spot_img
spot_imgspot_img

إصدارات المجلة

العدد 51

آخر المقالات

روني عبد النور ـ الأنف… خطّ دفاعنا المناعي المتقدّم

مجلة عرب أستراليا- بقلم الكاتب روني عبد النور أغلب الظن...

هاني الترك OAMـ  الحكومة العمالية تتجاهل الصوت المسلم

مجلة عرب أسترالياــ بقلم الكاتب هاني الترك OAM ظهر غيث...

كارين عبد النور ـ الحرب تُثقل أعباء لبنان المنهَك اقتصادياً

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة كارين عبد النور الأكلاف الاقتصادية...

سهير سلمان منير ـ المخاطر الغذائية في الحياة العصرية

مجلة عرب أسترالياـ بقلم مستشارة التغذية سهير سلمان منير  بخلاف...

عائدة السيفي ـ  شخصيات بلا حدود عطاء لا محدود في شخصيات من بلادي

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتبة عائدة السيفي   شخصيات بلا حدود...

روني عبد النور ـ البكتيريا الخاملة… معنا أم علينا؟

مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتب روني عبد النور

يُقال إن بلوغ مرحلة السكون هو أنجع وسائل اكتشاف الإنسان لذاته. لكن ماذا لو كان السكون (أو سمّه الخمول) وسيلة لاكتشاف المحيط أيضاً؟ هذا بالضبط ما تفعله الميكروبات والخلايا في معادلة بسيطة ومعقّدة في آن: الدخول في حالة سبات عميق – إبطاءً للتمثيل الغذائي – بانتظار اقتناص لحظة التنشيط المناسبة.

القدرة على الانغلاق على الذات جزء حيوي من ديناميات البقاء في وجه مختلف الظروف الخارجية القاسية. وهكذا، أتقنت العديد من الكائنات الحيّة فنّ السكون والانبعاث تبعاً للظروف تلك. فوفقاً لبعض التقديرات، تدخل 60% من الخلايا الميكروبية في حالة مشابهة في أي وقت. والأمثلة البشرية على ذلك متعدّدة. من البويضات التي تترقّب لعقود لحظة الإخصاب؛ إلى الخلايا الجذعية التي تنشأ وتستكين قبل النمو والتمايز.

الأمر لا يختلف كثيراً لدى الكائنات الحيّة المجهرية التي تعيش في التربة. نعرف أن الميكروبات ضرورية لمساعدة النبات على النمو ولتحلّل المواد العضوية، حفاظاً على انتظام عمل النظم البيئية التي لم تسلم من أفعال الإنسان. وفي دراسة أوردتها مجلة “Ecology Letters” في آذار/مارس الماضي، وجد باحثون في جامعة ولاية “ميشيغان” إجابات في منجم للفحم يواصل اشتعاله في باطن الأرض منذ عام 1962 في ولاية بنسلفانيا الأميركية.

طيلة سبع سنوات، قام الباحثون بجمع عيّنات ترابية من المناطق المتضرّرة وتحليل ديناميات التربة المحيطة (والأخيرة هي الميكروبيوم الأكثر تنوّعاً). فلاحظوا تغيّراً مفاجئاً في التوازن بين حالتَي نشاط الميكروبات وخمولها في المناطق المحترقة. وكشف البحث عن أسلوب بقاء مميّز تركن إليه ميكروبات التربة الخاملة ذات العدد الهائل. فهي تتقن فنّ تعليق عملياتها، ما يسمح لها بالتكيّف مع الظروف الحرارية القاسية بانتظار نشوء بيئة مواتية مجدّداً – والمساعدة على إدامة استقرارها لاحقاً.

ومن المناجم إلى أعماق المياه. فعلى مدى عقود، جمع العلماء عيّنات من الرواسب القديمة من أسفل قاع البحر لفهم المناخات الماضية وتكتونية الصفائح والنظام البيئي البحري العميق. وكشفت دراسة نُشرت سنة 2020 في مجلة “Nature Communications” أن توافُر الغذاء المناسب في الظروف المخبرية المناسبة، يمكّن الميكروبات المجمَّعة من الرواسب التي يبلغ عمرها 100 مليون سنة من الانتعاش والتكاثر، ولو غرقت في سبات مديد.

جمع فريق بحثي ياباني عيّنات من الرواسب من جنوب المحيط الهادئ الذي يشتمل على أقل العناصر الغذائية المتاحة لرفد الشبكة الغذائية البحرية. والرواسب تلك قوامها الثلوج البحرية (الحطام العضوي الذي يسقط باستمرار من السطح)، والغبار، والجزيئات التي تحملها الرياح والتيارات المحيطية. فلاحظوا أثراً للأوكسجين في العيّنات المجمّعة على عمق 100 متر تحت سطح البحر وما يقرب من 6000 متر تحت سطح المحيط.

وهذا يشير إلى التالي: في حال تراكمت الرواسب ببطء في قاع البحر بمعدّل لا يتجاوز متراً أو اثنين كل مليون سنة، فإن من شأن الأوكسجين اختراق الممرّ المؤدّي إلى القاع. ومثل هذه الظروف تتيح للكائنات الحيّة الدقيقة الهوائية البقاء والنمو والانقسام، بدل التحجّر، لفترات زمنية مليونية. أما نسبة الصمود، فجاءت صادمة لتطال أكثر من 99% من الكائنات موضوع الدراسة.

وهذا يطرح سؤالاً بعيداً عن حبكات قصص الخيال العلمي: هل يمكن لمسبّبات الأمراض التي كانت شائعة على الكوكب ذات يوم – والمتجمّدة لآلاف السنين في الأنهار الجليدية والتربة الصقيعية – أن تنبثق من رحم الذوبان الجليدي وتعيث تدميراً في النظم البيئية الحديثة؟ في دراسة العام الماضي في مجلة “PLOS Computational Biology”، احتسب علماءٌ المخاطر البيئية التي يشكّلها إطلاق الفيروسات القديمة. وأظهرت عمليات المحاكاة أن 1% من إطلاقات عامل ممرض خامل واحد فقط بوسعه التسبّب بأضرار بيئية ضخمة.

بُعيد آلاف عمليات المحاكاة، قاس الفريق تأثيرات العامل الممرض الغازي على تنوُّع البكتيريا المضيفة الحديثة، ثم قورنت بعمليات محاكاة لم تشهد أي غزو. فتكشّف أن المسبّبات غالباً ما نجت وتطوّرت في خضم المحاكاة: في حوالى 3% من الحالات، أصبح العامل الممرض هو السائد في البيئة الجديدة؛ وفي سيناريوهات متطرّفة، أدى الغزو إلى تحجيم المجتمع المضيف بواقع 30%.

هو سكون أشبه بنشاط مقنّع. لكن لطالما حيّرت الباحثين مسألة مراقبة الجراثيم الخاملة لمحيطها وتعامُلها مع الإشارات البيئية الغامضة. إلى أن حلّ علماء الأحياء بجامعة “كاليفورنيا – سان دييغو” اللغز في دراسة نُشرت في مجلة “Science” سنة 2022. فقد اكتشفوا أن الجراثيم ذات قدرة غير عادية على تقييم البيئة المحيطة أثناء “موتها” الفيزيولوجي. ووجدوا أنها تستخدم الطاقة الكهرو – كيميائية المخزّنة لتحديد ما إذا كانت الظروف مناسبة لاستئناف النشاط البيولوجي الطبيعي.

واستنتج الباحثون أن الجراثيم تستخدم آلية تعتمد على تدفّقات أيونات البوتاسيوم لتقييم البيئة المحيطة. فبدلاً من الاستيقاظ، تطلق الجراثيم بعضاً من البوتاسيوم المخزّن استجابةً لمختلف المدخلات الصغيرة ثم تجمع إشارات إيجابية متتالية لتحديد مدى ملاءمة الظروف للخروج إلى العلن.

وبحسب الفريق، تشبه الطريقة التي تعالِج بها الجراثيم المعلومات آلية عمل الخلايا العصبية الدماغية. ففي الحالتين، تتمّ إضافة مدخلات صغيرة مع مرور الوقت لتحديد ما إذا جرى بلوغ عتبة حرجة معيّنة. وهكذا، تبدأ الجراثيم (دونما حاجة لأي طاقة استقلابية) رحلة العودة إلى الحياة، بينما تشرع الخلايا العصبية بالتواصل مع مثيلاتها (اعتماداً على طاقة الجسم).

هناك اعتقاد بأن هذه النتائج قد تنعكس بآثارها على البحث عن دليل على وجود حياة خارج الأرض. لكن إلى حين ذلك، أعلن الباحثون في وقت سابق هذا العام في مجلة “Nature” عن اكتشاف بروتين طبيعي، يُدعى “بالون”، بمقدوره إيقاف إنتاج الخلية لبروتينات جديدة. وتمّ العثور على البروتين بمحض الصدفة في بكتيريا “Psychrobacter urativorans” وموطنها التربة المتجمّدة في القطب الشمالي. واللافت أن الفريق وجد أقارب وراثيين لـ”بالون” في ما يزيد عن 20% من جميع الجينومات البكتيرية المفهرسة في قواعد البيانات العامة.

أظهرت الاختبارات ارتباط البروتين الوثيق بالمراكز النشطة للريبوسومات، وهي آلات الخلايا لإنتاج بروتينات جديدة. ومن شأن ذلك إيقاف عمل الريبوسومات وتالياً عملية الإنتاج تلك. أما مصدر تمايُز “بالون” عن البروتينات الأخرى المساهِمة في إسكات الريبوسومات، فهو إمكانية تكرار إيقافه وإعادة تشغيله وفقاً لتحسّن أو تردّي البيئة المحيطة. وقد يساعد ذلك ليس فقط على تسليط الضوء على صمود البكتيريا الخاملة شكلاً، بل السيطرة على التجمّعات البكتيرية في غير بيئة – بما لذلك من استخدامات صناعية وبيئية.

ماذا يعني كلّ ذلك؟ في عالّم تؤرقه هواجس الجراثيم المعدية والتغيّر المناخي، تكتسب قدرة الطبيعة المتأصّلة على التعافي – وتصدّينا لذلك – أهميّة قصوى. يكفي أن نتذكّر حقيقتين داهمتين: احترار مناخ الأرض بمعدّل فائق، وزيادته بواقع أربع مرات في المناطق القطبية الأكثر برودة؛ ووجود تقديرات بأن يتمّ إطلاق أربع سيكستيليونات (والسيكستيليون واحد وأمامه واحد وعشرون صفراً) من الكائنات الحيّة الدقيقة جرّاء ذوبان الجليد سنوياً.

“نحن نعيش على كوكب خامل”، يقول سيرغي ميلنيكوف، عالِم الأحياء الجزيئية التطوّرية في جامعة “نيوكاسل”. ربما الحال كذلك. لكنه سلاح ذو حدّين يجدر بنا أن نحسن تطويعه تفادياً للأسوأ.

رابط مختصر- https://arabsaustralia.com/?p=38217

ذات صلة

spot_img