spot_img
spot_imgspot_img

إصدارات المجلة

العدد 52

آخر المقالات

هاني الترك OAMـ أستراليا الحائرة بين أميركا والصين  

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتب هاني الترك OAM أثنت الصحيفة...

صرخة تحت الركام: حكاية نازح لبناني صحا ليجد أحلامه أنقاضاً

مجلة عرب أستراليا ـ صرخة تحت الركام: حكاية نازح...

هاني الترك OAM ــ  الحظ السعيد

مجلة عرب أسترالياــ بقلم الكاتب هاني الترك OAM إني لا...

عصام جميل ـ قصة قصيرة..مكتب تشغيل نانغارورا

مجلة عرب أستراليا سيدني- قصة قصيرة..مكتب تشغيل نانغارورا

بقلم عصام جميل

عصام جميل
عصام جميل

بقدر ما كانت الآنسة جولي فَرِحة لاستلام رسالة قبولها في ألوظيفة الشاغرة إلا إنها شعرت بالقلق لفحوى الاسطر الاخيرة من الرسالة والتي نصّت على ان الوظيفة المعنية سوف تكون لثلاثة اشهر قابلة للتمديد‫.‬ والواقع إن قبولها بالوظيفة الجديدة لم يأخذ منها الكثير من التفكير والتردد ،فعملها الحالي كبائعة في متجر البسة بدوام جزئي لم يكن يوفر لها ما يسدد احتياجات المعيشة المتزايدة ولا يكفي لدفع اجور النزل المتواضع الذي تستأجره. كانت جولي تتمتع بحصافة ورجاحة عقل تفوق سني عمرها الثامنة والعشرين، ولعل هذا ما جعل ابويها يشعران بالاطمئنان لابتعاد إبنتهما الوحيدة وقرارها ألابتعاد عن منزل العائلة الريفي للاستقرار و العمل في المدينة بمفردها‫,‬ ولكن ها هي الاقدار تعود بها الى الارياف من جديد، فالمكتب الذي ستعمل به يقع في منطقة نانغارورا التي تبعد عن أقرب مدينة مئات الأميال ، كما إنه ضاعف الشقّة بينها وبين ذويها لأن نانغارورا تقع في إلاتجاه المعاكس لبيت ذويها‫.‬
كانت طبيعة العمل الجديد هي مساعدة العاطلين عن العمل في البحث عن وظائف شاغرة عن طريق مكتب فرعي يرتبط بشركة كبيرة لخدمات التشغيل والتوظيف تبسط نفوذها في ارجاء القارة الاسترالية الواسعة. ولعل إسم هذه الشركة العريق وأتساع هيمنتها على سوق خدمات التشغيل هو الذي جعل جولي تغامر بقبول الوظيفة الجديدة رغم قلقها من أن لا تُمَدد لأكثر من ثلاثة اشهر‫.‬
قبل أن تشد رحالها الى مكان عملها الجديد أُدخِلت جولي في دورة تدريبية مكثفة تعلمت فيها طرق التعامل مع الباحثين عن عمل وكيفية إرتباط عملها بشكل غير مباشر بهيئة الرعاية الاجتماعية التي تعتمد بشكل كبير على التقارير التي تقدمها مكاتب خدمات التشغيل. غير أن أهم شئ كُشِف لها أثناء مواظبتها على هذه الدورة المكثفة هو معرفتها لسر الثلاثة أشهر التي حُدِدَت لهذه الوظيفة، حيث استطاعت جولي أن تستنطق إحدى الموظفات في الشركة والتي أسَرَّت لها بأن فرع مكتب خدمات الشغيل الجديد قد جاء إفتتاحه في ذلك المكان القصي بناء على توصية من أحد نواب الكتلة العمالية في البرلمان في محاولة منه لتقديم خدمات لأهالي المنطقة ترفع من فرص ترشيحه عن كتلته. وهكذا فان وجود واستمرار مكتب التشغيل هذا كان مرهون بمدى فعاليته وبالخدمات التي يمكن ان يقدمها للعامة خلال الثلاثة أشهر الاولى ، ذلك إن كل شركات خدمات التشغيل تعتمد في وجودها على المعونات الحكومية المُقَدَمة لمثل هذا النوع من الخدمات . والواقع إن معرفتها بهذه الامور قد كثَّفَ من قلقها حول أمكانية عدم تمديد العقد المبرم لفترة أطول من ثلاثة أشهر. على أية حال لم يكن في يدها حيلة بعد أن تركت عملها السابق ووقعت عقداً مع شركة خدمات التشغيل ، أو كما يقال، بعد أن أحرقت مراكبها ،وما عليها الآن سوى أن تضع نفسها للأقدار لتقودها حيثما تشاء. قبل إن تستقل القطار الذي سيُقلّها الى موقع عملها الجديد ، كانت الشركة التي تعمل بها قد هيأت لها كل مستلزمات العمل ، ومنها مكتب خدمات تشغيل تم افتتاحه مؤخراً ، وأستئجار غرفة لدى سيدة مسنة تدعى فكتوريا ، حيث لا وجود لأي فندق أو نزل في تلك الأنحاء. من ناحية أخرى إستطلعت جولي كل ما يمكنها معرفته عن منطقة نانغارورا، وهي منطقة تبعد زهاء خمسمائة ميل عن الساحل الشرقي الاسترالي بإتجاه وسط القارّة المترامية الأطراف. وبعد إستقصائها عن هذا الموقع مستعينة بالسيد غوغول تبين لها إن هذه المنطقة إستمدت إسمها من سكان استراليا الاصليين (الأبورجينال ) وعُرِفَت بمناجم الفحم الحجري التي تنتشر بها ، وإن هذه المناجم كانت قد توقفت عن العمل نتيجة إعتراضات حزب الخضر على سياسات الحكومات المتتالية لأجل تخفيض نسبة انبعاث الكاربون في العالم. لهذا السبب لم تتعجب جولي وجود سكة حديدية تربط هذه المنطقة النائية ببقية ارجاء المدن الاسترالية‫.‬
‫“‬لابد إن افتتاح مكتب خدمات تشغيل هناك يهدف الى إحياء هذه المنطقة من جديد‫”‬
هكذا فكرت جولي مع نفسها ، ويبدو إن هذه الفكرة قد بثت الأمل فيها‫.‬
كانت الرحلة التي قطعها القطار ممتعة في أول الأمر وهو يجتاز تلك الربوع الخضراء التي تغطي المساحات الشاسعة المحاذية للساحل الشرقي الاسترالي ، ولكن الأمر بدأ يدعو للملل حين أخذت القفار والفيافي تلتهم تلك المساحات الخضراء كلما توغل القطار في أتجاه الغرب الاسترالي حتى لم يعد هناك ما يمكن رؤيته غير الأراضي القاحلة والعوسج ‫.‬ أشاحت جولي نظرها عن نافذة القطار وأغمضت عينيها ، لم يكن في العربة سوى بضعة مسافرين يحتلون مقاعد متناثرة بينما كانت جولي تسترجع مع إغماضة عينها تلك الصور التي حصلت عليها بواسطة غوغول عن منطقة نانغارورا ، والتي لا يَظهر فيها سوى الجرافات العملاقة والتلال الترابية الهائلة المتكدسة‫.‬
كانت الرحلة طويلة ، فقد إستغرقت حوالي ثمان ساعات تخللتها وقفات إستراحة ، وقبل أن تصل الرحلة الى نهايتها بدأت ملامح نانغارورا تتكشف شيئاً فشيئاً ، وإنفرجت أسارير جولي حين وجدت إن الخضرة قد عادت الى الظهور من جديد. حين ترجل المسافرون كانت الشمس قد قاربت على الغروب واكتسى الأفق بتلك الحمرة القانية. كانت هناك بضعة متاجر بُنيت بالقرب من المحطة وكان هناك شارع إسفلتي طويل يمتد بمحاذاة السكة الحديدية، بينما يقع على يسار هذه السكّة عدد من المنازل المتناثرة وسط مساحات واسعة من المزارع التي انتشرت بها أشجار التفاح والكمثرى. أما الجانب الآخر من السكّة فيمكن أن نرى من بعيد كثبان ترابية هائلة إسوَّدت من الفحم الحجري المُستخرج من المناجم وآلات عملاقة ومعدات لإستخراج الفحم جاثمة بلا حركة بدت وكأنها أشباح سوداء ومن ورائها حمرة الشمس أمتزجت بزرقة السماء. لم يكن أمرٌ صعب في أن تجد جولي العنوان الذي تبحث عنه إذ لم يكن هناك سوى شارع واحد وما عليها إلا أن تتتبع تسلسل الارقام ‫.‬
عندما وصلت جولي الى المنزل استقبلتها السيدة فكتوريا بحبور. كانت فكتوريا أرملة تعيش وحدها في منزل قديم له العديد من الحجرات يقع وسط مزارع التفاح ، ولم تتفاجأ جولي حين علمت إن مكتب خدمات التشغيل الرئيسي قد إئتمن السيدة فكتوريا على المكتب الجديد وسلموا لها المفتاح حيث إنها قد اُخبُرت بهذا الأمر قبل سفرها ‫.‬
لم تبذل جولي جهداً كبيراً في التعرف على طبيعة المكان والناس هناك ، فمنذ اليوم الاول لوصولها وقبل أن تخلد الى الراحة بعد سفر طويل وشاق ، قصَّتْ عليها فكتوريا كل ما تحتاج لمعرفته عن المكان. وهكذا علمت إن مكتب خدمات التشغيل الجديد يقع قرب محطة القطار ، وإنها ستجد على بعد عشرة أمتار منه متجر السيد وارن الذي يجهز كل البلدة بالعلف الحيواني وانواع البذور والمبيدات الحشرية إضافة الى إدارته لشؤون البريد الخاص بالبلدة . ثم على مقربة منه ورشة السيد سميث الذي تعتمد عليه البلدة في تصليح الجرارات الزراعية ومكائن الري وكل ما يتعلق بالآلات الزراعية . أما الخضار والفواكه واللحوم فيمكن شرائها من السيدة لوآنا ، وهي أمرأة أبورجينالية يقع متجرها على الجانب الآخر من سكة القطار.ولم يَفُت على فكتوريا أن تقصّ عليها كيف إن منزلها كان يعج بالمستأجرين ممن كانوا يعملون في مناجم الفحم الحجري ، وهنا توقفت السيدة فكتوريا عن الإسترسال في الكلام ثم تساءلت إن كانت جولي على علم إذا ما كانت المناجم ستعود الى العمل أم لا ‫.‬
” لا ادري ، لماذا تسأليني أنا”
قالت جولي مندهشة
‫“‬ لانك ستعملين في مكتب خدمات التشغيل ، من المؤكد إنهم لم يفتحوا فرعاً لهم هنا إن لم يكن في نيتهم تشغيل مناجم الفحم ‫“‬
قالت فكتوريا ناظرة الى جولي كمن يرتجي منها كلمة تبث الأمل فيها، ذلك إن عودة المناجم سيعود عليها بالنفع وبمزيد من النزلاء‫.‬
‫“‬ في الحقيقة لا ادري عن الأمر شيئاً، أعذريني سيدة فكتوريا فأنا مرهقة تماما وبحاجة الى الراحة بعد سفرة شاقة‫”‬
قالت جولي في محاولة لإنهاء حديث السيدة التي يبدو انها لا تنوي ان تتوقف. عندما آوت الى سريرها البسيط الذي هيأته لها صاحبة البيت وأسندت راسها على الوسادة ، أغمضت جولي عينها وهي تفكر في كلام السيدة فكتوريا …إن أفتتاح مكتب تشغيل لا شك وراءه خطة تروم الى فتح المناجم من جديد‫.‬
عند أول يوم لها في العمل إستقبلت جولي نظرات السكان الفضولية بابتسامات حاولت ان ترسمها على وجهها رغم انزعاجها . إلا إنها لم تُخفِ تكدُّرها حينما شعرت بوقاحة تلك النظرات المسلطة عليها كسهام من خارج زجاج المكتب. كان المكتب صغيراً ويحتوي على منضدة وضع عليها جهاز كومبيوتر وبجواره جهاز طباعة واستنساخ . وجدت جولي في بعض لفائف الورق بوسترات تحتوي على ارشادات حول البحث والحصول على وظائف فجعلت تفتح هذه اللفائف وتلصقها على زجاج النوافذ لتتحاشى نظرات الفضوليين ، ولكنها لم تدرِ إن ذلك سيجمع عليها مزيداً من الفضوليين الذين تجمهروا خارج المكتب يقرأون ما كتب على هذه البوسترات وكأنها قرارت مصيرية . أستمر الناس يتجمهرون أمام مكتب التشغيل ثم شيئاً فشيئاً تحولت همهماتهم الى ضجيج مما أدخل الهلع في نفس جولي فأنزوت في الداخل لا تقوى على الخروج . كان بين المتجمهرين رجلاً عجوزاً يدعى غاري إستطاع أن يفرض حضوره على الجميع فسكتوا وانصتوا له‫.‬
” تراجعوا قليلاً وإنصتوا ، نريد أن نفهم ما يجري هنا ”
قال ذلك ثم تقدم الى باب المكتب وقرعه ثم أنتظر. كانت جولي ما زالت منزوية في الداخل وبصعوبة إستطاعت أن تستجمع قواها وتتقدم نحو الباب ثم فتحته قليلاً ” نعم ” قالت مرتبكة‫.‬
‫“‬ عفواً ، هل لك أن تشرحي لنا ما يجري من حولنا ، هل ستعيدون فتح المناجم” قال غاري بينما تعالت الهمهمات من خلفه‫.‬
” المناجم ! لا علاقة لعملي بالمناجم”
” اذن ما هذا الاعلان الذي تعلقينه على واجهة المكتب” قال غاري العجوز بينما تعالت الصيحات من خلفه‫.‬
” أنها مجرد ارشادات دعائية للترويج عن إسم شركة خدمات التشغيل”
قالت جولي بينما تجرأت قليلا وفتحت الباب أكثر
” آنسة قولي لنا بصراحة ، هل مكتبكم جاء لتشغيل الناس في المناجم”
قال ذلك وتعالت الاصوات من حوله . لقد كان واضحاً إن بعض المتجمهرين كانوا يرفضون عودة المناجم بينما قسم آخر منهم يؤيدون عودتها ، حتى صار الجدال بينهم كأنه شجار لم يهدأ حتى صرخ بهم غاري العجوز ‫.‬
“من فضلكم ، نريد أن نسمع”
إستجمَعت جولي قواها بصعوبة وقالت بصوت خافت ما زال يحمل في داخله نبرات الخوف ” إن مكتبنا وجِد لمساعدة الناس في العثور على فرص عمل، يمكننا مساعدتكم في كيفية أستخدام جهاز الكومبيوتر للبحث عن عمل ، كما نستطيع مساعدتكم على كتابة سيرة اعمالكم لكي تقدموها لاصحاب العمل، بل حتى الإتصال بأرباب العمل أنفسهم إذا تطلب الأمر ” ساد الصمت على الجميع . كان الكل ينظر الى جولي فاغرين أفواههم وكأنهم يحاولون فك الطلاسم والألغاز فيما قالته ‫.‬

” هل يعني هذا إنكم لستم هنا لتشغيل الناس في المناجم”
قال غاري ‫.‬
” قلت لك لا”
” ولا حتى لاستقدام عمال لجمع محصول التفاح”
قال غاري ‫.‬
” كلا”
قالت جولي بحزم ثم أردفت ‫:‬
‫”‬ ولكن إن أراد أي منكم أن يبحث عن عمل فيمكننا ان نساعده في البحث عن عمل عن طريق شبكة الانترنيت ، كما يمكننا المساعدة في كيفية كتابة رسالة الى أصحاب العمل‫”‬
وعلى ما يبدو إن كلماتها الاخيرة قد وقعت في فهم المتجمهرين فأخذوا ينفضون واحداً تلو الآخر حتى لم يبق سوى غاري
‫”‬ آنستي ، الناس الذين هنا معظمهم اصحاب مزارع ، حسب علمي لا أحد منهم بحاجة الى عمل ، ولكنهم على العكس ، هُم يريدون عمالاً مؤقتين لجني التفاح الذي أقترب موسمه .لم يَقدُم أحد للعمل الموسمي هذه السنة ، ولقد ناشد الناس المسؤولين ان يُسَهلوا في استقدام أيدي عاملة الى هنا ولكن لم يحصل شئ ‫“‬
قال غاري ناظراً الى جولي التي بدت عاجزة عن عمل شئ . كان العجوز غاري رجلا طويل القامة ونحيف وكان يضطر لأن يحني قامته وهو يتحدث مع جولي التي بدت أقصر منه بكثير ‫.‬
‫“‬ على أية حال ، سأحاول أن أوصل أصواتكم الى المكتب الرئيسي لشركتنا ، علهم يستطيعون مساعدتكم‫”‬
‫“‬ شكراً آنستي ، ولكن أحيطك علماً بأن هذا الأمر لا يمسني شخصياً قدر ما يمس أصحاب هذه المزارع ، فأنا أعتاش على راتب تقاعدي ومزرعتي هي الأصغر هنا ، لقد تركت الزراعة منذ وقت طويل ، ولكني أتحدث لمصلحة هؤلاء الناس ، طاب صباحك ‫“‬ قال ذلك ثم رفع قبعته عن راسه قليلاً وأعادها للتحية ثم خطا منصرفاً ، ولكن وبينما وقفت جولي تشيعه وهو يبتعد حتى وجدته يعود اليها من جديد ‫.‬

‫”‬ عذراً آنستي ، بودي أن أسألك عن أمر يخص إبن أخي ، هل يمكن مساعدته في البحث عن عمل، إنه يتقاضى معونات من الرعاية الاجتماعية وهو مطالب بالبحث عن عمل‫”‬
‫”‬ بالتأكيد ، ان خدماتنا تهتم بهذا الأمر على وجه الخصوص، سأكون في المكتب طيلة الوقت ، ما عدا وقت تناول الغداء من الساعة الواحدة وحتى الثانية ظهراً وسأكون سعيدة لتقديم العون له‫”‬
‫“‬في الواقع إن ابن أخي لا يسكن هنا ، إنه يعيش في المدينة بعيداً من هنا، ولكنه يرغب في زيارتنا والمكوث معنا لبعض الوقت‫”‬
” سوف اكون سعيدة لمساعدته متى ما جاء الى هنا”
” شكراً آنستي ، طبت صباحاً”
قال ذلك ثم حياها بقبعته مرة أخرى و أنصرف ‫.‬
كان اليوم الاول مثيراً لجولي ،الى حدٍّ ما، فعلى الرغم من سوء الفهم الذي نشأ عن طبيعة عملها، إلا إنها استطاعت أن تستكشف بعض من طبيعة المكان وساكنيه. ولكن بالرغم من ذلك ، فقد وجدت جولي إن قدرتها على استكشاف الاشياء عن طريق السيدة فكتوريا تفوق كثيراً أي وسيلة أخرى. فتلك السيدة تحتفظ في ذاكرتها بسجل طويل لكل من يقطن هذه البقعة، ولا ضرورة أن نُذكِّر بطبيعتها كامرأة ثرثارة حتى إن المرء لا يبذل جهداً لمعرفة الأشياء سوى أن يجالسها ويصغي اليها حتى يعرف كل ما خفي من أسرار هذه البلدة. وعندما قصّت عليها جولي ما حدث في صباح هذا اليوم بعدما عادت الى المنزل صاحت فكتوريا قائلة ‫:‬
‫“‬ ذلك غاري العجوز ، إنه يحشر نفسه في كل شئ، ولكنه رجل طيب ولا خوف منه ، إنه يعيش مع أبنته ، لقد رفضت الزواج وفضّلت البقاء مع أبيها ‫”.‬
كانت جولي تلتقط كل مساء وعند عودتها من العمل بعض من فتات حكايا نانغارورا التي تنثرها فكتوريا. وعلى الرغم من إنها لم تكن تحب مجالستها كثيراً، إلا إن الوقت الذي كانت تقضية في اعداد العشاء كان كافياً لفكتوريا في أن تقص عليها ما باستطاعتها ‫.‬
لم يكن الاسبوع الاول مضجراً بالنسبة لجولي، فقد كانت ما تزال تعيش سعادة

إكتشاف الأشياء لاول مرة ، لاسيما بعد أن تعرفت على الناس الذين من حولها حتى صاروا يتوددون اليها فكأنها صارت واحدة منهم، حتى إنها أثناء خروجها للتنزه في أول يوم سبت تقضيه وجدت من يحييها باسمها المباشر دونما تكلّف‫.‬
والواقع فأن جولي كانت مهتمة جداً بتقديم خدماتها الى هذه البلدة الصغيرة إلا إنها لم تجد ما يمكنها فعله لهم. فمنذ أن تجمهر الناس حول مكتبها في أول يوم عمل لها وهي لم تجد شخصاً واحداً يطرق بابها سائلاً المعونة . وها هي الايام تمضي وهي لا تفعل شيئاً سوى إشغال نفسها بتصفح شبكة الأنترنيت أو الأتصال بذويها والسؤال عنهم بينما كانت تلازم جدران المكتب الصغير طيلة الوقت . نعم ، لقد حاولت في أول أيامها أن تتصل بالشركة الأم وتنقل لهم معاناة المزارعين وحاجتهم الى عمال موسميين لجني التفاح ، ولكن لم يستجب أحد لتلك النداءات ، وكان بُعد هذه البلدة أحد الاسباب الرئيسة لعزوف العمال الموسميين على السفر إليها ‫.‬ كان الملل والضجر قد أخذ يدب في نفس جولي يوماً بعد يوم ، حتى أيقنت إن أفتتاح مكتب الخدمات في نانغارورا لم يكن وفق خطة مدروسة لفتح مناجم الفحم، وإنما هي مجرد فكرة طارئة خطرت في رأس ذلك النائب العمالي الذي أراد أن يحصل على مزيد من الأصوات الأنتخابية ‫.‬
في ذلك المساء عادت جولي من العمل مكتئبة ثم دخلت الى غرفتها دون أن تعد طعامها وتأكل كما في كل مساء ، بينما كانت فكتوريا حائرة الفكر لا تدري ما أصاب نزيلتها . كانت جولي واثقة تماما إن المكتب سوف يُغلَق بعد انتهاء مهلة الثلاثة أشهر ، وها هي ذي ستة أسابيع قد مضت ولم يعد هناك كثير من الوقت. والواقع إن جولي كانت فتاة صلبة العود ولم يكن من السهل عليها أن تستسلم دونما مقاومة ، وهكذا بدأت يومها الجديد بفكرة أن تستغل الوقت الذي تقضيه في المكتب بلا عمل في أن تبحث لنفسها عن عمل . وهكذا كانت تقضي معظم الوقت تكتب الرسائل الى أصحاب العمل وتشاركهم سيرتها الذاتية، على أمل أن تحصل على عمل تستطيع أن تبدأ به فور أنتهاء خدماتها في مكتب خدمات التشغيل. ولقد أضفى هذا النشاط عليها بعض الأمل فعادت البسمة والابتهاج اليها من جديد ، وعادت تجالس فكتوريا وتستمع الى قصصها من جديد ‫.‬
إنقضى أسبوعين وهي منشغلة في البحث عن وظيفة، ولقد تلقت خلال بحثها العديد من الردود من أصحاب العمل ، بين رافض وبين من يعد خيراً ، موظِفةً كل خبرتها لأجل إقناع اصحاب العمل بمؤهلاتها عن طريق رسائلها المُحكَمة ، غير مستسلمة ولا قانِطة ، على أمل أن تجد يوماً من يرد عليها بالإيجاب ، ولكن وعلى غير المتوقع حصل أمر قلب صياغات رسائلها رأساً على عقب ، فأثناء إنهماكَها في تلك الديباجات المكررة، طُرِق باب المكتب وما أن إلتفتت حتى رأت شاباً في منتصف الثلاثينات يفتح الباب ويدخل على حياء ‫.‬
” عذراً إن كنت قطعت عليك خلوتك”
قال وهو يخطو نصف خطوة ‫.‬
” لا أبداً ، المكتب مفتوح في أوقات العمل ، هل من خدمة أقدمها لك”
‫”‬ شكراً ، اسمي جون ، جون هاريت, لعلك تذكرين إن عمي قد تحدث اليك بخصوصي‫”‬
” عمك ؟ من هو عمك؟”
” اسمه غاري ، غاري هاريت”
وما أن لفظ جون ذلك الاسم حتى تذكرت جولي ذلك العجوز غاري الذي التقت به في أول يوم لها بالعمل ‫.‬
‫”‬ آه …نعم ، لقد تذكرت ، من فضلك …تفضل بالدخول، عذراً على نسياني ، لقد مر وقت طويل ، خلت انك لن تأتِ ‫“‬
‫“‬ الطريق الى نانغارورا بعيدة جداً ، ليس من السهل على المرء إتخاذ قرار سريع بالسفر ‫“‬
‫“‬ أهلا وسهلا ، وها قد وصلت أخيراً ، تفضل بالجلوس ، هل ما زلت تبحث عن عمل ؟ ‫“‬
” ما زلت ”
قال وهو يجلس على الكرسي المقابل لمكتبها ‫.‬
” حسناً ، لنبتدأ ببعض الأمور الروتينية ، هل لك أن تملأ هذه الاستمارات”
ثم أستلت بعض الاوراق من درج المكتب وقدمتها له فتناولها وانهمك بتعبئتها بينما كانت جولي تراقبه عن كثب. كان طويلاً نحيفاً كعمه غاري، ولم يكن وجهه يحمل كثير من الوسامة. في حقيقة الأمر فإن دخول جون هاريت الى مكتبها في ذلك اليوم قد غيَّرَ كثير من موازين حساباتها. اذ كانت تعلم إن وجود زبون ، حتى لو كان شخص واحد فقط ، من شأنه أن ينقل فرع مكتب الخدمات الذي تديره من صفة (غير فعّال) الى (فعّال) حسب مقاييس مكتب الخدمات الرئيسي. وهذا ما يعطيها فرصة أكبر لتمديد فترة العقد ، إن لم يكن ينقلها من موظفة مؤقته الى موظفةٌ دائمية ‫.‬
تم الأتفاق على أن تكون زيارة جون هاريت للمكتب ثلاث مرات في الأسبوع يقضي فيها في كل مرة ساعتين أو أكثر بحثاً عن عمل . كان مطالباً من دائرة الرعاية الأجتماعية أن يبذل عدداً من الساعات بحثاً عن عمل أو أن تُقطَع عنه رواتب المعونة الاجتماعية التي تمنح للعاطلين ‫.‬
كانت جولي أثناء زياراته المتكررة تبذل كل ما في وسعها لمساعدته في البحث عن وظيفة، مكرسةً كل خبراتها التي إكتسبتها في عملها. كانت إحتمالات العثور على فرصة عمل تناسب جون في بلدة نانغارورا أمراً صعب المنال وذلك لأن أختصاص جون في إدارة الأعمال تتطلب وجود مشاريع تسويقية كبيرة وهذا ما لا يمكن العثور عليه في بلدة مثل نانغارورا ، كما إن جولي أدركت بحكم خبرتها إن التاريخ الوظيفي لجون لم يكن مشجعاً ، فلقد أمضي سني حياته يتنقل من مهنة الى أخرى دونما أستقرار، وهذا ما لا يفضله أصحاب العمل، ولكنها رغم ذلك بذلت ما في وسعها لمساعدته في البحث عن وظيفة، بل حتى في الأيام التي لم يكن يحضر فيها الى المكتب ، فقد كانت تبحث وتتصل باصحاب العمل سواء كان ذلك عن طريق البريد الالكتروني أم بواسطة المكالمات الهاتفية المباشرة. كانت جولي في الحقيقة توظف كل طاقتها لمساعدته، فقد كان أول زبون لها وكانت مؤمنة بأن مساعدته في العثور على وظيفة سيعزز من مركزها الوظيفي ويدعمه. وكم كانت فرحتها عظيمة حين استطاعت أن تجد له وظيفة في مدينة تبعد عن نانغارورا مسافة مائة وخمسين ميلاً في أحد المتاجر الكبيرة المتخصصة بتجارة العدد اليدوية، ولقد كانت تظن إن هذا الأمر سيبعث البهجة والسرور في قلب جون، ولكنه عندما قدِم في اليوم التالي أثناء زياراته المعتادة أبدى انزعاجه، رغم إنه حاول أن يخفي هذا الإنزعاج ‫.‬
” كنت أفضل أن يكون العمل في نانغارورا قريباً من عمي”
هكذا علق على الأمر عابساً وقاطباً حاجبيه ثم اردف قائلاً
” هل بالإمكان تجاهل هذه الوظيفة”

‫“‬ أنت تعلم إن رفضك سيؤثر على وضعك كمستفيد من المعونات المالية التي تقدمها الدولة ‫“‬
نظر اليها ثم طأطأ رأسه إذ لم يكن بيده حيلة للرفض ، وهكذا إنصاع للأمر وتم تحديد موعد له لمقابلة أصحاب العمل ‫.‬
حين عادت الى البيت قصت جولي لفكتوريا ما قد حدث ، ولكنها لم تفصح لها عن إسم جون، حفاظاً على سرية العمل، لا سيما وهي تتحدث مع فكتوريا التي لا يُفشى لها سر ‫.‬
‫“‬ من المؤكد إن هذا الزبون لا يريد أن يعمل، لو كان جاداً في بحثه عن عمل لطار فرحاً ‫“‬ قالت فكتوريا ثم أردفت ‫:‬
‫“‬ هذه مساوئ المعونات المالية التي تقدمها الدولة للعاطلين، لو لم تكن هناك رواتب تؤمن حياتهم لأختلف الأمر ‫“‬
‫“‬ لا أعتقد إنه سينجح في المقابلة، إن تاريخه الوظيفي غير مستقر على الإطلاق‫”‬ قالت جولي وكأنها تحدث نفسها، والواقع انها كانت مصيبة في هذا الأمر، فبعد ثلاثة أيام فقط وجدت جون يقف أمامها في المكتب ‫وهو يقول مبتسما :‬
” لقد رفضوني”
ثم أطلق ضحكة عارمة ، بينما صمتت جولي وآثرت السكوت ‫.‬
بعد مضي اسبوعين على مواظبة جون للحضور الى مكتب الخدمات شعرت جولي إنه كان يقتنص بعض النظرات الغريبة أثناء انشغالها . كانت تدرك إنها لم تكن مجرد نظرات عادية بل كانت تحمل معها رسائل خفية . لم تُعِر جولي إهتماماً لمثل هذه النظرات في بادئ الأمر ، بل كانت تتفادى وقوعها بانشغالها في العمل المكتبي، ولكن الأمر أخذ يتجاوز ذلك لما هو أبعد من النظرات حين بدأ جون يتطرق الى موضوعات شخصية تخص حياته وعائلته ، فكان يقص عليها في بعض الأحيان شئ عن طفولته التي قضاها في نانغارورا وحبه لركوب الخيل التي ما زال عمه غاري يقتنيها. ثم ألمح لها يوماً إن كانت تود زيارة مزرعة غاري العجوز في أحدى عطل نهاية الأسبوع لتتعلم متعة ركوب الخيل. كانت جولي تستقبل تلك التلميحات بابتسامات واعتذارات مهذبة ، إلا أنها كانت تحمل تلك الأشارات معها الى البيت فتسترجعها بينما هي تجالس السيدة فكتوريا متظاهرة بأنها تستمع الى قصصها التي حفظتها عن ظهر قلب ، ولكنها في الواقع كانت منشغلة الفكر ، تُدورُ في رأسها فكرة قبول جون هارت .لم تكن جولي متشجعة في الحقيقة ، فطبيعتها التي ترجح العقل على العواطف جعلتها مترددة في أن تتمادى في علاقتها بجون. وكيف لا تتردد وهي على بينة بكل تفاصيل سيرته الذاتية التي قضاها يتنقل من وظيفة الى أخرى ، ومن يدري فلعل حياته العاطفية تشبه سيرة عمله، حياةٌ قضاها يتنقل من علاقة الى أخرى، هكذا كانت جولي تفكر ‫.‬ من جانبه كان جون يزداد ولعاً بجولي يوما بعد يوم،
كان يجد فيها صنفاً من النساء يندر وجوده من حوله، فمن من النساء تقبل أن تترك المدينة بكل أَلَقها وأضوائها حتى ترتضي العيش في بلدة قصيّة كهذه ‫.‬ غير إن عدم إستجابة جولي لتلميحاتِه أوقع في نفسه إلياس شيئاً فشيئاً ، حتى قرر أن يقطع زيارته الى نانغارورا والعودة الى مدينته التي جاء منها ‫.‬ في ذلك اليوم الذي أخبرها بنيته مغادرة نانغارورا شعرت جولي إن ذلك النشاط الذي بث الحياة في المكتب في طريقه الى الزوال وإن عودة المكتب الى صفة (غير فعال) كانت وشيكة جداً، وكان عليها أن تتخذ قراراً ينقذ الموقف. كانت الافكار تتقافز في رأسها بسرعة عجيبة، ولم تأخذ وقتاً طويلاً حتى إلتفتت وسألت جون ‫:‬
” جون ، هل ما زالت دعوتك لتعليمي ركوب الخيل قائمة ؟”
وكأن هذا الطلب قد جعل الدم يتدفق في عروقه من جديد فعادت أساريره تنبسط على وجهه ‫.‬ ”بالطبع ، هل أنت جادة فيما تقولين؟
‫“‬ بالتأكيد ، ولكن أخشى إن تَعَلُمي لركوب الخيل سيأخذ وقتاً أطول مما تتصور ، ولعل هذا سيؤخِرك عن سفرك ‫“‬
” يمكن تأجيل سفري متى ما أشاء ، ليس الأمر بذي أهمية”
قال جون بحبور بينما كانت جولي تطبع إبتسامة على شفتيها وتفكر مع نفسها في إن فترة تعلمها لركوب الخيل ستكون كافية لمكتب خدمات التشغيل في أن يصبح مكتباً (فعالاً) بشكل دائمي ‫.‬

رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=18466

ذات صلة

spot_img