مجلة عرب أستراليا ـ بقلم الكاتب روني عبد النور
تستعر صراعات وتُشنّ حروب بسبب – أو على خلفية – امتلاك هذه الدولة أو تلك لسلاح نووي. آخر الحروب وضعت أوزارها قبل أيام فقط. ومن حق قاطني الكوكب أن يتوجّسوا. لكن ليس اليورانيوم المخصَّب وأخواته سوى أحد أخطار وجودية محتملة عدّة تتربّص بنا وبشركائنا الأرضيين. تغيُّر المناخ لا يقلّ فتكاً. والذكاء الاصطناعي – على وتيرة تطوّره الحالية – قد يكتسب دهاء كافٍ لقلْب السحر على الساحر. أما النتيجة فواحدة: مستقبلنا ليس مؤكّداً البتة. لا بل كيف إن كنّا، كبشر، متكفّلين أغلب الظن بإفناء بعضنا بعضاً – بأخطار أو بدونها؟
سبق وأن وقع العلماء على أدلة تشي بأن البشر المعاصرين كانوا أكثر نجاحاً في التكاثر والصمود من أسلافهم. لكن النجاحات السابقة ليست معياراً مضموناً لإدامة تواجُدنا طويل الأمد على الكوكب الأزرق. نأخذ المناخ كمثال. هنا، يصرّ العلماء على أن فرص تجنُّب أسوء تبعاته لا تزال قائمة. إلا أن الوقت يدهمنا بشدّة. ونتوقّف عند كلام لعالمة الأحياء القديمة بجامعة أكسفورد، إيرين ساوب، بقولها: “غالباً ما تسبّبت فترات الاحترار السابقة بفقدان هائل للتنوع البيولوجي، وهذا هو سبب القلق البالغ بشأن تغيُّر المناخ البشري الحالي”.
ذلك صحيح. فالنشاط البشري يُسبّب انخفاضاً هائلاً في التنوع البيولوجي، حيث تنقرض الأنواع بوتيرة أسرع بنحو 1000 مرة من معدل الانقراض الطبيعي، أو ما يُعرف بـ”معدل الخلفية”. لكن عقب الانقراضات، يدفع الانتقاء الطبيعي بعض الفئات، والثدييات منها، إلى الانقسام لأنواع مميّزة – بما يُعرف بالنشوء النوعي أو العملية التي تتشكل من خلالها أنواع جديدة تطوّرياً – لاستغلال البيئات الشاغرة والموارد المتاحة المستجدّة.
لقد تفرّدنا عبر الأزمنة من حيث التأثير الهائل الذي أحدثناه على الأنواع الأخرى ومحيطنا الحيوي. فهل هي بارقة أمل؟ ليس تماماً. إذ رسمت محاكاة حاسوبية عملاقة لجامعة بريستول، أواخر العام 2023، خريطة لمستقبل الأرض البعيد حيث يدفع المناخ غير المألوف بالثدييات إلى حافة الهاوية.
توقّع البحث اندماج كتل اليابسة على الأرض – في غضون 250 مليون عام – لتنشأ قارة عظمى جديدة تُسمى “بانجيا ألتيما”. تلك الكتلة الأرضية الهائلة، التي قد تتشكّل بالقرب من خط الاستواء، ستشهد درجات حرارة قصوى، ورطوبة خانقة، ونشاطاً بركانياً متزايداً، ما يجعل الكوكب، بغالبيته، غير صالح للسكن.
سلّطت المحاكاة الضوء على ثلاثة عوامل رئيسة ستجعل الحياة على أرض المستقبل شبه مستحيلة. أحدها هو تكوين مصيدة حرارية هائلة؛ فبوجود مساحة داخلية (غير ساحلية) شاسعة، وانعدام المحيطات الكبيرة لتنظيم المناخ، سيُنتج الارتفاع الحاد بدرجات الحرارة ظروفاً صحراوية قاسية للغاية.
كما أن النشاط البركاني سيزداد مع تصادُم الصفائح التكتونية، ما يُطلق كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للكوكب. ونتحدّث هنا عن تكثيف تأثير الاحتباس الحراري، ما يفاقِم احترار الكوكب ويزعزع استقرار نظمه البيئية. كما ستساهم الشمس نفسها في هذه البيئة المعادية، حيث يُتوقَّع أن تصبح أكثر سطوعاً بنسبة 2.5% عما هي عليه اليوم.
توقّعت الدراسة، المنشورة في مجلة “Nature Geoscience”، أن تخضع معظم “بانجيا ألتيما” لدرجات حرارة تفوق 40 درجة مئوية. صحيح أن الثدييات تعتمد على التبريد التبخيري (كالتعرق أو اللهاث) لتنظيم درجة حرارة الجسم. لكن مستويات الرطوبة المرتفعة في “بانجيا ألتيما” من شأنها أن تمنع تبخُّر العرق، ما يتسبّب بدوره بارتفاع درجة حرارة الثدييات وموتها.
ماذا يعني ذلك؟ ما لم تُطوّر الثدييات تكيّفات مختلفة جذرياً، فقد تواجه انقراضاً جماعياً. وإذا ما صمد البشر (أو لم يقرّروا استعمار كواكب بديلة أخرى)، فسيحتاجون لاستنباط طُرق تكيّفية بيولوجية للبقاء في بيئة شديدة الحرارة والرطوبة. وعلى مدى ملايين السنين، قد يُطوّر أحفادنا سمات مقاوِمة للحرارة على مستوى الجلد والغدد العرقية أو حتى الأشكال الجسمانية الأكثر ملاءمة.
لكن نترك التهديدين النووي والمناخي للحظة ونتطرّق لما هو آتٍ نحونا بسرعة البرق. فقد أصدر الفيزيائي البريطاني – الكندي، جيفري هينتون، المعروف بـ”عرّاب الذكاء الاصطناعي”، تحذيرات صارمة وغير متفائلة بشأن المخاطر المحتملة للأخير على مستقبل البشرية. وتتمحور مخاوف هينتون حول التقدم السريع، المخلّ بالتوازنات، للتكنولوجيا تلك، والتي يُعتقد أنها قد تتجاوز الذكاء البشري قريباً لتخرج كلياً عن سيطرته.
بحسب هينتون، هناك احتمال بنسبة 10 – 20% بأن يتسبّب الذكاء الاصطناعي بانقراض البشرية خلال الثلاثين عاماً المقبلة. فكيف ننجو؟ في دراسة لمؤسسة “راند” في أيار/مايو الماضي، افترض الفيزيائي مايكل جيه. دي. فيرمير وفريقه عدم إمكانية توصيف سيناريو ما يُشكّل فيه الذكاء الاصطناعي تهديداً انقراضياً قاطعاً. وقد استندت الفرضية إلى أن البشر أصحاب قدرة على التكيّف والانتشار في جميع أنحاء الكوكب، ما يمنع الآلات الذكية من إبادتنا جذرياً.
يؤكد البعض حتمية أن يصبح الذكاء الاصطناعي خارقاً، مع احتمال شبه مؤكد بأن يَستخدم تقنيات جديدة ومتقدمة، مثل تقنية النانو والحوسبة الكمومية، للسيطرة علينا وإبادتنا، بحسب فيرمير. وقد شرع الفريق في تفصيل احتمالات تسبُّب الذكاء ذاك بالفعل بانقراض البشر. ذلك من خلال تحليل دقيق لكيفية استغلال الأخير لثلاثة تهديدات وجودية رئيسة: الحرب النووية وتغيُّر المناخ ومسبّبات الأمراض البيولوجية.
نووياً، حتى لو اكتسب الذكاء الاصطناعي القدرة على إطلاق جميع الرؤوس الحربية (وعددها يتخطى 12,000 رأساً) في المخزون النووي العالمي، فإن الانفجارات والغبار الإشعاعي والشتاء النووي الناتج ستظل على الأرجح دون مستوى انقراض الجنس البشري القادر على التكيّف والانتشار.
أما على صعيد تغيُّر المناخ، رجّح الفريق أن يجد البشر بيئات جديدة للصمود، حتى لو تطلّب ذلك انتقالهم إلى قطبَي الكوكب. فجعْل الأرض غير صالحة للسكن تماماً إنما يستدعي من الذكاء الاصطناعي أمرين اثني
ونأتي إلى الأوبئة الطبيعية المحمّلة بالاحتمالات الانقراضية. وهي واردة للغاية بالطبع. فالتجارب – وآخرها جائحة كورونا – لا تزال شاخصة أمامنا. لكن نجاة بضعة آلاف من البشر، نجحوا بعزل أنفسهم بإحكام، إنما يكفي مبدئياً لإعادة بناء النوع.
في سياق التحليل، حدّد الفريق أربع ركائز يجب أن يمتلكها الذكاء الاصطناعي الافتراضي الخارق: تحديد هدف انقراضي ما؛ السيطرة على الأنظمة الفيزيائية الرئيسة التي تُشكّل تهديداً؛ القدرة على إقناع البشر بالمساعدة والتواطؤ لفترة كافية؛ والصمود بغياب دعم بشري لاحق. وهو ما يبيّن صعوبة – إن لم يكن استحالة – حدوث انقراض شامل “ذكي” الطابع.
بيد أن ذلك ليس كافياً. إذ يقترح هينتون رفْع تخصيصات الموارد لأبحاث سلامة الذكاء الاصطناعي بمقدار 30 ضعفاً. ويشدّد على مسألتين اثنتين: ضرورة تعزيز الجهود المبذولة للحد من المخاطر المحتملة؛ والحاجة الملحة لاتخاذ تدابير تنظيمية رادعة ذات صلة. جيّد. لكن نعود إلى حيث بدأنا، ونحدّق بتاريخنا القديم والحديث. فهل ثمة حاجة فعلاً لتدخُّل الذكاء الاصطناعي – أو أي عامل خارجي آخر – لتسريع مسار تدميرنا لأنفسنا وللكوكب؟ أليس التدمير الذاتي ميلاً بشرياً لا ينفكّ يترسّخ أناء الليل وأطراف النهار… وبلا منّة من أحد؟
رابط النشر- https://arabsaustralia.com/?p=43209
المراجع:
https://www.nature.com/articles/s41561-023-01259-3
https://www.rand.org/pubs/research_reports/RRA3034-1.html



