توصيفاتها ومسمياتها طبقا لخلفيات مطلقيها. فهي بنظر أهلها بين الانتفاضة والثورة. وبنظر بعض السلطة الرسمية وناظم عقدها حزب الله، حراك.
لكن وبغض النظر عن تمايزات التوصيف وخلفياته غير البريئة، فإن 17 تشرين مفصل تاريخي سمح لأول مرة في تاريخ لبنان واللبنانيين ببلورة كتلة شعبية وازنة وجارفة مخترقة للجغرافيا والديموغرافيا والدينوغرافيا. كتلة شعبية استظلّت العلم اللبناني وتحدثت بلغة واحدة، ورفعت شعارات موحدة من ساحات بعلبك، تعلبايا، سعد نايل، صيدا، النبطية وصور، كما وساحتي الشهداء ورياض الصلح وجسر الرينغ في بيروت، مرورا بجل الديب، انطلياس، الذوق وجبيل والبترون وصولا الى ساحة النور في طرابلس وليس انتهاء بساحة حلبا في عكار.
كتلة شعبية رفعت صوتها بوجه منظومة المال والسلطة والسلاح، فنزعت ورقة التوت عن أقطابها، وتمكنت من إسقاط حكومة سعد الحريري في الشارع، وفرضت أدبياتها وشعاراتها على حسان دياب وحكومته التي بدت من شدة تحنطها امتدادا للحكومة التي سبقتها في فشلها بوقف الانهيار ومكافحة الفساد ومنع تحقيق استقلالية القضاء.
17 تشرين نجحت في إزالة الوهم عن حقيقة الوضع المالي والنقدي والمصرفي، وهزّت أركان حكم المصرف دون أن تتمكن من الحاكم وهندساته المالية التي كانت بمثابة السوس الذي نخر عظام النظام المصرفي اللبناني حيث أطبقت العقوبات الأميركية المستهدفة لحزب الله وامتداداته المصرفية على أنفاس اللبنانيين أكثر من الحزبلّاهيين.
17 تشرين التي باتت حيثية او طائفة جديدة ضمن موزاييك التركيبة اللبنانية، وليس بديلا حقيقيا عنها، نجحت في تشخيص مفاصل الداء السياسي والاقتصادي والقضائي في الدولة اللبنانية. لكنها فشلت في تقديم وصفة العلاج المتناسبة مع حجم الأمراض السوبر مستعصية في الجسد اللبناني المنهك والمتآكل والذي لم تعد تنفع معه المسكنات الموضعية، في حين يصعب استئصال الأمراض المزمنة بالجراحة، لأنها ستميت ما تبقى من هيكل الدولة المتداعي والمريض.
17 تشرين هزّت أوتاد المنظومة قويا، فصدّعت بنيانها وأثخنته وأربكت ممارساتها وعرّتها أمام دول العالم التي أعلنت انحيازها لآلام الناس خصوصا بعد تفجير مرفأ بيروت الهيروشيمي والذي لم يفك المحقق العدلي وفرق التحقيق الأجنبية طلاسم شيفرته التي فكّها اللبنانيون مذ لحظة الانفجار وحملوا حزب الله المسؤولية أقله لجهة رعايته للمنظومة وقد عزّز مسؤولية الحزب إبعاده أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية ووسائل الاعلام عن موقع الانفجار الغامض في بلدة عين قانا الجنوبية.
لكن الطغمة الحاكمة بلعت كل إهانات العالم وليس ماكرون فقط، عندما قرروا ارسال الدعم والمساعدات مباشرة لمتضرري انفجار بيروت عبر مؤسّسات الأمم المتحدة وليس عبر مؤسّسات الدولة الفاقدة للثقة والمصداقية. رغم هذا سطت المنظومة على مساعدات إغاثية وغذائية ودوائية، كما امتدت اليد السوداء الى أدوية اللبنانيين التي فقدت من الصيدليات، وخزنت في مستودعات ميليشيا الدواء المتفرعة من منظومة الفساد والسلطة والسلاح.
انفجار مرفأ بيروت كشف عن مشروعية 17 تشرين وحقيقة مطالبها في كنس منظومة الأمونيوم والفساد. كما كشف بأن من يحكم اللبنانيين سلطة قاتلة عمدا أو إهمالا، أو تسترا على جريمة متمادية عبر الزمن في تحويل رئة بيروت ولبنان الاقتصادية الى مستودع كبير للأمونيوم وغيره من الممنوعات المحمية، والمموّهة ببعض الأعمال التجارية بعيدا عن الضرائب والرسوم الجمركية ورقابة الأجهزة الأمنية والادارية.
فما الذي منع 17 تشرين من تحقيق إنجازها المتمثل في كنس منظومة الفساد واجراء الإصلاحات الجراحية الواجبة في بنى الدولة وهياكلها الاقتصادية والمالية والسياسية والإدارية والقضائية والأمنية والعسكرية فضلا عن التشريعية؟
بيّنت التطورات الميدانية خلال عام مضى، أن تواطئا كبيرا بل توافقا قد حصل بين أطراف المنظومة للإجهاز على17 تشرين تمثل:
أولا، بتهديد زعيم حزب الله حسن نصرالله ووعيده المتكرر للثورة واتهامها بالعمل لصالح سفارات وأجندات خارجية، ثم بالعمل على اختراق صفوفها وإجراء فرز وتصنيف لمجموعاتها تراوح بين العمالة للخارج او للداخل المتخاصم مع حزب الله ومشروعه الإقليمي، وبين المطالب المشروعة والمحقة لبعض المجموعات التي أعلن الحزب التحاور معها لتحييدها، في حين عمد لزجر مجموعات أخرى بالعصا الغليظة المتمثلة بغزوات شباب الخندق الغميق المتكررة (بهتاف شيعة شيعة) لبعض الخيم في ساحتي الشهداء ورياض الصلح وإحراقها والاعتداء على المتظاهرين بالتكافل والتضامن مع بعض الأجهزة الأمنية الرسمية مثل حرس مجلس النواب.
ثانيا، بتحريض غير مسبوق من التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل الذي بسبب أداءه النكبوي في ملفات الطاقة والكهرباء وآخرها معمل سلعاتا لإنجاز “الأمن الكهربائي المسيحي” كما ولافتعال الكثير من المشكلات مع المتظاهرين في البترون وغيرها وتهديدهم على طريقة حزب الله، بحيث بات لمناطق نفوذ باسيل وأيضا لكل منطقة لحزب السلاح نفوذ ما فيها ومنها طرابلس خندقها الغميق المعروف باسم “سرايا المقاومة” التي عملت على ترويع الأهالي وإرهاب المتظاهرين.
ثالثا، قيام بعض بقايا قوى 14 اذار بالاندساس ضمن فعاليات 17 تشرين والانخراط في فعالياتها، بهدف توجيه بعض الأنشطة ضد خصومهم من القوى السياسية. بمعنى آخر فقد ركبت بعض القوى موجة 17 تشرين بهدف تصويرها كامتداد لحركة 14 اذار التي انفرط عقدها ولم يتبقى منها سوى اسمها، والتي حاولت تسجيل استقالة حكومة سعد الحريري ضمن منجزاتها عبر رفعها نفس شعارات المتظاهرين ما صعّب التمييز بين الآذاريين و17 تشرين أيضا في سقوط حكومة حسان دياب المطعمة ببعض الأخصائيين المستقلين التي استقال بعض وزرائها قبل أن يقصم انفجار المرفأ ظهرها.
رابعا، استشراس القوى المتنفذة في المنظومة ومنها ساكن القصر الجمهوري في استعمال القضاء والأجهزة الأمنية واستخدامهم لترويع الثائرين بحجة التعرض لمقام الرئاسة وإشغالهم في الدفاع عن أنفسهم بهدف ترويض 17 تشرين أكثر من الحفاظ على هيبة الرئاسة ومقامها الذين سقطا شرعيا من أعين الناس والمجتمع العربي والدولي، لكنهما منتصبين بقوة حزب السلاح.
خامسا، اندفاع بعض القضاء والأجهزة الأمنية في ملاحقة بعض الناشطين بتهمة العمالة لإسرائيل، بهدف التغطية على إفراجهم المهين عن عامر الفاخوري، وأيضا عن أدبيات جبران باسيل في عدم الاختلاف الأيديولوجي مع إسرائيل وحقها في العيش بأمن وسلام. في حين أن رئيس الجمهورية ميشال عون يقفل أدراجه على التشكيلات القضائية التي أقرها مجلس القضاء الأعلى، ما يمثل ضربا لصميم مبدأ استقلالية القضاء، وهو المبدأ الأساس الذي رفعته 17 تشرين كأولوية تتقدم مطالبها.
سادسا، كشفت المفاوضات بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود وقبلها اعلان نبيه بري عن اتفاق الإطار، عن تحوّل محور الممانعة الى محور الترسيم الذي أسقط كل منطقه الممانع في الناقورة تحت شعار استثمار موارد لبنان الغازية والنفطية، وهو الترسيم الذي تعرّض بسببه ثنائي الترسيم حزب الله وحركة أمل الى تنمّر متواصل من بيئتهم ومن خارجها أيضا، كما يبدو أن تحالف مار مخايل “الحزبلّاهي العوني” تعرض بدوره لما بعد الاهتزاز خصوصا أنه كشف أن هدف التفاهم هو مجرد تقاسم للسلطة ومغانمها. وهو الأمر الذي لطالما سلّطت 17 تشرين الأضواء عليه، وشكل منطلق مطالبتها بإسقاط كامل منظومة الأمنيوم والترسيم.
سابعا، كشفت محاولات بعض المنظومة ممثلة بسعد الحريري لتشكيل حكومة تتبنى تنفيذ مبادرة ماكرون عن حجم الخلاف الذي يعصف بين أركان منظومة المحاصصة وخصوصا مع جبران باسيل المتطلع لوراثة كرسي جمهورية الأشلاء، والذي وصل به الأمر في سياق فيتو وضعه على تكليف الحريري بتشكيل الحكومة الماكرونية بعد اعتذار مصطفى أديب، الى حد التهديد بالذهاب لما هو أبعد من الفيدرالية.
ما تقدم يشي بأن الوضع اللبناني بات كقدر يغلي على نار مستعرة، يتسابق فيها إنضاج تسوية ما، مع اندلاع “حرب أهلية” جديدة تحدث عنها سعد الحريري في اطلالته الأخيرة، وتخوّف منها وليد جنبلاط الذي أبدى ندما حيال دوره في أحداث 7 أيار الشهيرة، وسرّب بعض الاعلام الممانع جاهزية رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع لخوضها بنحو 15 ألف مقاتل، مقابل طروحات باسيل التقسيمة أو الـ “ما بعد فدرالية”.
كل هذا فقط لأن 17 تشرين كشفت عبر حراكها السلمي وعرّت كل منظومة الفساد والسلطة والسلاح وميليشيا الأمونيوم والترسيم التي تخوض بكلها وكلكلها بالتكافل والتضامن آخر معاركها الدينكشوتية لإعادة إنتاج نفسها ولو في قعر جهنم.
رابط مختصر-https://arabsaustralia.com/?p=11729