مجلة عرب أستراليا سدني -دولة الحزب ولا دولة لبنان
بقلم :علي شندب
لم يخطىء زعيم حزب الله بتحديد عام استقلال لبنان كما ظنّ كثيرون. وعندما أسعفه أحد معاونيه بورقة تقول أن الاستقلال حصل عام 1943 وليس 1948 كما ذكر، لم ترقى ردة فعله لمستوى إبداء الأسف عن خطئه غير المقصود، بل أكمل حديثه مخلفاً موجات من التهكم عليه بسبب تجهيله عيد استقلال لبنان.
لم يُعلن أن الرجل أصيب بالزهايمر حتى يُقال أن ذاكرته تخونه. وبخلاف الاحتفال المدني فيبدو أن الاحتفال الرسمي بالاستقلال وكأنه يجري للمرة الأخيرة. فقد كان أشبه بمأتم حزين لبلد دخل مرحلة النزع الأخير، ما سوّغ لنصرالله إحكام صليته التي هزّت تاريخ الاستقلال بانتظار اللحظة المناسبة التي يحدّد فيها تاريخ العيد وفقاً لأجندته الأيديوسياسية المنتصبة على أيرنة لبنان والمتفرعة من تغوّل إيران في المنطقة.
فالأعياد والمناسبات التي لا يمكن لنصرالله أن يخطىء فيها لا عفواً ولا قصداً ويحفظها عن ظهر قلب هي تلك المنبثقة من تحت أقدام مقاتليه ليس في جنوب لبنان، بل في الدواخل العربية وخصوصا في اليمن التي يعتزّ نصرالله بالوقوف مع حوثييها أكثر من اعتزازه بالوقوف الى جانب فلسطين، التي بدا واضحاً حتى للعميان أنها لم تعد سوى مجرد شعار استهلاكي “لحشو الجماهير تبناً وقشاً” وتركهم بالإذن من نزار قباني “يعلكون الهواء”. هذا ما أكدته وقائع التغوّل والتوّغل الإيراني كما رسمها خامنئي الذي كلّما أكثر من نظم قصائد العشق لفلسطين، كلّما خاضت إيران أذرعها في البلاد العربية.
حزب الله يتصرف كدولة أمر واقع تستكمل سراديب سيطرتها في كل اتجاه، ولعلّ تصويب نصرالله المركّز على القضاء أبعد من أحجية عزل المحقق العدلي في إنفجار مرفأ بيروت، تماماً كما أن إستقالة وزير الإعلام المسكين جورج قرداحي الممنوعة حزبلاهياً، أبعد بكثير من كلام نصرالله وحزبه عن الكرامة والسيادة. ويشكّل تصويب حزب الله على النفوذ الأميركي في إدارات وأجهزة الدولة وضمناً الجيش اللبناني الذي تُشنّ على قيادته حملة هوجاء ظاهرها الدفاع عن صحفي وصف أداء قيادة الجيش بـ “الحمرنة”، وباطنها استكمال حلقات سيطرة دولة الحزب على “لا دولة الدولة”.
ولأجل بسط سلطة دولته، اعتمد الحزب مروحة من المسارات المؤدية لذلك. ولعلّ تحرير الجنوب من الإحتلال الاسرائيلي أحد أبرز العناصر التي تجعل نصرالله يهمّش تاريخ عيد الاستقلال. كما إن مكرمات دولة الحزب المازوتية أمام انهيار الدولة البائن، مدماك آخر في دولة الحزب التي تمتلك جيشاً من مئة ألف مقاتل، في الوقت الذي يتسوّل فيه الجيش اللبناني وجبة طعامه من أرصفة الدول الكبرى والصغرى.
لا شيء يقف في طريق دولة الحزب. وقد تعمّد نصرالله التقليل من أهمية العقوبات الدولية المتصاعدة في تصنيف حزبه تنظيماً ارهابياً وآخرهم استراليا، الدولة العضو في تحالف ثلاثي يضمها مع الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد بدت العقوبات الاسترالية على حزب الله استكمالية للصفعة التي تلقتها فرنسا بإلغاء صفقة الغوّاصات. ثمة فيتو مكعب من تحالف “أوكوس” على الدور الفرنسي المتسلّل من لحظة إعلان بايدن عن الإنسحاب الأميركي من المنطقة بدءاً من أفغانستان.
أكثر من جحّظ حزب الله كدولة هو ايمانويل ماكرون. فرئيس فرنسا المفجوع بانفجار مرفأ بيروت نزل عند مطالب دولة الحزب التجويفية لمبادرته. أولاً، بالغاء بند الانتخابات المبكرة. ثانياً، بموافقته على تخصيص الثنائي الشيعي بوزارة المالية، ما دفع مصطفى أديب لمغادرة مربع تشكيل الحكومة، ليلحق به سعد الحريري بفعل فيتو ميشال عون إقصاءاً ثم إعتذاراً.
لكن النقطة المفصلية في تجحيظ دولة الحزب، كانت في التصريح المزدوج والمتقن لكلّ من الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي ونظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون عقب اتصال هاتفي شهير بينهما. يومها نضح الرجلان كلاماً واحداً ومتطابقاً في وضوحه. ففيما اعتبر رئيسي أنَّ “بذل الجهود والمساعي، من جانب إيران وفرنسا وحزب الله، من أجل تأليف حكومة لبنانية قوية، يمكن أن يكون لمصلحة لبنان”، أكد ماكرون على “ضرورة تعاون فرنسا وإيران، إلى جانب حزب الله، من أجل تأليف حكومة لبنانية قوية”.
لا حاجة لتفسير المدلولات الاستراتيجية المتطابقة لتصريحي ماكرون ورئيسي، يكفي أنهما تعاملا مع حزب الله بمرتبة دولة. وقد بات كلام ماكرون ورئيسي بمثابة المبادرة البديلة عن المبادرة الفرنسية، والتي أسماها كاتب هذه السطور بالمبادرة “الماكريسية” التي ما إن تمخّض عنها استيلاد حكومة نجيب ميقاتي، حتى دخلت مخاض التعطيل وتصريف الأعمال على خلفيتي تنحية المحقق العدلي وإقالة القرداحي ربطاً بتصريحه العبثي عن اليمن.
ليس تفصيلاً بسيطاً أن تمتدح السعودية قرار استراليا واعتبارها حزب الله تنظيماً إرهابياً. فامتداح المملكة يستبطن رسالة استباقية لماكرون الذي عبث بالتوازنات الإقليمية ودور السعودية المركزي في رعاية اتفاق الطائف، لصالح توازنات ماكريسية جديدة منتصبة على التغوّل الإيراني في المنطقة. أولى ثمار توازنات الماكريسية عقد بقيمة 27 مليار دولار أبرمته شركة توتال الفرنسية مع العراق بتسهيل إيراني معلوم. وثاني ثمارها التي يسيل لعاب ماكرون لأجلها عقد موعود في جنوبي لبنان بعد انتهاء مفاوضات الترسيم.
بهذا المعنى، ثمة شعور مسيحي جديد مفاده، أن فرنسا لم تعد الأم الحنون لأنها باعتهم بدراهم من الفضة، فيمّموا وجههم شطر المملكة العربية السعودية. كما أن ثمة شعور لبعض ساسة سنّة لبنان (وفي مقدمتهم نجيب ميقاتي او مالك الحزين كما وصّفه رئيس نواب دولة الحزب محمد رعد)، أن السعودية لم تعد ظهيرهم وأمهم الحنون فيمّموا وجههم شطر فرنسا. وللمفارقة أن ميقاتي وقبله سعد الحريري وغالبية ساسة سنّة لبنان يردّدون أن السعودية قبلتهم الدينية والسياسية، لكنّهم وللمفارقة المخجلة يقرعون أبوابها من واشنطن وباريس ومؤخراً الفاتيكان.
هو العبث بتوازنات لبنان والمنطقة ذلك الذي فعله ماكرون طمعاً بدراهم الفضة، لصالح توازنات جديدة تكرّس ايران القوة الإقليمية الصاعدة في المنطقة. وهو العبث الذي استشعرت السعودية مخاطره المحدقة خصوصاً بعد محاولة اغتيال مصطفى الكاظمي الذي كان ضمناً إغتيالاً لطاولة الحوار الايراني السعودي في بغداد، وقد أطاح قرار السعودية بمؤازرة غالبية دول الخليج بسحب سفرائهم من بيروت وطرد سفراء لبنان فضلاً عن مقاطعة منتجاته، أطاح بتوازنات ماكرون رئيسي والتي قد تستتبع من طرف السعودية والخليج بخطوات مؤلمة اذا لم تضع دولة لبنان حداً لدولة الحزب، وهذا ما تعجز دولة لبنان عن تحملهما.
وسط هذا العبث يحلّق سعر الدولار الى مستوى غير مسبوق، وتتهاوى أنظمة الأمان الاقتصادي والمالي والاجتماعي في لبنان الى مستوى غير مسبوق أيضا، وبات الكلام عن الارتطام الكبير والانفجار الكبير على كل شفة ولسان، وبات الجوع والإفقار الممنهج يلف اللبنانيين الذين أخذوا يركبون قوارب الموت فراراً من جهنم التي بشرهم بها ميشال عون. وسوف يجعلنا الانفجار الكبير نترحم على مظاهرات 17 تشرين التي لم تعد حناجرها بمستوى مخاطر منظومة النيترانيوم والفساد والكابتغون.
وسط هذا العبث تبسط دولة الحزب نفوذها بعدما تضخم حجمها وبات أكبر من إمكانيات لبنان وقدراته الجغرافية والاقتصادية والبشرية، ويتبدى زعيم حزب الله مستهيناً وغير آبه بتصنيف حزبه تنظيماً إرهابياً، وفي تسطيح مقصود أعاد نصرالله سبب التصنيف والعقوبات المصاحبة له لغرضية الأجنبي في التأثير على الانتخابات النيابية، لكن دولة الحزب التي يهمها الحفاظ على الاكثرية النيابية لن تأبه كثيراً لخسارتها تلك الأكثرية اذا ما تحقّقت، فمعادلة دولة الحزب الاستراتيجية منتصبة على مئة ألف مقاتل وليس على حفنة نواب.
إزاء فوائض القوة المترامية الأطراف بين حدي منصّات الصواريخ جنوباً وبقاعاً، ومنصّات الصهاريج جبلاً وشمالاً، وأمام صعوبة فصل دبس الحزب عن طحينة الدولة، وأمام إطلالة ملامح فوضى غير مسبوقة تواكبها تقارير وتسريبات أمنية ودبلوماسية محلية وأجنبية عن عودة شبح الاغتيالات السياسية ليخيم على المشهد اللبناني الذي تشي مناخاته وكأنه أمام اغتيال سياسي كبير مشابه لاغتيال رفيق الحريري لتليين الرؤوس والتضاريس الحامية وانجاز اللمسات الأخيرة على تموضعات لبنان اتساقاً مع توازن قوى جديد ربما تتسيّد فيه ايران اقليمياً وروسيا لا فرنسا دولياً.
في فقه البادية والرعاة، “ردّة الكبش” الى الوراء هي لتزخيم الهجوم القوي الى الأمام. انكفاءة السعودية عن لبنان لم تخرجها منه أو تخرجه منها ومن العرب عامة، وقد بيّنت تطورات الأزمة أن موقف السعودية انطلاقا من اجراءاتها قد عصف بتوافقات ماكرون رئيسي حول المنطقة بهدف محاولة فرض وقائع جيواستراتيجية على مفاوضات فيينا النووية التي سترسم نتائجها النهائية التضاريس الحقيقية لخطوط النفوذ الدولية والاقليمية في المنطقة، وعندها ربما يعمد حزب الله الى اعلان دولته ورسم حدودها الجغرافيا ويطلب من العالم الاعتراف بها بدل استمراره في الاختباء وراء هياكل دولة لبنان التي تعصف بمضاربها رياح التفكّك لينزلق لبنان سريعاً وفق مآلات ما بعد فيينا باتجاهات التقسيم أو الفدرلة دون أن تنفعه ضمانات نجيب ميقاتي الخارجية وحسن تدويره لزوايا الخوزقة الداخلية سيما وأنه تفوق حتى على جورج قرداحي فاستعان بصديقين اثنين وللمفارقة ليس بينهم عربي واحد.
رابط مختصر –https://arabsaustralia.com/?p=20499