مجله عرب استراليا -سدني -بكائيات باسيل والمفاوضات اللادستورية – بقلم الكاتب السياسي علي شندب
لبنان في وضع سوبر مأساوي، وإن لم يبلغ حده الأقصى بعد. ما يعني أن مأسويته هذه مرشحة لتفاقم أكثر تعقيدا. فنظامه السياسي المتداعي يعيش ما بعد لفظ أنفاسه الأخيرة. فاتهام رئاسة الحكومة لرئيس الجمهورية بمخالفة الدستور في آلية تشكيل الوفد اللبناني لمفاوضات الترسيم مع إسرائيل، بدا بمثابة الزفير ما قبل الأخير لأنفاس النظام المتداعي.
“خرق الدستور” فعلة ارتكبها رئيس الجمهورية ميشال عون الذي دأب على تكرارها بحسب رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة. خرق، استدعى ردا ضعيفا من رئاسة الجمهورية التي تفسر الدستور باستنسابية معهودة، تحاول بحسب فقهاء في القانون الدستوري فرض أعرافا جديدة عبر استعادة صلاحيات طوى صفحتها دستور اتفاق الطائف الذي أعلن وكيل العهد القوي جبران باسيل الطلاق معه بالقول لا إمكانية للعيش مع هذا الدستور النتن والعفن.. الذي فُرض علينا بقوة المدافع والطائرات يوم 13 تشرين. وكأنّ من فُرض عليه الاتفاق كان يرشق اللبنانيون بالورود ولا يقصفهم بالدبابات والمدفعية في بيروت الغربية وتلة الخياط واليونسكو والضاحية وسوق الغرب وصولا الى شتوره.
ربما نسي باسيل أن الجيش اللبناني بقيادة ميشال عون عشية 13 تشرين كان عنوانا للانقسام السياسي والطائفي، وأن ورود ميشال عون المتناثرة قصفا وتدميرا مع نظرائه من أمراء الحرب اللبنانية، حوّلت الجيش الى ألوية مناطقية وطائفية ومذهبية انفضت عن قائده ميشال عون قبل لجوئه الى السفارة الفرنسية، ليُشحن لاحقا بالفرقاطات الحربية الى باريس بعد إعلانه الاستسلام وتسليم القيادة لآميل لحود.
الغريب في الأمر، أن 13 تشرين الذي كان يوما مجيدا للحركة الوطنية اللبنانية وضمنا حركة أمل، انتصروا فيه على الحالة الانقسامية التي جسّدتها حكومة ميشال عون العسكرية، بات يوما مجيدا للمهزومين الممعنين والمغالين في نكء جراح تلك المرحلة المؤلمة من تاريخ لبنان. وإن طيّ أحزاب الحركة الوطنية لصفحة تلك المرحلة ضنا بالمصالحة الوطنية في الجبل والتي أرساها البطريرك صفير مع وليد جنبلاط، سمحت لمستورث من توّهم نفسه نابليون لبنان باستعادة مظلومية طوى صفحتها تسليم ميشال عون وتياره باتفاق الطائف ومصادقتهم عليه ما أمن وجودهم في أعلى سلم السلطة أي رئاسة الجمهورية.
لكن المستورث باسيل، طرح خلال بكائيته المرضية في 13 تشرين تعديلات على الدستور الذي وصفه بالنتن والعفن، تتمثل ضمنا في تقييد مهلة استشارات رئيس الجمهورية للتكليف بشهر، واستشارات رئيس الحكومة للتأليف أيضا بشهر. تعديلات مقترحة على دستور الطائف الذي أبصر النور بعد حرب دونكيشوتية مدمرة كلفت عشرات الآف الضحايا. وبهذا المعنى فإن نزوع باسيل يشي وكأنّه يتحضر لحرب دونكيشوتية أخرى ربما يتشارك فيها مع نظراء آخرين، تمهيدا لتسوية مسمومة جديدة كتلك التي أبرمها سعد الحريري وأوصلت ميشال عون الى قصر بعبدا.
هذه المأساة الدموية المستعادة مناخاتها بشكل أحادي من قبل باسيل، الذي زامن إعلان شفائه من كورونا مع معافاة ترمب، تأتي في لحظة سياسية تتموضع فيها مأساة لبنان على فوّهة براكين تبدأ بانهيار اقتصادي، مالي واجتماعي كشفت عن حجمهم الكارثي والحقيقي ثورة 17 تشرين وصراخ اللبنانيين المسحوقين قهرا وذلا وجوعا على امالهم وطموحاتهم المسروقة وودائعهم المصرفية وأموالهم المنهوبة.
وقد ضاعف من خيبات اللبنانيين ومراراتهم المتناسلة مأساة انفجار مرفأ بيروت على يد منظومة الأمونيوم والفساد، حيث يعتبر حراك 17 تشرين أن “المستورث” المتباكي على 13 تشرين أحد أبرز أركانها سيّما وأن منجزات أيديهم وصلت الى شاي سريلانكا وأسماك موريتانيا.
أسلوب استحضار باسيل لبكائية 13 تشرين، يحمل في طياته نوايا استعادة الحرب لأجل الثأر الدونكيشوتي ايضا. رغم أن باسيل وعمه وحزبه يتحالفون اليوم مع من تسبّبوا بهزيمتهم وخصوصا سوريا، فيما يلوذون بتقديم كل التنازلات وأهمها خصوصا إضافة للإفراج عن جزار الخيام العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري، اعلان باسيل المتكرر عدم اختلافه الأيديولوجي مع إسرائيل كما وحقها بالعيش في أمن وسلام، علّهم بذلك ينجون من سيوف العقوبات الأميركية المسلطة فوق رؤوسهم ليس بسبب تحالفهم مع حزب الله فقط، وإنما أيضا بسبب قانون ماغنيتسكي العالمي الذي يفرض عقوبات على الفاسدين والمتهمين بالفساد.
هذا الكلام التفجيري، تزامن مع محاولة مأزومة من سعد الحريري للعودة الى كرسي رئاسة الوزراء من باب استنقاذ المبادرة الماكرونية بوصفها الامل الوحيد المتبقي لإنقاذ لبنان والتي سبق ودفنها الثنائي الشيعي الذي حمّل الحريري ورؤساء الحكومة السابقين مسؤولية إدارة محاولة مصطفى أديب تشكيل حكومة الاختصاصيين المستقلين قبيل اعتذاره بحسب ما صرحه ماكرون الذي تعرض لحفلة خيانة جماعية.
لكن مبادرة الحريري المأزومة تعرضت بدورها لانتكاسة قاسية قد تدفعه لسحب ترشحيه، انتكاسة تمثلت بتأجيل رئيس الجمهورية للاستشارات النيابية الملزمة أسبوعا اضافيا بناء لطلب بعض الكتل النيابية. قرار ميشال عون بتأجيل الاستشارات أتى بعدما تأكد أن أكثرية نيابية بينها كتلة وليد جنبلاط ستكلف الحريري تشكيل الحكومة. أكثرية نيابية ليس بينها القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر الذي سيكون خارج الحكومة لأول مرة منذ عام 2005.
يذكر أنه سبق للقوات اللبنانية والتيار العوني تسمية الحريري، فقدم اعتذاره عن تشكيل الحكومة احتراما لميثاقية أكثرية نيابية مسيحية. لكن الأكثرية المسيحية تجاوزت على ميثاقية الأكثرية النيابية السنية وكلّفت حسان دياب تشكيل الحكومة بتغطية نواب اللقاء التشاوري السنة الستة. انها السابقة التي سجلها ميشال عون وجبران باسيل خاصة. وهي السابقة نفسها التي يبدو أن سعد الحريري قرر تسجيلها والرد عليها مدعوما من رؤساء الحكومة السابقين تجاوزها بالمقابل معززا بتسمية أكثر من 20 نائبا مسيحيا مستقلا.
وبالعودة الى كلام باسيل التفجيري فقد سجل تزامنه مع انطلاق الجلسة الافتتاحية لمفاوضات ترسيم الحدود مع الكيان الاسرائيلي في الناقورة، والتي سبقها طعن رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وكالة عن حزب الله بعدم دستورية آلية تشكيل الوفد المفاوض. لكن عدم اكتراث ميشال عون بطعن رئاسة الحكومة الذي لم يمر مرور الكرام عند الثنائي الشيعي الذي فشلت جهوده في إقناع رئيس الجمهورية تعديل الوفد التفاوضي، دفع قيادتا حزب الله وحركة أمل الى مغادرة لغة الحوارات المغلقة مع ميشال عون، وإصدار بيان غير مغلق طالبا فيه رئيس الجمهورية بإعادة تشكيل الوفد المفاوض بما ينسجم مع اتفاق الإطار، الذي يحدّد تشكيلة الوفد ببعض الضباط التقنيين المختصين كي لا يتم الوقوع في فخ التطبيع، ولا يشمل أي موظف او دبلوماسي كما قرّر عون، الذي ذهب الى “الفخ” رافضا تقييد اتفاق الاطار له.
بدون شك، رئيس الجمهورية ومن خلفه وأمامه جبران باسيل لا يعتبران الدستور مقدسا، فكيف يسبغون القداسة على “اتفاق الإطار”؟ وهم بهذا إنما يردون عبر “تشكيلة الوفد”، على إقدام نبيه بري ممثلا لحزب الله ولنفسه على عزل ميشال عون عن مفاوضات اتفاق الإطار وإظهاره وكأنه “باش كاتب الجمهورية” وليس رئيسها القوي.
وفي هذا السياق ينبغي التمعّن في كلام باسيل ورصاصه السياسي الذي استهدف الحريري بوصفه الحلقة الأضعف في حلف التناغم المستعاد مع الثنائي الشيعي والتي يمكن لباسيل التصويب عليها بهدف محاصصة الحكومة الجديدة سياسيا او اختصاصيا او تكنوسياسيا.
ما تقدم يوجب النظر الى طعن رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب بآلية تشكيل الوفد المفاوض بكونه ينقض دستورية آلية رئيس الجمهورية في التشكيلة التفاوضية، في حين أن رفض الثنائي الشيعي لهذه التشكيلة ينزع عنهما جزءا وازنا من الشرعية السياسية، ويعني أن تفاهم مارمخايل تعرض لخروق حقيقية الا اذا تبين أن موقف الثنائي لا يعدو مجرد “تقية سياسية” ومناورة إعلامية لا غير.
وان تكامل النقض الدستوري، مع نزع الشرعية السياسية عن أداء ميشال عون هو تماما ما يحتاجه الثنائي الشيعي الذي يحاول تخفيف سهام الاحراجات التي أصابته من بيئته الضيقة، كما ومن طرف بيئات ورموز عروبية، ناصرية، يسارية، شيوعية، قومية سورية رفعت “المقاومة” ورفض التطبيع سلاحا وشعارا ومن قبل ولادة حزب الله ولم تزل، ووجدت في اتفاق الإطار كما أعلنه نبيه بري اعترافا بإسرائيل وبداية للتطبيع معها رغم نفي أطراف جمهورية الأشلاء لذلك.
انه الاعتراف بإسرائيل ذاك الذي جحّظه اتفاق الاطار، وأكده سلوك أطراف سياسية ما فتئت تثير بعض الأغبرة والقنابل الدخانية مثل دستورية وعدم شرعية آلية تشكيل الوفد المفاوض بهدف ذر الرماد في عيون الحقيقة في “البيئات المقاومة” التي تقول أيضا، بأن الولايات المتحدة التي تفرض عقوبات اقتصادية ومالية على لبنان بسبب حزب الله المصنف لديها وبعض الدول الأوروبية تنظيما ارهابيا، سوف لن تسمح للبنان باستخراج ليتر نفط واحد في ظل سلاح حزب الله وصواريخه الدقيقة والتي ستفك خرائط الترسيم البحرية والبرية صواعقها التفجيرية، وكما ستقطع طريقها الى القدس التي تنبأ نصرالله لنفسه بأن يصلي فيها ذات يوم.
أخيرا، فان انطلاق مفاوضات الترسيم مع إسرائيل برعاية أميركية وبغض النظر عن الأعراض الجانبية التي خلّفتها في الجسد اللبناني المنهك والمثخن بالجراح النازفات اصلا، هو ما يحتاجه دونالد ترمب في معركته الانتخابية التي في ضوء نتائجها ترتسم معالم المرحلة المقبلة في لبنان وكامل المنطقة، وخلال هذا الوقت المستقطع حمى الله لبنان من حماقات مستولدي الكهرباء من بكائيات 13 تشرين وطحاني الهواء الجدد.
رابط مختصر –https://arabsaustralia.com/?p=11648