مجلة عرب أستراليا سيدني- «مهرجان جاد الحاج»: دنيا بآلامها وآمالها – بقلم الكاتب شوقي مسلماني
الكلمة صديقته في حلّه وترحاله، ظلّه الذي ما أن يفارقه حتى يسارع عائداً تائباً إليه، أو بالحقّ هي روحه القلقة والوثّابة إلى كلّ ما يُفترض أن يكون أجمل، أرقّ، أشفّ وأعلى. كتب الشعر وله فيه «قطار الصدفة»، «26 قصيدة»، «عندما وأخواتها»، وكتب القصّة وله فيها «ثلاثون حكاية»، والرواية وله فيها «الأخضر واليابس»، وكلّ ما سبق هو مثالاً لا حصراً، فضلاً عن كنز مقابلات مع أعلام، ومقالات ومراجعات كلّها أيضاً إضافة في عالم الكلمة العربيّة التي لها كأنّها الربيع دائماً.
هو جاد الحاج اللبناني المولد والإنساني العالمي، صديق الترحال الأبدي، وجديده «سِفر» في 300 صفحة من القطع الكبير بعنوان «مهرجان» الذي تقول صفحة غلافه الخارجي أنّه «مقاربة روائيّة مبتكرة، تجمع التوثيقي إلى المتخيّل في مسار حكائي». والحقّ أن «مهرجان» هو دنيا بكلّ آلامها وآمالها ومتناقضاتها ومتعرّجاتها التي تضيق وتنفرج، وتصعد وتنبسط، ودائماً الإنسان فيه سيّد له أن يرتقي نحو الأكمل ارتقاءً وسموّاً بلا نهاية.
25 مشهداً مجموع مشاهد إبداع «مهرجان» حيث الكاتب يشمل بعينه السينمائيّة مذاهب فنيّة بسبلها المتعدّدة، منها مشاهد قصصيّة تجمع بالترحال أصدقاء الترحال، وتكون خلاصات أخلاقيّة، من عالم، مرّات كثيرة، أين شريعة الغابة، للأسف المرّ، من شريعة غابة الإنسان ذاتهـ أسير الجشع المدمّر لكلّ براءة، بلوغاً للأناني الشرّير والمجرم، ومنها مشاهد في ثورات وانتفاضات ضدّ الظلم، مع مقارنات، مثالاً، فيما تقول باريس «لا» عالية بأصوات مثقّفين ومفكّرين، نجد هؤلاء، إذا وجدوا، في بيروت «يتفلسفون على المتظاهرين»، كما بلسان أحد الشخوص: «لم نلمح مثقّفاً واحداً يؤازرنا في الشارع.. وفيما نزل كتّاب فرنسا وفلاسفتها وفنّانوها إلى الحيّ اللاتيني يناقشون ويساندون ويشاركون في صناعة التغيير اعتصم مبدعونا في ألـ «هورس شو» يفلسفون تظاهراتنا، كأنّهم يشاهدونها على شاشة مغبّشة من كوالالمبور».
ومشاهد في السياسة اللبنانيّة والعربيّة، في مجازر صبرا وشاتيلا والإحتلال الإسرائيلي وأوجاع فلسطين، في إبادة الطيور والكائنات الطبيعيّة، في حياة القرية التي تنقرض، في حياة مبدعين غادرونا حزانى، ومنهم الفنّان حسن علاء الدين «شوشو»، الذي بلغ ذروة شهرته في مسرحيّته «آخ يا بلدنا»، المقتبسة عن أوبرا «القروش الثلاثة» للألماني العظيم برتولد بريخت، ليقضي أخيراً بالذبحة القلبيّة سنة 1975 وهو في الأربعين من عمره، قبيل مذبحة الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي أتت على الأخضر واليابس، وفي الطليعة قصفها لمسرحه، ومشاهد عن رجال جرى التعتيم عليهم، فقط لأنّ أصواتهم أعلى في الدراية، الحكمة والعقل، رجالات لها مواقفها الشجاعة والكريمة، طليعتها المجاهد الأكبر عبد القادر الجزائري، الذي حارب فرنسا 15 عاماً، وطالما دقّ ناقوس خطرها، وهي «الباسطة نفوذها على مساحات واسعة من المغرب العربي وإفريقيا والشرق الأوسط»، ومن شرور بريطانيا «المنتشرة في في آسيا ومصر والسودان والخليج». ونتيجة تحريض العثماني والأنكليزي والفرنسي تقع مجازر 1860 في لبنان بين الموارنة والدروز، ويحاول المجاهد الجزائري أن لا تمتد ويلاتها إلى دمشق، التي يمهّد لها الإنكليز، الذين «قد يكونوا وراء الصلبان التي رسمت في شوارع دمشق ومحلاّتها» لكي تقع أحداث دمويّة بين المسلمين والمسيحيين، نجح الجزائري في الحدّ من مآسيها، ما استدعى الرئيس إبراهام لنكولن، الذي وصلت مناقب الجزائري إليه، ليهديه مسدّسين مرصّعين بالذهب الأبيض، ولكي يقلّده الفاتيكان أعلى ميداليّات الشرف، «واعتبره المؤرّخون ثالث كبار القرن 19 مع الشيخ شامل زعيم ثورة القوقاز ومحمّد علي باشا حاكم مصر». وعلى رغم كتابة الجزائري رسالة «ذكرى العاقل وتنبيه الغافل»، فإن فرنسا أخلّت بكلّ عهودها، لتحبسه، حتى «مات خمسة من أفراد أسرته في قلعتي طولون وأومبواز».
على هذا النحو، يستمرّ الكاتب في كتابته الإبداعيّة، متنقّلاً في موضوعاته المثيرة، ليكشف كيف هوليوود هي سطوة شهرة وثراء «وليس الوصول إلى الأحاسيس العميقة ومجاهل الروح»، على رغم ما يراه إنغمار بيرغمن أن «السينما حلم والسينما موسيقى، وما من فنّ يعبر الإدراك وصولاً إلى الأحاسيس العميقة ومجاهل الروح مثل السينما»، وعلى لسان أحد شخوص «مهرجان» يقول جاد الحاج، مفاضلاً بين السينما الأميركيّة والسينما الأوروبيّة: «يبدأ الفيلم الهوليودي بسطو مسلّح على مصرف، والفيلم الأوروبّي بأمّ تهرع بطفلها إلى أقرب مستشفى، وينتهي الفيلم الهوليودي بعراضة غزيرة من إطلاق النار والمطاردات السيّارة ومصرع عدد غير جدير بالإهتمام من السابلة ورجال الشرطة، وينتهي الفيلم الأوروبّي بعودة أب الطفل المريض إلى أسرته بعد غياب طويل»، وهذا «لعلّه تلخيص مبسّط للتفاوت الموضوعي بين الشاطئين»، ليضيف أن «المنتجين والمخرجين المتحرّرين من الوصفة الهوليوديّة ليسوا قلّة هامشيّة»، ومثالاً: «في مطلع ستينات القرن العشرين اجتمع 23 سينمائيّاً في نيويورك، وأصدروا بياناً يرفض تدخّل المنتجين والموزّعين والمستثمرين في أفلامهم، وممّا جاء في بيانهم: “نحن مع الفنّ، لكن ليس على حساب الحياة. لا نريد التزييف والتلميع وتصوير أفلام زهريّة تغوي”، بل تفضح، “بل نفضّل الفجّ والحي بلون الدم».
جاد الحاج في مهرجانه الذي يحاكي «مهرجان كانّ السينمائي» عام 1983، وخلفيته أحداث لبنان ذلك الزمان، عن عميق خبرة، وسعة معرفة، بعالم الفن السابع أميركيّاً، أوروبيّاً، روسيّاً، يابانيّاً، تركيّاً، هندياً، ويحاور مباشرة ومداورة أعلاماً، عبر استعراض نماذج، ومحاورة كبار، منحازاً دائماً إلى المهمّشين والمنكوبين لبنانيّاً، فلسطينيّا، كونيّاً، متوّجاً ذلك كلّه بمشهدين، أخيراً، قمّة، حين تصاب حبيبته برصاصة تدخل معها في غيبوبة، بإسقاط بارع على إصابة وغيبوبة وطنه الأم لبنان اليوم.
«مهرجان» جاد الحاج، مقاربة روائيّة إبداعيّة بحقّ، يستحقّ القراءة بجلادة، فكما قال بريسون إنّ: «العمل الفنّي يشهد على نفسه، وليس على صانعه أن يشرحه»، مع التقدير والتثمين العاليين.
رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=21226