مجلة عرب أستراليا سيدني – للقتل طرق مختلفة
بقلم عصام جميل
كان جدول أعمال السيد نجدت في هذا اليوم أن يلتقي ببعض المرضى في مستشفى يقع في إحدى ضواحي سدني، ولكن قبل ذلك كان عليه أن يوافي مريضاً آخر في الساعة التاسعة والنصف صباحاً عند عيادة أحد الأطباء المختصين بالأمراض القلبية. والسيد نجدت ليس طبيباً كما قد تظنون ، ولكنه مترجم شفاهي يعمل في دائرة الخدمات الطبية . هو مهاجر قديم في استراليا ينحدر من أصول تركمانية عراقية وكان يزاول مهنة تدريس اللغة الانكليزية في مدرسة ثانوية في قضاء چمچمال الذي يقع شرق مدينة كركوك في شمال العراق. أما سبب هجرته الى أستراليا فهو شدة الضغوط التي مورِسَت ضده من قبل الاجهزة الامنية للنظام العراقي السابق حتى إضطرته الى الفرار عابراً الحدود العراقية السورية بطريقة غير شرعية لينتقل بعدها للعيش في سوريا حيث قضى فيها ثلاث سنوات قبل أن يحصل على تاشيرة لجوء انساني تمكنه من السفر الى استراليا مع عائلته.
وفي أستراليا إستطاع السيد نجدت أن يحصل على مهنة مترجم لتمكنه من اللغة الإنكليزية إضافة الى التركمانية والكردية والعربية اللاتي درج على استخدامهن كعادة سكان مدينة كركوك الذين يتقنوا هذه اللغات الثلاث . كان كل شئ يسير على ما يرام ، حتى اليوم، فقد كان سعيداً بعمله الذي وفر له جانباً كبيراً من الطمأنينة والاستقرار ، قانعاً بأنه إستطاع أن يوصل عائلته الى بر الأمان، لا سيما بعد تخرج ولديه من الدراسة الجامعية وحصول زوجته على وظيفة بدوام جزئي في احدى مجالات العمل الاجتماعي. كانت حركة المرور مزدحمة كعادتها في ضاحية ويست ميد غربي سدني المكتظة بعيادات الأطباء ، ولكن رغم ذلك إستطاع السيد نجدت أن يصل قبل الموعد المحدد بربع ساعة كعادته حرصاً منه على مواعيد عمله. كانت عيادة الطبيب تقع في الطابق الثاني من عمارة تتكون من ثلاثة أدوار. لم يشاركه أحد في المصعد الكهربائي الذي أقله الى الطابق الثاني، وعندما فُتِحت ابواب المصعد وجد نفسه مباشرة أمام عيادة الطبيب . فور دخوله أتجه الى موظفة الاستقبال التي كانت تستخدم مكتباً يقع خلف واجهة زجاجية وصار يحدثها من خلال فتحة صغيرة أُحدثت في الزجاج
صباح الخير ، إسمي السيد نجدت ، أعمل مترجماً “
“في دائرة الخدمات الطبية وجئت لمساعدة زبوني
توثقت الموظفة من إسم المريض في السجل الذي أمامها وبصعوبة استطاعت أن تتلفظ إسمه بالإنكليزية
“مستر عابد ال اله ال اي “
“ بالضبط ، عبد الله علي “
قال ذلك وهو يبتسم ويصحح لها اللفظ بالعربية
“تفضل بالجلوس ريثما يحين دوره “
جلس وهو يقلب النظر في الحاضرين ليتعرف على مريضه .لم تكن هناك سوى سيدة كبيرة السن تجلس لوحدها بانتظار دورها. نظر الى ساعة يده ،كانت عقاربها تشير الى التاسعة وعشرين دقيقة .
”ما زال الوقت مبكراً “
هكذا كان يفكر ثم وضع ساقاً على ساق ناظراً الى المصعد الكهربائي الذي يقع بمواجهته حيث يمكن رؤيته من خلال باب العيادة الزجاجي. لم تمض سوى دقيقتين حتى فُتِح باب المصعد الكهربائي وظهرت أمرأة شابة في الثلاثينات تدفع كرسياً متحركاً يجلس عليه رجلٌ متعبٌ وهن عظمه. فُتح باب العيادة ودخلا معا ثم وجدت
المرأة مكاناً شاغراً في صالة الانتظار حيث صفَّت الكرسي المتحرك ثم خطَت وقدمت نفسها الى موظفة الاستقبال :
“ صباح الخير ، أسمي آنا كلاينت من دائرة الخدمات الطبية ، المريض الذي معي لديه موعد مع الطبيب المختص وأنا جئت لمرافقته”
” تفضلي بالجلوس “
قالت موظفة الاستقبال ثم مدّت جذعها لكي تستطيع أن تنظر الى المريض بوضوح : “ هل هو عا بد ال لي” تلفظت الحروف بلهجتها الانكليزية لتتوثق من الاسم فأجابت المرافقة بنعم .
“جيد ، المترجم حضر أيضاً “
أومأت برأسها بأتجاه المترجم فنظرت المرافقة اليه وحيته برأسها فابتسم السيد نجدت لها . كان وجه ذلك الرجل المريض يبدو مألوفاً للسيد نجدت ، ولكنه لم يستطع أن يتذكر مَنْ هو صاحبه . حاول أن يتغاضى عن الأمر في البداية ولكنه عاد الى تدوير تلك الملامح في ذاكرته. “ من يكون هذا ؟ أنا متأكد انني أعرفه “ قال في سرّه ثم صار ينظر اليه بامعان حتى التقت نظراتهما . “ اذا لم تسعفني ذاكرتي أنا فلعله هو يتذكرني “ قال محدثاً نفسه، ولكن الرجل أشاح بنظره بعيداً غير مبال لتلك النظرات . كان الرجل أشيباً في الستينات من عمره ولكنه بدا أكبر من هذا بكثير إذ إكتسى وجهه بالخطوط والتضاريس التي رسمها المرض بينما ذبلت أجفانه وكَلَّ نظره .
“كم هو مُعذِبٌ هذا الشعور، أن ترى شخصاً انت واثق من معرفته ومع ذلك لا تتذكره” حدّث نفسه وهو يقلب الفكر ويستحث ذاكرته . ظل ساهماً لبعض الوقت حتى ظن إنه يعذب فكره بأمر قد لا يستحق كل هذا الاهتمام ، ولكن …فجأة قفزت فكرة الى ذهنه وكانت كجمرة وقعت على راسه . إنتصب عنقه وتجمدت نظراته .“ إنه هو … عبد الله علي.. النقيب عبد الله علي…ضابط الأمن في ناحية چمچال، كيف غاب عن فكري”كان يتحدث في سرّه ناظراً بعيون تجمدت عروقها وغدت ككرات زجاجية . أما فيما يتعلق بالرجل المريض فلم يستطع التعرف على المترجم ، فهذا الأخير قد إختلف شكله تماما عمّا كان عليه في شبابه .
لقد زحف الصلع على راسه وغيرت النظارات الطبية التي يرتديها شكله تماماً. ثم لا ننسى إن هناك أمر آخر ، وهو إن الجلاد غالباً ما ينسى ضحيته لكثرة من يمروا من تحت قبضته، بينما تبقى الضحية مستيقظة الفكر ولا تنسى شكل جلادها .فُتِح باب غرفة الفحص وخرج الطبيب يودع مريضه ثم أشار الى السيدة المسنة بالدخول وأغلق الباب .
“هل يضايقك غلق الباب “
قال النقيب عبد الله مطلقاً ضحكة عارمة بينما انكمش نجدت وخار جالساً على الكرسي في تلك الغرفة المعتمة التي غالبا ما يستخدمها النقيب عبد الله لتعذيب ضحاياه. إنتفض نجدت حين تذكر ذلك ثم نظر الى وجه جلاده الذي يجلس بمواجهته ذليل المرض ، لقد زالت عنه تلك السطوة وخبت تلك النظرات الحادة التي كان يسوط بها ضحاياه فتبث الرعب في أوصالهم . حتى عيناه اللتان كانتا جاحظتين فيما مضى قد غارتا الآن في محجريهما وطمستهما السنون . والواقع إن نجدت لم يكن ينتمي في شبابه الى حزب سياسي معادٍ للحزب الحاكم، لا ولم تكن له أي اهتمامات سياسة ، ولكن رفضه المستمر أن يستجيب للدعوات المتكررة في أن ينتمي للحزب الحاكم جعلته في موضع شك من قبل السلطات الامنية، كما إن أصوله التركمانية قد عززت مثل هذه الشكوك، لا سيما وإن نشاط الحركة الطورانية المحظورة في العراق كان ما زال يثير قلق السلطات العراقية بسبب نزوعها القومي الذي يربط مصير العراقيين الناطقين بالتركية بتركيا ، التي اعتبرتها هي الأم .
ورغم إن نجدت لم يخضع حينها للتعذيب الجسدي، إلا إن الترهيب وإلايذاء النفسي كان أشد وقعاً من أي تعذيب جسدي، لا سيما وإن بعض من أصدقائه كانوا قد غُيبوا بالفعل وأختفوا في الدهاليز المظلمة لأمن الدولة .“ هل أنت متضايق لأننا إستدعيناك للحضور الى مركز الامن في يوم الخميس “
قال النقيب عبد الله مخاطبا نجدت الذي تجمدت الدماء في عروقه ووقف خائر القوى بمواجهته .
“ سوف نستضيفك الليلة هنا ، وفي صباح السبت سنطلق سراحك لتلتحق بمدرستك ، هذا اذا تم إطلاق سراحك، إننا نوفر عليك أُجرة المواصلات من چمچمال الى كركوك “ قال النقيب ثم أطلق ضحكة ترددت في الهواء. كان الهواء الذي يملأ العيادة يعبق برائحة المطهرات، وعلى ما يبدو إن هذه الرائحة قد أعادت السيد نجدت الى أجواء العيادة فبثّت فيه الحركة .
“ كيف وصل هذا المجرم الى هنا “ تساءل السيد نجدت مع نفسه وأخذ يسترسل في أفكاره :
“ لعله جاء على متن واحدة من زوارق التهريب وطلب اللجوء … هه ، يا لمهزلة الاقدار ، الجلاد يصبح ضحية وتقدم له كل المساعدات الانسانية ليستمتع بحياة مديدة تحت إشراف طبي ويوظَف له أمرأة ترافقه ومترجم حمار مثلي ليساعده على فهم إرشادات الطبيب، كل ذلك ليواصل السيد النقيب حياته مستمتعاً بها مكافأة له على سني خدمته التي قضاها في تعذيب ضحاياه…أُقسِم إنك لن تفلت من يدي “ ثم صرَّ وجهه وأحنى راسه ليخفي معالم الغضب، وليخمد وجيب ضربات قلبه المتسارعة ولكن صوت أليف آخر كان يتسلل بهدوء في داخله ويدعوه للمسامحة : “ ما هذا الهراء الذي أقوله…دع السنين تأخذ منه حقك.. ألا تنظر حاله الذي
وصل اليه..إنه عقاب الله…نعم عقاب الله » وهنا أرخى جسده وأرجع راسه الى الخلف حتى أسنده على الجدار .
“ نعم عقاب الله ، ولكن عقابي أنا لم يبتدأ بعد ، لن أتركه يفلت مني، ساكتب الى السلطات وأكشف حقيقة هذا المجرم “
كان السيد نجدت يُقلّب أفكاره حتى صارت بعض كلماته التي يرددها في قلبه قريبة من شفتيه :
“ هذا لن يجدي ، حتى لو كتبت عنه فسيجد محامٍ للدفاع عنه وسينفذ منها أبيض اليدين “.
كانت الدقائق القليلة التي قضاها وهو يخوض في أفكاره كافيه ليسترجع تلك السنوات التي وشِمَت على قلبه حين كان فريسة يتسلى بها النقيب عبد الله وقتما شاء. سنتان وهو يخنع صاغراً تحت رحمته حتى صار لا مفر له سوى الهرب. كان يظن إنه أستطاع أن يدفن تلك الذكرى المؤلمة من حياته في جيب خفي من قلبه معتقداً إنه أقفل عليها والى الابد ، ولكن ها هي الجروح تُنكأ من جديد لتعيد عليه الذكرى كانها حدثت بالامس. حين فُتِحَ باب حجرة الفحص وخرج الطبيب منها
أُنتزعَ السيد نجدت من تلاطم أفكاره ، ثم بعد أن ودع الطبيب مريضته المسنة أخذ يقرأ في الملف الذي بيده . ”السيد عابد ال لي ” محاولاً أن يتلفظ الاسم الذي كُتِب على الملف . نهضت المرافقة وقادت المريض الى داخل غرفة الفحص ثم تبعهما السيد نجدت . كانت الغرفة واسعة لها نافذة كبيرة تغطيها ستائر معدنية تحجب الشمس ، وعند النافذة وضع سرير لفحص المرضى تحجبه عن الغرفة ستارة معلقة . حين دعى الطبيب مريضه ليستلقي على سرير الفحص ساعدته المرافقة على ذلك ثم وقفت بالقرب منهما بينما أقترب السيد نجدت لكي يستطيع أن يسمع ويترجم ما يقوله الطبيب ، ولكن الأخير أومأ له أن لا حاجة الان ثم سحب الستارة التي حجبتهما معاً . وجد السيد نجدت والمرافقة كرسيين بجانب مكتب الطبيب فجلسا متجاورين فكانت فرصة سانحة له ليُحدثها
“ أنت من الخدمات الطبية ؟ “
سألها بصوت منخفض لكي لا يؤثر على مجريات الفحص . «نعم..أعتقد إننا تقابلنا من قبل» أجابت بصوت منخفض أيضاً فَسُرَ لسؤالها لأنه وجدها فرصة
لمعرفة المزيد عن عدوه القديم .
“بالتأكيد فنحن نعمل في نفس المجال، لا شك إن مريضك قد أتعبك اليوم “.
“ جداً ، لا سيما هو يسكن في شقة تقع في الطابق الخامس “
“هل يسكن لوحده ؟ “
“أعتقد ذلك”
“ ومن يطيق السكن مع هذا الوغد”
قالها في سره بينما فتح الطبيب الستارة ودعى المريض للنهوض فهبّت المرافقة بسرعة لمساعدته للجلوس على الكرسي المتحرك ثم دفعته قرب مكتب الطبيب . حين جلس الطبيب الى مكتبه صار ينظر متفحصاً بعض الصور الشعاعية وما أن إنتهى من ذلك حتى خاطب السيد نجدت قائلاً :
“ السيد نجد…ت” قالها بلكنة إنكليزية ثم تابع ـ
“ أرجو أن تُخبر المريض أني سأكتب له دواءً جديداً له “ فالتفت السيد نجدت لمخاطبة المريض وترجم له قول الطبيب .
“ حاول أن توضح له آلية عمل الدواء الجديد ، فهو يثبط نشاط إنزيم يدعى نيپريلايزيم… هذا الانزيم هو المسؤول عن تضييق الشرايين القلبية “ توقف الطبيب عن الشرح ليعطي فرصة للمترجم الذي أخذ يشرح للمريض ما ذكره الطبيب .
“ تركيبة الدواء الجديد هي خليط من مثبط انزيم النيپريلازيم ومادة أخرى تدعى اي آو بي “ واصل الطبيب الشرح بينما كان السيد نجدت يترجم .
“ على المريض أن يتوقف عن تناول الدواء القديم فور مباشرته بالدواء الجديد لان وجودهما معا قد يسبب مضاعفات خطيرة للمريض …أرجوا توضيح هذه النقطة المهمة للمريض” قال الطبيب ذلك بينما اتسعت حدقة المترجم لتفسح المجال لفكرة شيطانية أثناء ترجمته الجملة الاخيرة :
“سيد عبد الله يجب عليك أن تواصل تناول الدواء القديم بجانب الدواء الجديد الذي سيكتبه لك الطبيب” قال ذلك وسكت ناظراً الى الطبيب .
“ هل وضحت له ذلك “ سأل الطبيب للتأكد .
“نعم ..قلت له أن يقلع عن الدواء القديم فور مباشرته بالدواء الجديد “ أجاب السيد نجدت بطريقة واثقة فكان
كمن يقتل ضحيته بدم بارد .حين أنتهى الطبيب من عمله قدم له السيد نجدت سجلاً صغيراً يُكتبُ فيه عدد الساعات التي قضاها المترجم في عمله كأقرار يوقعه الطبيب .
إنتهى الفحص وخرج الطبيب لتوديع مريضه ومن معه. كان السيد نجدت يريد أن يغادر هذا المكان بأقصى ما يستطيع من سرعة إلا إنه حاول أن يحافظ على رباطة جأشه لكي لا يُفتَضح أمره. كانت المرافقة تدفع مريضها على الكرسي المتحرك بينما كان هو واقفاً بانتظار المصعد الكهربائي على أحر من الجمر . حين وصلت المرافقة الى المصعد برفقة مريضها كان السيد نجدت يحاول جاهداً أن يتحاشى التقاء نظراته مع أي منهما، بينما كان هناك صوت يتأجج في صدره يدفعه للاعتراف بخطيئته. كانت ثوان معدودات حملت معها صراعاً مريراً مع النفس. وكان السيد نجدت يدرك إن هذي الثواني قد تمنح عدوه القديم فرصة ليعيش أكثر إذا ما خار وأعترف له بما أقترفه ، إلا إنه شد على نفسه ليكتم هذا الصوت مستعيناً بكل أحقاده وضغائنه التي رشحت في قلبه عبر السنين . أخيراً وجد إنه لا يقوى
على المكوث بقرب ضحيته فحيا المرافقة برأسه قائلاً:
“ سأستخدم السلالم..هذا أفضل لي “ ثم أنطلق نازلاً بسرعة محاولاً الفرار من المكان.
رابط مختصر-https://arabsaustralia.com/?p=18838