مجلة عرب أسترالياـ بقلم روني عبد النور
قبل سنوات، عرّف ستيف جوبز، مؤسس شركة “آبل”، الإبداع بأنه “مجرّد ربط الأشياء ببعضها البعض”. وهو تعريف السهل الممتنع. فالإبداع سمة بشرية مميزة، لكنه ينمّ أيضاً عن قدرة عابرة ومتناقضة، غالباً ما تطلّ برأسها دون استئذان. وهي أيضاً سمة معقدة قوامها آليات معرفية مختلفة تعمل بتراصّ تام. من القدرة على التفكير غير التقليدي بالحلول؛ إلى المزج المبتكر للأفكار والمفاهيم؛ وصولاً إلى تخيّل نتيجة مهمة ما قبل إنجازها. يأتي ذلك مصحوباً بقدرة فائقة على التكيّف. إنه السهل الممتنع حقاً. أما سبر أغوار الدماغ “المبدع”، فيسكب من الإجابات وينضح من الذهول الشيء الكثير.
عام 1950، وضع الدكتور ج. ب. غيلفورد، رئيس الجمعية الأميركية للطب النفسي آنذاك، تصوّره للدراسة النفسية للإبداع. ومن خلال نظريّته، الأبعاد المتعددة للإبداع، اعتبر أن التفكير الإبداعي يشمل أربعة أبعاد: السلاسة، والمرونة، والأصالة، والتوسّع. افترض غيلفورد إمكانية تقييم الإبداع بشكل منهجي من خلال اختبارات ومقاييس خاصة. ثم توالت الأبحاث، حيث بات التعريف القياسي الذي يعتمده الباحثون يضع الأفكار الإبداعية، عملياً، في خانة الأصالة والفعالية.
تمثلت إحدى الطرق بالابتعاد عن تعريف الإبداع على أساس المنتج الإبداعي للفرد والتركيز بدلاً من ذلك على ما يدور في الدماغ خلال سريان العملية الإبداعية. فمن خلال التمعّن بتفاعلات الأخير، يمكن رصد العملية تلك وتحديد خصائص الفكر الإبداعي. وكان لتقنيات التصوير العصبي دور محوري في جعل المراقبة والرصد ممكنين .
وذهب آخرون إلى فحص العلاقة بين البصيرة الإبداعية ونظام المكافأة في الدماغ. فلدى إخضاع مشاركين لاختبارات بحلّ ألغاز معيّنة، تبيّن أن البصيرة الإبداعية لدى شديدي الحساسية تجاه المكافآت بينهم، استحالت اندفاعاً في نشاط القشرة الجبهية الحجاجية للدماغ. والقشرة تلك مسؤولة عن معالجة ودمج المدخلات الحسية المختلفة وتستجيب للمتع الأساسية كالطعام والمواد المخدرة. وهكذا، افترض الخبراء أن المكافأة العصبية قد تفسّر، من وجهة نظر تطوّرية، سبب اندفاع البشر للإبداع.
نتعمق أكثر. فالعام الماضي، اعتقد علماء الأعصاب في كلية “بايلور” للطب أنهم حدّدوا الشبكة العصبية واسعة النطاق التي تحافظ على تدفق العصارة الإبداعية في الدماغ. وهذا يعني أن الفكر الإبداعي لا يقتصر على جزء واحد من القشرة الخارجية للأخير فحسب. إذ عندما جرى قمع مؤقت لأجزاء معيّنة من شبكة الوضع الافتراضي (وهي ترتبط بأنماط التفكير “الافتراضية” التي تحدث في غياب مهام عقلية محددة) لتسعة مشاركين بالغين، عن طريق التحفيز العميق للدماغ، استعصى عليهم التفكير بنفس الدرجة “خارج الصندوق”.
تجدر الإشارة إلى أن شبكة الوضع الافتراضي تنشط عندما يتجوّل العقل بحرية بين الأفكار. فهي منظمة بشكل مثالي للتفكير المتخفف من القيود، وإقامة اتصالات بين “المفاهيم المتباعدة ظاهرياً” للتوصل لأفكار عفوية وحلول فريدة. وبعكس معظم وظائفنا الدماغية الأخرى، فهي ليست موجهة نحو هدف محدّد – أي، بعبارات أخرى، تعمل الشبكة بلا انقطاع محافِظة على تدفّق وعينا العفوي.
في عام 2022، كان جراح الأعصاب الأميركي، بن شوفتي، وزملاؤه أول من وقع على علاقة سببية بين نشاط الشبكة العصبية الافتراضية والأفكار الإبداعية. فعند إزالة أورام المخ لدى مجموعة مرضى، اكتشف الفريق أن تثبيط الشبكة العصبية الافتراضية كهربائياً لجم التدفق الإبداعي لدى المشاركين. إذ لم يعد بإمكان المتطوعين التوصل للعديد من الاستخدامات المبتكرة للأشياء المألوفة ذات الاستخدام اليومي.
بعدها، وبالتعاون مع جامعة يوتا، أظهر الفريق تأثيراً مشابهاً لدى المشاركين الخاضعين لمراقبة حالات الصرع. وبواسطة زرع أقطاب كهربائية في المخ، تمكّن العلماء من إجراء تحفيز عميق لبعض الشبكات العصبية وتتبّع نشاطها الكهربائي (عبر قياس مخططات كهربية الدماغ للنشاط الكهربائي العصبي مباشرة وفي الوقت الفعلي). وفي معرض الدراسة التي نُشرت في مجلة Brain في أكتوبر/تشرين الأول 2024، طُلب من 13 مريضاً بالصرع، زُرعت في أجسادهم أقطاب كهربائية، أن يذكروا أكبر عدد ممكن من الاستخدامات الجديدة لشيء ما يستخدمونه يومياً. وإذ مُنحوا دقيقة واحدة للإجابة، تمكن الفريق من تحديد ما يحدث خلال أول جزء بالألف من الثانية من محاولة تفعيل التفكير الإبداعي.
كانت شبكة الوضع الافتراضي – ونشاطها يتبدّل بإزاء العديد من الاضطرابات، حيث تصبح أكثر نشاطاً من المعتاد، كنتيجة محتملة لزيادة التركيز على الأفكار السلبية الموجهة داخلياً – أول أجزاء الدماغ تفاعلاً. وبعد فترة وجيزة، زامنت الشبكة نشاطها مع مناطق دماغية أخرى، كتلك التي تشارك في حل المشكلات واتخاذ القرار. وهو ما دلّ على أن الشبكة تسترجع وتغربل أنواعاً مختلفة من المعلومات لتوليد أفكار مبتكرة قبل إرسالها للتدقيق في “مختبرات” مناطق دماغية أخرى مختصّة بالتفكير النقدي.
بدوره، يشير بحث حديث أجراه علماء في مستشفى بريغهام – ماساتشوستس إلى أن مناطق الدماغ المختلفة التي يتم تنشيطها من خلال المهام الإبداعية تشكل جزءاً من دائرة دماغية مشتركة. فمن خلال تقييم بيانات 857 مشاركاً عبر 36 دراسة، حدّد الباحثون دائرة دماغية للإبداع (وهي عبارة عن شبكة تعمل لتوليد أفكار وخواطر جديدة كمناطق تشارُك الذاكرة والانتباه وحل المشكلات). ووجدوا أن من يعانون من إصابات دماغية أو أمراض تنكسية عصبية، ذات أثر على الدائرة تلك، قد يشهدون زيادة في منسوب الإبداع.
نظر الفريق، في الدراسة التي نُشرت الشهر الماضي في مجلة JAMA Network Open، أولاً في بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لتحديد مناطق الدماغ التي يجري تنشيطها من خلال أنشطة إبداعية مختلفة، كالرسم والكتابة وتأليف الموسيقى. ثم عمدوا إلى تقييم البيانات من المرضى الذين عانوا من تغيّرات في نشاطهم الإبداعي نتيجة إصابة دماغية أو مرض تنكسي عصبي.
وكشف البحث أن التغيّرات في منسوب الإبداع تعتمد على مكان وقوع الإصابة دماغياً. فبعض المناطق، عندما تتأثر، يمكنها إما تعطيل القدرات الإبداعية أو تعزيزها. أما الملاحظة الأكثر إثارة، فتمثّلت بأن مناطق الدماغ المختلفة التي يتم تنشيطها من خلال المهام الإبداعية كانت جميعها متصلة سلباً بالقطب الجبهي الأيمن (المهم لناحية مراقبة السلوكيات القائمة على القواعد).
فما شرح ذلك؟ قد يتماشى انخفاض النشاط في القطب الجبهي الأيمن مع الفرضية القائلة بأن الإبداع يتطلب تعليق وظيفة ما – وتحديداً، تثبيط التقييمات التي تفرض الرقابة الذاتية، ما قد يسمح بتحقيق الترابط الحر وتوليد الأفكار بحرية أكبر. وهي طريقة أخرى للقول إن الإبداع يتفتّق عن تكبيل الناقد الداخلي للفرد.
هذه الأبحاث وسواها تشرّع آفاقاً واسعة لفهم الأساس العصبي للإبداع، ما قد ينعكس على تطوير علاجات للاضطرابات العصبية نفسها. لكن لا بدّ من العودة إلى العلاقة السببية المفترضة بين المكافأة العصبية والإبداع. فوفق عالِم النفس مارك أ. رونكو، مدير أبحاث الإبداع والبرمجة في جامعة جنوب أوريغون: “يبدو أننا مبرمَجون للاستمتاع بالأفكار الإبداعية… هناك مكافآت عصبية للتفكير بطريقة إبداعية، وقد يكون ذلك متكيفاً مع جنسنا”. وذلك التكيّف هو بالأخص ما يبلور ويبرّر الارتباط التام بين عملياتنا المعرفية ومخرجاتنا الإبداعية. كلام يعيدنا في صميمه إلى تعريف “المبدع” ستيف جوبز للإبداع حرفاً بحرف.
رابط النشر- https://arabsaustralia.com/?p=41423
المراجع:
https://jamanetwork.com/journals/jamanetworkopen/fullarticle/2830230
https://academic.oup.com/brain/article/147/10/3409/7695856?login=false