مجلة عرب أستراليا سيدني
إغتيال الرفاعي والفتنة الموؤدة
بقلم الكاتب علي شندب
وسط حشد شعبي وعلمائي حزين وغاضب، شيّعت بلدة القرقف في عكار ابنها وإمام مسجدها الشيخ أحمد شعيب الرفاعي، لتطوي بذلك صفحة خطيرة من القلق والشائعات التي انطلقت مع اختفائه قبل أن يُعلن اختطافه على يد مجهولين وصولاً إلى العثور على جثته. ولتفتح صفحة أخرى تماماً على بلدة القرقف وعائلة الرفاعي بوصفها عائلة علم وتقوى وطريقة لها حضورها العميق في وجدان المسلمين في عكار خاصة وعلى مدى انتشارها في لبنان والعالم العربي عامة.
جريمة اختطاف واغتيال الشيخ احمد الرفاعي تحوّلت إلى قضية رأي عام، وشكلت قلقاً وتوجساً كبيراً ليس على مستوى عكار وطرابلس بوصفها مسرح الجريمة، وإنما على مستوى المرجعيات الدينية والرسمية والأمنية والقضائية في لبنان. وبدت الجريمة قبل أن يُماط اللثام عن تفاصيلها المُرعبة وكأنها “عود الثقاب المنتظر” الذي سيشعل الساحة اللبنانية ويدفعها الى الانفجار والفوضى الأهلية والأمنية الشاملة التي وللمناسبة هي قاب قوسين أو أدنى من الاندلاع ربطاً بكل أشكال الانهيارات المتوالية التي عصفت ولم تزل تعصف بلبنان.
فجأة شعر اللبنانيون وأبناء طرابلس وعكار خاصة أن الأرض تهتزّ من تحتهم، فقد أنستهم الجريمة تداعيات زلزال تركيا وسوريا والهزّات الطبيعة المتوالية على لبنان. كما استشعروا لعدة أيام مخاطر اندلاع مخططات حرب خطيرة تستهدفهم، سيّما وأن طرابلس والضنية وعكار أو ما يمكن تسميته بـ “المثلّث السنّي” هي الجغرافيا الوحيدة الخارجة عن السيطرة الإيرانية الفعلية من طهران الى جنوب لبنان. كما إنها الجغرافيا الأكثر فقراً وإهمالاً والتي يعمل حزب الله الى التسلّل اليها عبر قوته الناعمة المتمثلة بتوفير المازوت وبعض الخدمات ومنها المساعدات المالية لضحايا انفجار صهريج الوقود بلدة التليل منذ عامين.
بهذا المعنى كان لتصريحات النائب السابق خالد ضاهر، والضابط المتقاعد عميد حمّود اللذان “اتهما الأجهزة الأمنية بتنفيذ جريمة اختطاف الشيخ احمد الرفاعي لصالح الحرس الثوري وحزب الله، وأتبعوا موقفهم هذا بالدعوة إلى نوع من التسلّح للحماية الذاتية في ظل تقاعس وتواطؤ الأجهزة الأمنية والعسكرية”، الأمر الذي قوبل بالاستهجان على مواقع التواصل، ووصف بالكلام المسموم والمتهور الذي يُراد منه الفتنة المذهبية، من قبل متعيشين على الفتن والحروب الصغيرة. بل إن بعض الأشخاص ممن كانوا يدورون في فلكهما، أطلقوا تسجيلات صوتية يحذرون فيها الشباب من مغبة الانجرار الى الفتنة التي تلوح بالأفق خصوصاً بعد دخول رئيس حزب القوات سمير جعجع على الخط من باب إبداء القلق على الجريمة التي لسوء حظهم وحسن حظ البلد لم يرتكبها حزب الله.
لكن موقف أهل الشيخ احمد الرفاعي أولاً، ومواقف دار الفتوى بشخص مفتي الجمهورية ومفتي طرابلس ومفتي عكار، التي نبهت من الانجرار إلى الفتنة، وانتظار نتائج التحقيق الرسمي قد شكلت سدّاً حقيقياً فوّت الفرصة على المتعيشين على الفتن والغوغاء الذين يجيدون الاستثمار الغرائزي بها. وقد حسم بيان قوى الأمن الداخلي أن الجريمة عائلية بكل المقاييس، وأن مرتكبي عملية الخطف والقتل هم أقرباء الشيخ المغدور الذي استدرجته امرأة طلباً لمساعدة مالية ملحة، وحدّدت له موعدا في شارع متفرع من الاوستراد الرئيسي خلف الجامعة العربية، وهو شارع غير مأهول وغير مزدحم مساء في منطقة “رأس الصخر” التي لها سوابق سيئة في أذهان الطرابلسيين المفتوحة باتجاه طرقات عدة، من شأنها تعزيز فرضية اختطافه من قبل حزب الله، ما يدل على أنّ الخاطفين القتلة قد خططوا وكما أوضحت مصادر التحقيق لجريمتهم بهدوء.
وقد حسم موقف مفتي عكار الشيخ زيد بكار زكريا الجدل، بأن دوافع الجريمة محض عائلية، وبأن لا دوافع سياسية للجريمة مطلقاً. وعند هذا الحد وُئدت الفتنة المذهبية في مهدها، وهي الفتنة الوحيدة القابلة اذا ما اندلعت لإشعال لبنان، وبوأدها على لسان أهل الفقيد والمرجعيات الدينية في دار الفتوى تنفّس حزب الله بعد صمت مطبق الصعداء و”تقدّم بالعزاء من آل الرفاعي وأهالي عكار ودار الفتوى وعموم المفتين الكرام وأدان الجريمة التي أَودت بِحياة الشيخ أحمد شعيب الرفاعي، وأشاد بالدور الهام الذي قام به فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي الذي أماط اللثام بسرعة وكفاءة عن هذه الجريمة النكراء درءاً للفتنة ومنعاً للإستغلال السياسي” وفي صلية محكمة استعرض حزب الله “مظلوميته” من اتهامات باطلة وجهت اليه، وطالب”الأجهزة الأمنية والقضائية العمل بكل قوة لمحاسبة المحرضين الذين نشروا الشائعات الكاذبة وضللوا التحقيق الأمني وعملوا على زرع الفتنة وضرب الوحدة والإستقرار، مؤكداً “تمسكه بحقه الكامل في مقاضاتهم أمام المحاكم المختصة لينالوا العقاب الرادع والجزاء الذي يستحقون”.
والحقيقة أن الاتهامات الجزافية ضد حزب الله قدّمت له هدية غير منتظرة، سيستغلها الحزب لدحض كل ما يمكن أن يوصم به، وسيعمل على تلميع صورته والقول بأنه متهم زوراً وبهتاناً. لكنّ هذه الواقعة تفرض على حزب الله إجراء مراجعة عميقة تحتّم عليه المبادرة التلقائية إلى إلغاء “سرايا المقاومة” (التي يتردّد أن لها امتداد في القرقف) وسحبها من المناطق غير المتداخلة، لأن أهالي هذه المناطق ينظرون إليها بوصفها إختراق مشبوه لمناطقهم وبيئاتهم. وقبل بيان مظلومية حزب الله، كان للمديرية العامة للأمن العام وقبل جلاء معالم الجريمة وفك رموزها، بيان عنيف توعّدت فيه المحرضين ضدّها، بالإدعاء عليهم أمام المحاكم المختصة.
وبعيداً عن الهدايا المنتظرة وغير المنتظرة، فقد بيّنت جريمة اغتيال الرفاعي، أن التحلّل والتفكّك تجاوز جسد الدولة ومؤسّساتها المختلفة وضمناً بلدياتها، ليصل إلى حدّ تفكّك أبناء القرية الواحدة، والعائلة الواحدة، وما أصاب عائلة الرفاعي المشهود لها التزامها القيم الإيمانية والدينية من ابتلاء خطير، دليل على حجم التفكّك الذي ضرب أعماق المجتمع اللبناني.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
رابط مختصر- https://arabsaustralia.com/?p=28021