مجلة عرب أسترالياـ بقلم الكاتب روني عبد النور

على من يظنّ أن قدراتنا الدماغية الفائقة تنعكس بالضرورة سرعة قصوى في وتيرة تفكيرنا أن يتريّث قليلاً. صحيح أن للدماغ البشري، بوصفه “الآلة” الأكثر تعقيداً في الكون، قدرات تحليلية جبّارة. وصحيح أنه مدعّم بترسانة من نحو 80 مليار خلية عصبية وبتريليونات الاتصالات في ما بينها. لكن بعد طول أبحاث وانتظار، لم يأتِ النظر في سرعة الدماغ البشري في معالجة المعلومات بذاتها بما يثلج صدور كثيرين. أما النتيجة، فسرعة متواضعة نسبياً تدور في فلك 10 بت في الثانية. ويكفي مقارنة الرقم ذاك بمتوسط سرعة الاتصال عبر شبكة الإنترنت – أي 50 مليون بت في الثانية – لفهم مدى البطء ذاك.
بحسب دراسة نُشرت الشهر الماضي في مجلة “Neuron”، فإن مردّ البطء يعود إلى كيفية معالجتنا الداخلية للأفكار، ما يؤدي إلى إنشاء “طابور” انتظار بطيء ومزدحم. وهذا إنما يتناقض بشكل صارخ مع الطريقة التي يعمل بها الجهاز العصبي المحيطي، مثلاً. فالأخير يدأب على جمْع البيانات الحسية (كالبصر والشم والصوت) بالتوازي وبسرعة جيجابت في الثانية الواحدة – أي أسرع بـ100 مليون مرة من وتيرة معالجة الدماغ للأفكار.
بالنسبة لمؤلفي الدراسة، وهُم علماء أعصاب في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ثمة في التفاوت بين المدخلات الحسية وسرعة المعالجة لغز محيّر. إذ تساءلوا: “نستخرج في الثانية الواحدة 10 بت من أصل تريليون بت تستقبلها حواسنا لإدراك العالم من حولنا واتخاذ القرارات. فماذا يفعل الدماغ لتصفية كل المعلومات تلك؟”. وهو سؤال محقّ. فالناس يميلون إلى الشعور بأن أفكارهم ومشاعرهم الداخلية أكثر ثراءً بكثير مما باستطاعتهم التعبير عنه فعلياً. وهي مفارقة بيولوجية من شأنها المساهمة في الشعور الزائف بإمكانية عقلنا الانخراط في لعبة أفكار لا حصر لها في أي وقت.
في الورقة البحثية التي امتدّ إعدادها نحو قرن من الزمن، عالج الباحثون مسألة التفاوت بين معالجة “دماغنا الخارجي” للمحفزات الخارجية وحسابات “الدماغ الداخلي”. وأبرزت النتائج مدى محدودية معرفتنا الدقيقة بآلية تفكيرنا. وقد اقترح الفريق إمكانية ارتباط الأمر بمتطلبات الضرورة – أو بالأحرى، انعدام الأخيرة من أصله. فنحن، في الواقع، لا نحتاج إلى 10 بت في الثانية الواحدة إلا في أسوأ الحالات. لا بل هُم ذهبوا حدّ شرْح كيفية تغيُّر بيئتنا الخارجية عموماً بما يفي بإتمام عملية اتخاذ القرار لا أكثر.
الدراسات السابقة التي حلّلها الفريق شملت عِلم النفس والأعصاب والتكنولوجيا والأداء البشري. واستخدموا البيانات المختلفة (كسرعة معالجة الخلايا العصبية الفردية والبراعة المعرفية) بغية إجراء المقارنات ذات الصلة. مثلاً، فقد تناولوا معدل الإنتاجية السلوكية البشرية لمختلف السلوكيات والأنشطة. ومنها: حفظ الأرقام الثنائية (4.9 بت في الثانية)؛ التكلم بـ17 لغة مختلفة (39 بت في الثانية)؛ فهم الاستماع باللغة الإنجليزية (13 بت في الثانية)؛ التعرف على الأشياء (30-50 بت في الثانية)؛ والكتابة (10 بت في الثانية).
نعود إلى مَيل الناس للاعتقاد بأن حياتهم الداخلية معقدة للغاية بحيث لا يمكن التعبير عنها بالكلام في الوقت الفعلي. وهذا ما جعل الفريق يزعم أن للوهم المذكور عواقب بسبب اعتناقه أيضاً من قِبَل أباطرة التكنولوجيا. فقد وصف إيلون ماسك – أحد مؤسسي شركة “نيورالينك”، المتخصصة في زراعة الأدمغة في العام 2018 – أن الغرض من الشركة هو خلْق واجهة ذات نطاق تردّدي عالي للدماغ، بحيث يمكن للبشر التعايش مع الذكاء الاصطناعي. بيد أن الفريق شكّك بضرورة إيجاد واجهة كتلك للتواصل مع الدماغ. فبدلاً من حزمة أقطاب “نيورالينك”، يمكن استخدام الهاتف ذات معدل البيانات المصمّم لمطابقة اللغة البشرية والتي تتوافق بدورها مع سرعة الإدراك. إنه، بعبارات أخرى، ما أطلق عليه العلماء “وهْم ماسك”.
أحد الأسئلة التي أجّجت فضول الخبراء هو سبب احتواء القشرة الجبهية الأمامية – وهي مقر التحكم في الشخصية والسلوك – على مليارات الخلايا العصبية تقابلها قدرة ثابتة على اتخاذ القرار ومعالجة المعلومات بسرعة 10 بت في الثانية فقط. هنا، اشتبه الباحثون في أن الإجابة – الفرضية قد تكون مرتبطة بحاجة الدماغ إلى تبديل المهام بشكل متكرّر ودمج المعلومات عبر دوائر مختلفة. وهو افتراض لم يخرج من فراغ. فعلى مرّ العصور، تطوّرت أدمغة البشر لتتبُّع “مسار” واحد للفكر في آن. لذا، خلص الفريق إلى أنه يمكن اعتبار التفكير البشري شكلاً من أشكال الملاحة عبر فضاء من المفاهيم المجردة. وقد اختار أسلافنا مكانة بيئية يسير العالم فيها ببطء كافٍ لجعل البقاء ممكناً.
جيّد. فإذا ما استعدنا حقبات خلت، لوجدنا أن الأنظمة العصبية المبكرة لدى الكائنات البدائية كانت بسيطة ومصمّمة لأداء مهام أساسية، كالتنقل لتأمين الغذاء وتجنُّب الحيوانات المفترسة. ولم تكن تلك الأنظمة بحاجة إلى التعامل مع سيناريوهات معقدة ومتعددة المهام، بل إلى اتخاذ قرارات متّصلة بالبقاء. ومع تطوُّر البشر، انتقل هذا القيد إلى النسخة الأكثر تعقيداً من أدمغتنا.
إنها إذاً أشبه بمقايضة تمّت على مستوى التطور البشري: الأولوية للجودة والتركيز والبقاء على حساب السرعة وتعدُّد المهام. أما تحديد الأولويات هذا، فهو ما يمنحنا هامشاً تفوّقياً. إذ إن تصفية الأدمغة لتريليونات المدخلات الحسية من البيانات غير الضرورية، لهي قدرة بشرية تكيّفية بامتياز.
جدير بالذكر أن فكرة اتصال مبدأ البقاء بطريقة معالجة الدماغ للمعلومات الحسية شكّلت موضع دراسة سنة 2023 للمعهد السويدي الملكي للتكنولوجيا. يومها، استخدمت الدراسة نظرية المعلومات والنماذج الحاسوبية للدماغ وقدّمت وجهة نظر جديدة للترميز العصبي وتشفير المعلومات قدر تعلُّق الأمر بأنواع مختلفة من المدخلات الدماغية وعمادها المقايضات الحيوية بين السرعة والدقة.
ووجد الفريق تناقضاً مباشراً مع “فرضية الترميز الفعال” للعالِم البريطاني هوراس بارلو في عام 1961 – وفحواها: قيام مجموعة من الخلايا العصبية بتشفير المعلومات بشكل مضغوط لتعظيم الاستخدام الفعال للموارد . فلكي تحقّق الحيوانات البقاء، عليها أن تستنتج مدخلاتها الحسية بسرعة. لكن للأجزاء المختلفة من الدماغ “استراتيجيات ترميز” خاصة بها، كما ذكر الباحثون. إذ على النقيض من النشاط العصبي المرتبط بالرؤية، بدا أن الخلايا العصبية في الجزء الدماغي الذي يشكل تمثيلًا للمساحة – أو أيضاً شعوراً بالمكان – تبدّي في الواقع الدقة على السرعة.
وهذا يحيلنا مجدّداً إلى دراسة معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. فوفق الباحثين، قد تمنحنا معرفة كيفية تطوُّر أدمغتنا فوائد عدّة: من تعزيز الإدراك البشري وتطوير تقنيات أكثر ذكاءً وكفاءة؛ مروراً بتحسين قدرات الذكاء الاصطناعي بما يتناسب مع بنيتنا العصبية الخاصة؛ إلى دعْم الجهود العلمية الرامية إلى تطوير واجهات الدماغ والحاسوب. ناهيك بتكشّف فوائد أعمق للتباطؤ الدماغي في التعامل مع العالَم ودينامية اتخاذ القرار.
أفضل من أوجز المسألة كان توني زادور، عالِم الأعصاب في مختبر “كولد سبرينغ هاربور” في نيويورك، بقوله: “يبدو أن الطبيعة بنت حداً لسرعة توالي أفكارنا الواعية ليس بمقدور الهندسة العصبية تجاوزه. أما السبب المجهول، فقد يكون نتاج تاريخنا التطوري”. وهو، بالمناسبة وللمفارقة، التاريخ نفسه الذي يميّزنا عن الآلات الذكية – لغاية الآن – بتفوّق إبداعي وعاطفي وتكيّفي. تفوُّق صعب التقليد وإن شاب بعض ملامحه بطء من هنا… وأوهام من هناك.
المراجع:
https://www.cell.com/neuron/abstract/S0896-6273(24)00808-0
https://elifesciences.org/articles/84531
رابط النشر-https://arabsaustralia.com/?p=40491