مجله عرب استراليا -سيدني – لبننة القضية الفلسطينية عبر الانتخابات المرتقبة
بقلم الكاتب السياسي علي شندب .
بالأمس، أصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مراسيم إجراء الانتخابات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وتقسيمها على ثلاثة مراحل.. الانتخابات التشريعية بتاريخ 22 أيار/ مايو، الانتخابات الرئاسية بتاريخ 31 تموز/ يوليو ثم تلك المتعلقة بالمجلس الوطني الفلسطيني او برلمان منظمة التحرير الفلسطينية بتاريخ 31 آب/ أغسطس 2021. وقد شكلت مراسيم عباس الانتخابية اختراقا تنفيذيا للجمود الذي استحكم في العملية السياسية الفلسطينية، وترجمة عملية للوساطات والضمانات العربية والاقليمية والدولية بين طرفي الأزمة، السلطة الفلسطينية وحركة فتح من جهة، وحركة حماس من جهة ثانية.
سبق المراسيم الانتخابية توجيه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية رسالة لمحمود عباس ضمّنها موافقته على اجراء الانتخابات بالتوالي، فيما كانت شروط حماس تتمسك باجرائها بالتوازي. وقد تحدث هنية عن ضمانات اقليمية ودولية قدمتها رباعية جديدة تضم مصر، تركيا، قطر وروسيا، وهي غير تلك الرباعية المعنية بالمفاوضات بين الفلسطينين واسرائيل. ما يشي وكأن حجم الأزمة بين الفلسطينيين بات يوازي أو يفوق أزمة القضية الفلسطينية مع الاحتلال الاسرائيلي.
ثمة من يتساءل، ما الذي جمع بين تناقضات الرباعية الجديدة وخصوصا مصر من جهة وتركيا وقطر من جهة ثانية، وكيف بني التوافق بينهم على إشكالية مزمنة وبالغة التعقيد. فاضافة لدور روسيا التي تمتاز بعلاقات مع الدول الثلاث فضلا عن الاطراف الفلسطينية، لا بد من الانتباه الى المناخ الذي أشاعته قمة العلا لمجلس التعاون الخليجي والتي حضرتها مصر وانتهت بالمصالحة مع قطر.
انها المصالحة التي يبدو أنها انعكست على العلاقة مع تركيا، بما يساهم ايضا في عزل إيران عن الرباعية رغم وصف اسماعيل هنية لجنرالها قاسم سليماني المقتول في مطار بغداد بشهيد القدس. انه العزل الذي جحّظه بشكل لافت سفير مصر في واشنطن معتز زهران بقوله “لا يجب التعامل مع الملف النووي الايراني بمعزل عن التدخلات الايرانية في سائر الصراعات بالمنطقة”، وهي المنطقة التي يعتبر قادة الحرس الثوري الايراني أن غزة رأس حربة المواجهة فيها دفاعا عن ايران. وقد اعتبر كلام السفير المصري تجاه مخاطر تدخل ايران في الدول العربية أوضح مقاربة مصرية سيكون لها ما بعدها.
وبالعودة الى الانتخابات الفلسطينية المرتقبة، وهي اول انتخابات تقرر أن تجري منذ 15 عاما، أي بعد الانتخابات التشريعية التي أجريت في 25 يناير 2006 والتي أفصحت صناديقها عن أغلبية برلمانية لصالح حركة حماس. لكن حماس وبعد بضعة أشهر على فوزها الواضح سرعان ما انقلبت بتاريخ 14/6/2007 على السلطة الفلسطينية، وأحكمت عبر انقلابها المسلح سيطرتها بالقوة العسكرية على قطاع غزة في معركة قتل فيها العديد من كوادر الأجهزة الأمنية والشرطية التابعين لحركة فتح. سيطرة حماس المسلّحة على قطاع غزة، قابلها سيطرة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس على الضفة الغربية.
هذه السيطرة الانقسامية المزدوجة المرجعيات والولاءات والاجندات، كانت هدية غير منتظرة من قبل اسرائيل التي عملت على تعزيز سيطرة كلا الطرفين. فقد سهلت اسرائيل لحركة حماس ومكنتها بكل الوسائل من ادخال كل المعدات والآليات الشرطية فضلا عن الأموال القطرية وملحقاتها من وسائل الرعاية الاخرى من جهة، بنفس القدر الذي سهلت فيه إدخال كل المعدات الشرطية والاسلحة للاجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس من جهة اخرى، وذلك بهدف ابقاء ستاتيكو الوضع على ماهو عليه. فغاية الحلم الاسرائيلي ضمان وتعزيز الانفصال بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وبين القطاع والضفة والقدس ايضا، ما يحول القضية الفلسطينية الى مجرد كانتونات ممزقة ومتناقضة ومتصارعة.
ثم جرت مياه كثيرة حتى حصل اتفاق القاهرة عام 2011، لكن تفاصيل وتراكمات ما بعد الانقلاب والانقسام، ورفض حماس عودة أجهزة السلطة الى قطاع غزة وسط احتضان قطري تركي معلن داعم لتوجهات حماس، كلها عناصر أصابت اتفاق القاهرة بفشل ذريع، وبالتالي أدامت سيطرة الانقسام بين حماس والسلطة الفلسطينية.
ففي الوقت الذي استُهجن فيه استيلاد اتفاق اوسلو لسلطة فلسطينية مقطعة الأوصال الجغرافية، وكأن برنار لويس هو الذي صاغ خرائطها الديموغرافية والجغرافية والدينوغرافية، نجد بأن الانقسام بين حماس والسلطة قد ذهب لحد تكريس تلك الخرائط. لكن اسرائيل هي الطرف الذي يعرف كيف يغذّي هذه التناقضات بهدف الاستفادة القصوى منها، وهذا ما وجدت ضالتها المنشودة فيه.
فقد اكتشفت اسرائيل أن حماس وخلال ثلاث حروب على قطاع غزة في أعوام 2008/ 2009 و 2012 و 2014 أثبتت وبرهنت للاحتلال، ولدول الإقليم المجاور، كما ولدول الاقليم المتدخل في القضية الفلسطينية، أن بمقدرتها ضمان ضبط حركة السلاح في قطاع غزة، بدليل أن حماس عندما توافق على هدنة مع اسرائيل فإن طلقة رصاص واحدة لا تطلق باتجاه المستوطنات الاسرائيلية. وهذا ما لم يكن متوفرا في السلطة الفلسطينية عندما كانت تحكم سيطرتها على قطاع غزة. وهذا ما لم يستطعه محمود عباس عندما كان رئيسا للشعب الفلسطيني في الضفة وغزة والقدس.
فكثيرا ما كان ابو مازن يصطدم بأبناء حركة فتح المتمسكين بالكفاح المسلح بسبب مشروع التنسيق الأمني مع الاحتلال والمضي بملف المفاوضات. لكن اقتدار عباس بات متوفرا بعد الانقسام، فقد اجترح ابو مازن المبررات في ملاحقة المتمسكين بالكفاح المسلح من مناضلي فتح توجسّا ومخافة من اقدامهم على تنفيذ انقلاب عليه في الضفة الغربية على غرار الانقلاب الذي نفذته حماس في قطاع غزة، سيما وأن عباس مسكون بهاجس القيادي الفتحاوي محمد دحلان الذي يراه الكثير من الفتحاويين وريثا طبيعيا لعباس ورئيسا محتملا للسلطة المقبلة.
وبالعودة الى الانتخابات الفلسطينية المرتقبة والناجمة عن الضغوط التي مارستها رباعية روسيا، مصر، قطر وتركيا على حماس والسلطة الفلسطينية، فيبدو أن هذه المحاور الاقليمية تتنافس في سبيل تقديم نفسها للرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن على أنها تمتلك اوراق اللعب الرئيسية وبامكانها التأثير على طرفي الصراع الفلسطيني. لكن الاخطر من هذا الموضوع أن الانتخابات التشريعة المرتقبة في مايو المقبل ستشرع سلطة الانقلاب الى 30 سنة قادمة، لأن غاية حماس والسلطة من الانتخابات هي تجديد الشرعية والثقة الشعبية بهما.
ففقدان الشرعية أمر يسري على حركة حماس، تماما كما يسري على المجلس التشريعي والسلطة الفلسطينية. فجميعهم افتقدوا الشرعية وتجاوزوا المدة الزمنية القانونية. وفشلهم في حل مشكلاتهم البينية وهم عراة من رداء الشرعية، سيستمر بعدما يتحصلوا عليها من صناديق الانتخابات. ما يطرح الكثير من الأسئلة حول مآلات الصراع بين أطراف لم تعد منزوعة الشرعية. ما يعني أن الصراع سيتجدد على خلفية الأجندات المتصارعة في المنطقة، لكنه هذه المرة مسلحا بشرعية ايضا.
بعد الانتخابات التي ستتسلّح حماس بشرعيتها، ستمارس حماس الضغوط على محمود عباس او وريثه على كرسي السلطة وتدعوه الى مشاركتها في “المقاومة”، كما أن عباس او ريثه سيقول لحماس.. لا، تفضلوا انتم معنا الى الانخراط بمشروع المفاوضات مع اسرائيل. ما يعني ان الازدواجية اللبنانية سترخي بظلالها على المشهد الفلسطيني، بحيث تلعب حماس دور حزب الله في لبنان من خلال تمسكها بالمقاومة ومحاولة فرض أجندتها المعززة بشرعية مستولدة من صناديق الانتخابات على العمل الوطني الفلسطيني برمته.
بالمقابل سيعمد عباس او وريثه الايديولوجي وليس البيولوجي الى محاولة فرض أجندته على القضية الفلسطينية، لأنه لا يريد التعامل مع حماس المرتبطة بأجندة سيسمّيها ابو مازن “مشروع معادي”. وهنا تكمن الخطورة في الموضوع الذي يرجح أن يعيد الصراع بين طرفي اللعبة الفلسطينية الى نقطة الصفر، ما سيؤدي الى ترسيخ سلطات الانقسام المعزّزة بشرعيات انتخابية. وهنا يبدو السؤال مشروعا حول حقيقة وأبعاد الضمانات التي قدمتها الرباعية المصرية التركية القطرية الروسية.
كان يجدر بالتوازي مع اقرار الانتخابات الذهاب باتجاه توحيد السلاح الفلسطيني، وتشكيل أجهزة أمنية فلسطينية مهنية بحتة وقضاء فلسطيني بعيد عن التسييس ووزارات خدماتية بعيدة عن الانتماءات الفصائلية والولاءات السياسية العابرة لفلسطين. كما كان يجدر اعتبار السلطة الفلسطينية، جهة تنفيذية خدماتية لا علاقة لها بمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها المرجعية الأخيرة العليا للشعب الفلسطيني، والمخولة وحدها باعتماد أحد خياري المفاوضات او المقاومة.
وبالنظر الى التزمّت المتوقع من حركة حماس التي لم يفرج رئيس مكتبها السياسي اسماعيل هنية عن حقيقة ومضامين حواراته المطولة مع زعيم حزب الله في بيروت، وما اذا تمضمنها تلاقح فكري حول الانتخابات المقبلة، واستفادة حماس من تجربة حزب الله في السلطة الموازية. وبالنظر الى سنوات الصراع المرير عقب انقلاب حماس الدامي منتصف 2007، والتجارب غير المستفادة منه، واذا ما جرت الانتخابات بالشكل المتوقع والمتداول، فسيكون من المرجح جدا ازاء التعصب المتوقع من طرفي حماس والسلطة الفلسطينية بعد تجديد شرعيتهما الانزلاق باتجاه صيروة دولة في غزة، وبالحد الأقصى دولة في الضفة الغربية او تحويل الضفة الى كينونات كانتونية وهنا مكمن الخطورة ومقبرة القضية الفلسطينية، إلا إذا أفرزت صناديق الانتخابات نتائج تطيح بكل هذه المعادلات وهذا أمر بعيد التوقع.
رابط مختصر.. https://arabsaustralia.com/?p=13458