مجلة عرب أستراليا ـ بقلم الكاتب روني عبد النور
ذات يوم، خرج سيغموند فرويد بخلاصة مفادها أن الإنسان يولد كالصفحة البيضاء؛ فلا هو خيّر ولا شرير. كلام جدلي ما انفكّ يحثّ العلماء على البحث والتبحّر. والجدل ذاك أجّجه انشغال أهل العِلم بإمكانية تأثير ضغوط الحياة “العنفية” على جينات البشر وراثياً. لكن، هنا، كان دائماً ثمة من يستطرد بأن الجينات ليست قدراً. فما الذي يردعها؟
نبدأ من الشرق الأوسط، المشبع ضغوطاً وعنفاً. فقد أوضح فريق باحثين دولي، في مجلة “Scientific Reports” قبل أقل من شهرين، الآليات الجسدية الكامنة وراء الصدمات النفسية بين الأجيال. وعلّلوا سبب كون أصحاب التاريخ العائلي العسير أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسية. ذلك من خلال تحليل الحمض النووي لـ48 عائلة سورية على مدى ثلاثة أجيال. وشملت العائلات جدات أو أمهات هربن أثناء الحمل إما من مجزرة حماة عام 1982 أو من الانتفاضة المسلحة عام 2011.
بالتعاون مع العائلات المقيمة حالياً في الأردن، تمكن الباحثون من تحليل العيّنات بحثاً عن أي تحولات كيميائية في البصمات الجينية. وباعتماد بيانات عائلات غادرت سوريا قبل عام 1980 كعيّنة ضابطة، وجد الفريق تعديلات في 14 منطقة جينومية مرتبطة بالعنف لدى أفراد شهدت جداتهم هجوم حماة عام 1982. واستمرت ثمانية من التعديلات وصولاً إلى الأحفاد الذين لم يتعرضوا للعنف المباشر.
بدورها، أظهرت 21 منطقة جينومية أخرى علامات على تغيرات ناجمة مباشرة عن عنف الحرب الأهلية الأخيرة. فجاءت التبدلات متسقة لدى الضحايا وذرياتهم – أي أن ضغوط الصراع غيّرت الرسائل الكيميائية المرتبطة بالجينات تلك. لا بل من المرجح، وفق الباحثين، أن تنطبق النتائج على العديد من أشكال العنف (بنسخه المنزلية، والجنسية، والمسلحة). الدراسة الهامة هذه تحيلنا إلى السؤال الأوسع التالي: لماذا يكون بعض الناس أكثر عرضة للانخراط في سلوك عنيف من سواهم؟
نعود إلى عام 2006. ففي بحث نُشر يومذاك في مجلة “Proceedings of the National Academy of Sciences”، تبيّن أن الذكور أصحاب المستويات الأدنى من جين MAOA – الذي أطلقت عليه أبحاث سابقة اسم “الجين المحارب” لارتباطه بالسلوك العدواني، والمشفّر لإنزيم الأكسيداز أحادي الأمين أ (MAO-A) – كانوا أكثر ميلاً لتطوير سلوك معادٍ للمجتمع استجابةً لسوء المعاملة في مرحلة الطفولة.
أجرى المعهد الوطني للصحة العقلية، في ولاية ماريلاند الأميركية، الدراسة على 142 رجلاً وامرأة لا يعانون من تاريخٍ معروفٍ للأمراض العقلية أو تعاطي المخدرات والكحول. وعمل الفريق مع أشخاص أصحّاء لتقليل تأثير العوامل الوراثية والاجتماعية الأخرى على الدماغ. فظهرت الاختلافات، تبعاً لفحوصات الرنين المغناطيسي، ملفتة للنظر: مثلاً، كانت مناطق الدماغ المشارِكة في التحكم بالعواطف والاندفاع (مثل القشرة الحزامية الأمامية) أصغر بنسبة 8% في المتوسط لدى أصحاب المستويات المنخفضة من الجين. وعندما عُرضت على الأشخاص صورٌ لوجوه غاضبة أو خائفة، أظهر المجموعة ذاتها نشاطاً أعلى بكثير في اللوزة الدماغية (المرتبطة بالغضب والسلوك العنيف).
بدوره، بعد ثماني سنوات، كشف تحليل وراثي لنحو 900 مجرم في فنلندا عن جينين مرتبطين بجرائم العنف (MAOA نفسه وCDH13، العضو في عائلة جزيئات التصاق الخلايا المعتمِدة على الكالسيوم). إذ كان حاملو الجينين أكثر عرضة بواقع 13 مرة لتكرار سلوكهم العنيف. وبحسب الدراسة المنشورة في مجلة “Molecular Psychiatry”، فإن ما لا يقل عن 5-10% من جميع جرائم العنف في فنلندا ارتبطت بحملتهما.
في معرض البحث الذي أجراه معهد كارولينسكا السويدي، خُصّص لكل مجرم ملف شخصي بناءً على جرائمه (العنيفة وغير العنيفة). وكان الارتباط بين الجينات والسلوك السابق أشدّ لدى 78 شخصاً ممن انطبقت عليهم سمة “مجرم شديد العنف”. والحال أن هذه المجموعة ارتكبت ما مجموعه 1154 جريمة قتل، أو قتل غير عمد، أو محاولة قتل، أو اعتداء بالضرب. وقد حمل أعضاء الأخيرة بالفعل نسخة منخفضة النشاط من جين MAOA.
لا يمكن، بالطبع، تجاهُل احتمال ارتباط العديد من الجينات الأخرى في السلوك العنيف، ناهيك بالعوامل البيئية. لكن نتعمق قليلاً في آليات عمل إنزيم أكسيداز أحادي الأمين أ(MAO-A) . فهو موجود في الكروموسوم “X” وبشكل طبيعي في الميتوكوندريا العصبية عن طريق تكسير العديد من النواقل العصبية الرئيسة المتصلة بالعدوانية والعاطفة والإدراك (السيروتونين والدوبامين والنورأدرينالين). وقد أظهرت نماذج حيوانية عدة تعاني من خلل في وظيفة الإنزيم مستويات دماغية زائدة من النواقل المذكورة. علماً بأن عالِم الوراثة الهولندي، هان برونر، كان رائداً بإجرائه في العام 1933 دراسة خلصت إلى أن النسخة منخفضة التأثير من جين MAOA مرتبطة بالعنف لدى البشر.
لكن كيف تُعدّل التجارب المؤلمة أو العنفية حمضنا النووي وراثياً. برأي توماس إلبرت، الأستاذ الفخري في عِلم النفس السريري وعِلم النفس العصبي بجامعة “كونستانس” الألمانية، إذا ما تعرّضت الأم لتوتر يهدّد حياتها أثناء الحمل، فإنها تنقل المعلومات ذات الصلة إلى الجنين بما “يُنبّهه” لإدراكٍ ما بأنه سيُولد في بيئة مُهددة – وبالتالي، لتعليق عمل أجزاء أخرى من شفرته الجينية، ما يغيّر محور التوتر لديه. ولئن ثبت أن العامل الوراثي ذات شأن في هذه الدينامية، ذهب فريق من العلماء إلى ما هو أبعد. إذ تناولوا المسألة من زاوية عِلم الأحياء التطوري ليتوصّلوا إلى أن طبيعتنا العنيفة موروثة – جزئياً أقله – عن سلف قديم.
شكّل ذلك محور دراسة نشرتها مجلة “Nature” في العام 2016، جمع خلالها خبراء من جامعات إسبانية بيانات عما يفوق أربعة ملايين حالة وفاة لدى 1024 نوعاً من الثدييات المعاصرة، وأكثر من 600 مجموعة بشرية منذ أواخر العصر الحجري إلى تاريخه. وإذ مثلت العيّنات 80% من الحيوانات العائدة لفصائل الثدييات، ركّز الفريق تحديداً على نسبة الوفيات الناجمة عن العنف المميت الذي ارتكبه فرد من النوع نفسه (بالنسبة للبشر، تمثلت الوفيات بالحروب، والقتل العمد، وقتل الأطفال، والإعدام). ثم جرى البحث عن أوجه التشابه بين الأنواع ذات الأسلاف المشتركة، والتي استُخدمت لسببين: استنتاج مدى عنف تلك الأسلاف؛ وإعادة بناء تاريخ معدلات القتل بينها.
جاءت النتيجة كالتالي: تسبّب القتل داخل النوع الواحد بحوالى 0.3% من وفيات الثدييات؛ وباستثناء سلف جميع الرئيسيات والقوارض والأرانب البرية، تسببت عمليات القتل في قرابة 1.1% من الوفيات؛ بينما ارتفعت إلى 2.3% بالنسبة للسلف المشترك اللاحق (الأحدث) للرئيسيات وزبابيات الشجر. كذلك، وجد الفريق أنه مع ظهور السلف البشري المشترك لأول مرة قبل نحو 200,000-160,000 سنة، بلغ المعدل زهاء 2% – وهو قدر مماثل للنسب المرصودة لدى الرئيسيات الأخرى.
فماذا يعني ذلك؟ الميل العنفي لدى البشر موروث من خلال التطور الجيني. وهو استنتاج يُضاف إلى اكتشافات الكيمياء العصبية وتقنيات التصوير لناحية انطواء العديد من الاضطرابات العاطفية واضطرابات التحكم – مثل العنف والانتحار والاكتئاب والقلق – على اختلالات في النشاط الطبيعي للدماغ نتيجةً لتغيّر التعبير الجيني، والاختلالات الكيميائية، والعوامل البيئية.
جيّد. لكن لنتمعّن بما يقوله كريستوفر فيرغسون من جامعة “ستيتسون” الأميركية: “إلى حد ما، نحن جميعاً نتاج الجينات والبيئة، لكنني لا أعتقد أن ذلك يسلبنا الإرادة الحرّة أو فهم الصواب والخطأ”. وهنا جوهر المفارقة. فالإرادة تلك هي أداة الفرد للتسلّح بالقدرة العقلية على فهم عواقب أفعاله ومحاولة التحكم بسلوكه. وبهذا المعنى، يمكن تثبيت مقولة إن الجينات، على محوريّتها، ليست قدراً محتوماً. أما صفحات فرويد البيضاء، بخيرها وشرّها، فتنتظر من إراداتنا الحرّة ملأها… كلّ على مسؤوليته الخاصة.
المراجع:
https://www.nature.com/articles/s41598-025-89818-z
https://www.pnas.org/doi/10.1073/pnas.0511311103
https://www.nature.com/articles/mp2014130
https://www.nature.com/articles/nature19758
رابط النشر- https://arabsaustralia.com/?p=41677