مجلة عرب أستراليا سيدني
السودان وحكم الأقلية للأكثرية
بقلم الكاتب علي شندب
بعد نحو عشرة أيام على إندلاع حرب السودان، تصاعدت حمّى الدول الغربية لإجلاء رعاياهم من البلد المنكوب. إجلاء خضع لمكابرات ومناورات تبين أنها تستبطن ما هو أبعد من الخوف على رعاياها ودبلوماسييها. وقد علّمتنا وقائع الحروب الأطلسية على البلاد العربية مثل ليبيا والعراق، أن إجلاء الرعايا مقدمة لشطب هذا البلد أو ذاك من الخريطة وتحويله أثراً بعد عين.
لكن هل يحمل الصراع بين قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” والجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان أبعاداً تستولد تداعيات خطيرة؟ وهل يبقى الصراع محصوراً بين هذين الطرفين، أم ينضم إليه قوى سودانية مسلحة أخرى؟ وهل يبقى الإحتراب بين الأطراف السودانية أم يدخل المستثمرون الأجانب على خط مصيبة السودان ويعملوا على تنفيذ أجنداتهم الما بعد خطيرة؟.
ما تقدّم طرحه يرتقي لمستوى الأجوبة. ولتصويب النقاش وعدم تسخيفه كما يفعل عفواً أو قصداً كثير من الفضائيات وبعض خبراء التحليل السياسي، دعونا نثبّت أن هذا الصراع ليس “حرب جنرالين”، أو حرب الجيش السوداني مع قوات الدعم السريع. فهذه عناوين ومسمّيات لصراع حقيقي جوهري تاريخي متناسل بأشكال مختلفة منذ إستقلال السودان عن المحتل الانكليزي.
إنّها حرب “حكم الأقلية” للأكثرية. إنها حرب عهود تناوب فيها على سدة حكم السودان 3 قبائل من أصل 570 قبيلة، كما تناوب على قيادة الانقلابات ضد أنظمة الحكم هذه معارضة من ذات القبائل الثلاثة. فحكّام السودان كما الانقلابيين عليهم هم من هذه القبائل الثلاثة (دنقلاي، جعلي، شايقي)، والتي تسمّى تلطيفاً “نخبة النيل” من الشمال المُمسكة بمقاليد السلطة حكماً ومعارضة منذ ما بعد الاستقلال حتى اليوم. وهي النخبة التي أعمتها السلطة عن حل ومعالجة مشكلات السودان الحقيقية والعميقة، بل وتمارس الإزدراء والإحتقار بحق غيرها من القبائل العربية منها أو تلك الافريقية.
أقليّة قبلية لا يتجاوز عديدها في أحسن الأحوال ثلاثة ملايين نسمة، في حين أن قبائل إقليم دارفور لوحدها تزيد عن ستة ملايين نسمة، وعند تفجّر الصراع المسلّح في دارفور بين الدولة وبعض قبائل دارفور الإفريقية فضلاً عن المهربين وتجار السلاح،لجأت حكومة عمر البشير إلى دعم مجاميع شعبية من أبناء القبائل العربية في دارفور لمواجهة غزوات بعض امتدادات القبائل الإفريقية عبر الحدود، وقد اصطُلح على تسمية تلك المجاميع بـ “الجنجويد” الذين لطالما امتدحت الأقلية الحاكمة أو نخبة النيل بطولاتهم في دارفور، لأنهم يقاتلون حيث فشل الجيش السوداني، لأن الجنجويد هم أبناء الأرض في حين أن عناصر الجيش هم من مناطق السودان المختلفة. ثم حول عمر البشير “الجنجويد” إلى كيان قانوني رسمي باسم “قوات الدعم السريع” تتبع لرئيس الجمهورية وليس لقيادة الجيش أو وزارة الدفاع، ومن هنا نشأت الثنائية العسكرية الأمنية الرسمية في الدولة السوانية، فضلاً عن فصائل المعارضة المسلحة التي تقاتل القوات الرسمية السودانية، وبرز محمد حمدان دقلو (حميدتي) كحيثية ورمزية خاصة لأبناء القبائل العربية في الصحراء السودانية وغير السودانية.
عندما اندلعت ثورة الحرية والتغيير ضد حكم البشير، إنحاز حميدتي إلى جانب الثورة ضد البشير، ما وضعه في قمّة هرمية السلطة المنبثقة عن الثورة ضد البشير وبات نائباً لرئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان. وصول حميدتي لهذا الموقع السياسي الثوري شكل محطة رفعت منسوب الأمل لكلّ المهمّشين من “نخبة النيل”. وكرّس مشهد ما بعد البشير “ثنائية الجيش والدعم” من الناحية العسكرية والأمنية، أو ثنائية حميدتي والبرهان. وعندما طرح موضوع دمج الدعم السريع في الجيش استجابة للاتفاق الإطاري الذي ستنتقل بموجبه السلطة إلى حكم مدني بالكامل، وقع الخلاف بين حميدتي والبرهان، وهو خلاف جوهري، سيما وأن الدعم السريع في قانون تأسيسه يتبع رئيس الدولة وليس وزارة الدفاع أو قيادة الجيش. أي أنه لا سيادة للجيش على الدعم السريع، وهنا وقعت الإشكالية عندما اشترط البرهان إخضاع مراتب وضباط الدعم السريع للتقييم من قبل الجيش، الأمر الذي رفضه حميدتي والذي طالب بلجنة مشتركة من الدعم والجيش تنظر في تقييمات مراتب الدعم والجيش معاً، وهو ما رفضه البرهان تماماً كما رفض التوقيع على الإتفاق السياسي الذي وقعه حميدتي ثم اندلعت الحرب الطاحنة. لأن حميدتي من وجهة نظر النخبة التقليدية الحاكمة مسّ بمقدسات وصيرورة نظام الحكم العميق وهو الجيش والمسيطر عليه من قبل جنرالات لا يخفي بعضها انتمائه الإخواني. وهي الجنرالات التي عندما شعرت باستحالة استمرار البشير عملت على تنحيته وعيّنت مكانه وزير الدفاع عوض بن عوف لكنه قوبل برفض قوى الثورة التغيير فاستقال ليُعيّن مكانه الفريق عبد الفتاح البرهان، بمعنى أدق أن النخبة العسكرية امتصّت نقمة الناس وغضبها في إزاحة رأس النظام وواجهته عمر البشير واستبدلته بآخر، فيما المطلوب شعبياً هو إزاحة النظام من أساسه واستبداله وهو ما تمثله مطالب حميدتي قبل الحرب وبعدها.
إذن السودان أمام ثنائية عسكرية، فإذا كان الجيش السوداني معروف بتنوع أسلحته وهيكليته وأفرعه المختلفة فضلاً عن موازناته السرية والعلنية، فإن الدعم السريع لم يعد مجرد مجاميع عسكرية، بل فقد أصبح سلطة موازية لسلطة الجيش، له ثكناته ومقرّاته واستثماراته وتجارته وعلاقاته الخارجية مع الدول العربية والخليجية والأجنبية، كما كان للدعم السريع مشاركته العسكرية البارزة ضمن قوات التحالف بقيادة السعودية في مواجهة الحوثيين، وهي المشاركة التي عزّزت من مكانته لدى بعض الخارج العربي والدولي. ما يعني أنه من الصعب النظر إلى الدعم السريع كميليشيا ينبغي إخضاعها وترويضها سيما وأنها باتت عنواناً لتصحيح الخلل البنيوي المزمن في النظام السوداني.
رابط مختصر-https://arabsaustralia.com/?p=29010