مجلة عرب أستراليا
الإنسان بِوصفه مخلوقاً موسيقيّاً
في أحد أيام القرن التاسع عشر، قال الفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه، إحدى عباراته الشهيرة: “إن الحياة بدون موسيقى ستكون غلطة”. كلامٌ قد يكون بدا غير مألوف يومها. لكن التجارب والاختبارات المواكِبة للتطوّر العلمي تثبت أن غلطة كتلك قد تكون مكلفة للغاية، في الواقع.
قبل أشهر، أعاد فريق بحثي من جامعة كاليفورنيا في بيركلي تركيب إحدى أغنيات فرقة “بينك فلويد” الشهيرة بواسطة التنصّت على موجات دماغية بشرية. ففي سابقة من نوعها، جرى فكّ تشفير الأغنية وإعادة التعرّف عليها من خلال تسجيل نشاط الدماغ البشري الكهربائي لـ29 مريضاً سبق واستمعوا لمقطع منها. نشاط دماغ المتطوّعين حُدّد عن طريق وضْع أقطاب كهربائية في أدمغتهم لدى خضوعهم لعمليات جراحية لمعالجة الصرع. وأتاحت تقنيات الذكاء الاصطناعي فكّ تشفير التسجيلات ثم إعادة إنتاج نسخة من نغمات الأغنية وكلماتها.
البحث، الذي نُشر في مجلة PLoS Biology، أضاء على مناطق من الدماغ لم يكن يُعرف سابقاً عن مشاركتها في عملية اكتشاف الإيقاع، مُثبِتاً أن الجانب الأيمن من الدماغ كان أكثر انسجاماً مع الموسيقى من نظيره الأيسر. والأهم أنه فتح نافذة على إمكانية استعادة من يعانون من حالات عصبية معقّدة – كالتصلّب الجانبي الضموري – للطابع الموسيقي للتعبير الكلامي. يأتي ذلك تعزيزاً للشواهد على علاقتنا المتجذّرة بالموسيقى.
نعود بضع سنوات إلى الخلف. ففي 2016، وجدت دراسة أجراها معهد التعلّم وعلوم الدماغ بجامعة واشنطن، ونُشرت في دورية Proceedings of the National Academy of Sciences، أن تشغيل الموسيقى خلال مشاركة أطفال (في الشهر التاسع من العمر) في حصص لعب، أدى إلى تحسين معالجة أدمغتهم ليس فقط للموسيقى، إنما لأصوات تعبير كلامي لم يسبق واختبروها أيضاً.
فبحسب الباحثين، للّغة أوجه شَبه مع الموسيقى لناحية اشتمالها على أنماط إيقاعية متينة، حيث يستخدم المستمع توقيت المقاطع لتمييز أصوات تعبير كلامي عن الآخر في معرض فهْم ما ينطق به أحدهم. وهذه القدرة على التعرّف على أصوات التعبير الكلامي المختلفة هي، فعلياً، ما يساعد الأطفال على إتقان مهارة التحدّث. إذ إن إدراكَ الأنماط قدرةٌ معرفيةٌ بذاتها، وقد يرتبط تطويرها في سنّ مبكرة بآثار طويلة الأمد على التعلّم.
جرى تقسيم 39 طفلاً على مجموعتين انخرطوا بعدها في 12 حصّة لعب مدّة كل منها 15 دقيقة. وفي إحدى المجموعتين، وقوامها 20 طفلاً، قام الباحثون بتشغيل أغانٍ صعبة الحفظ للأطفال. أما المجموعة الأخرى، فكانت حصص اللعب التي شاركوا فيها خالية من الموسيقى تماماً.
بعد مرور أسبوع، جرى أخْذ قياسات استجابة أدمغة الأطفال خلال استماعهم لسلسلة أصوات موسيقية وتعبيرية – والأخيرة شهدت تقطيعاً متعمَّداً بين الحين والآخر – بواسطة ماسح ضوئي. وأُخضعت عملية المسح للتحليل، مع التركيز على مناطق الدماغ المرتبطة بالمهارات المعرفية. فتبيّن أن أعضاء “مجموعة العشرين” أظهروا استجابات دماغية أقوى حيال تقطّع الأصوات الموسيقية وإيقاع التعبير، مقارنةً بالمجموعة الأخرى.
ماذا يعني ذلك؟ للتفاعل مع الموسيقى تأثير تحفيزيّ إيجابيّ على أدمغة الأطفال. والمثير هنا أن مصدر التفاعل ذاك قد يكون الاستماع، الغناء أو حتى العزف ويتخطّى عامة مرحلة الطفولة. فقد استنتجت دراسة أخرى لجامعة إكستر البريطانية، صدرت في المجلة الدولية للطب النفسي للشيخوخة بداية العام الحالي، أن العزف على آلة موسيقية أو تأدية الغناء الجماعي لفترات طويلة قد يدعّم هو الآخر الصحة المعرفية لدى الإنسان مع التقدّم في السنّ.
الدراسة حلّلت بيانات مستقاة من دراسة لمشروع PROTECT – وهو تعاوُن مع جامعة كينغز كوليدج في لندن – تعود لـ1107 أفراد يتخطّون الـ40 من العمر. وجرت مقارنة القدرة المعرفية لهؤلاء مع إمكانيّاتهم الموسيقية المبلَّغ عنها ذاتياً، سواء كانوا عازفين أو مؤدّين للغناء الجماعي أم لا. وأظهر التحليل أداءً أعلى على صعيد الذاكرة العاملة والوظيفة التنفيذية لدى العازفين وارتباطاً بين الغناء والوظيفة التنفيذية، كما بين القدرة الموسيقية الشاملة والذاكرة العاملة.
فما سرّ ـ أو أحد أسرار ـ هذه العلاقة؟ يعتقد العلماء أن القدرة على إدراك الإيقاع تطوّرت تدريجياً بين الرئيسيات لتصل إلى ذروتها لدى البشر. وأحد هؤلاء هو هينكيان هونينغ، أستاذ الإدراك الموسيقي في جامعة أمستردام ومؤلّف كتاب “أوركسترا الحيوانات المتطوّرة: بحثاً عمّا يجعلنا موسيقيّين”. ففي سنة 2009، وجدت مجموعته البحثية أن حديثي الولادة يمتلكون القدرة على تمييز النبض المنتظم في الموسيقى. وهو ما دفعه للتعمّق في البحث لاستكشاف الأسُس البيولوجية لقدرة البشر الفطرية على إتقان الجُمل الموسيقية والتفاعل معها.
اللافت في الأمر هو إظهار المشاركين صغار السنّ قدرة على توقُّع الإيقاع المفقود، حيث أظهرت أدمغتهم ارتفاعاً واضحاً في منسوب النشاط، ما يدلّ على رصْدها تضارُباً ما مع توقّعاتهم بإزاء غياب نغمة موسيقية محدّدة. لكن انقسام الآراء حول النتائج حينذاك دفع بالمجموعة سنة 2015 لإعادة النظر في الدراسة السابقة عبر تضمينها عدداً من البالغين وقرود المكاك.
جاءت النتائج غاية في الوضوح بحسب ما ورد مؤخّراً في مجلة Cognition. فقد قدّمت الدراسة أدلّة متقاربة على قدرات إدراك النبضة الموسيقية لدى حديثي الولادة. ووفق الخلاصات، تشكّل قدرتنا الإدراكية تلك آلية متميّزة بغضّ النظر عن دينامية التكرار والاعتياد. فإخضاع قرود المكاك سنة 2018 لذات التجربة، مثلاً، لم يفضِ إلى أدلّة على معالجة أدمغتها للعلامات الإيقاعية، إنما أبرزَ مجرّد حساسية لديها تجاه انتظام الإيقاعات. وهذا يُغني الحجة القائلة بوجود أساس بيولوجي للقدرة الإدراكية الإيقاعية كإحدى الميّزات التطوّرية للجنس البشري.
بعبارات أخرى، الإنسان مخلوق موسيقيّ. وهذا يُترجَم بعدم كون الموسيقى علاجاً تحفيزياً للدماغ وقدراته الإدراكية فحسب، بل جزء عضويّ راسخ فينا لا يزيده البحث العلمي سوى وضوحاً.