مجلة عرب أستراليا سدني- رواية للأديب عادل أحمد شريفي – ولدتُ مرتين سيدني – دمشق
إهداء: إلى من أشعل الفكرة في رأسي..
مقدّمة:
أن يفتح لك وجه إنسان باباً ثانياً على الحياة كُنتَ قد أغلقت الأوّل منه بيدك، هو بمثابة حبلٍ مُدّ لك من عالم الميتافيزيق، فهناك آلهة لم تأذن بموتك بعد، آلهةٌ رحيمة -غير تلك التي حدّثوكَ عنها طوال عمرك السّابق- لها وجهة نظر أخرى في طريقة إنهاء رحلتك في عالم المنطق. تمديد قسري لإقامتك، إنّما بنكهة الجنّة، فقبل أن ألتقيه وأنا على عتبة البرزخ، كانت حياتي أشبه بجحيم ضُربت أسواره حول امتدادات رغباتي، فحوّلتها إلى مجرّد عرض متواصل للملل، معسكر اعتقال نازيّ عُدَّتُهُ الرّتابة و”اللا إنتماء”، تتناوب فيه الأسئلة الوجوديّة على فكري كأسطوانةٍ مشروخةٍ لا تعرف الرّحمة، من أنا؟ وماذا أفعل هنا؟ وإلى أين؟ ومتى؟ سياط من الجهل تجلد ذاتي صباح مساء، حتّى إذا يئست تماماً من معرفة الحلول لأحجيتي الغريبة، قررت أن أضع حداً لحياتي التي لم أكن أعرف لها أيّ مغزىً. قالوا لي إن أرحم موتٍ ينجم عن تناول كميّة كبيرةٍ من الحبوب المهدّئة، فقد أموت بشعورٍ مخدّر، ولمَ لا؟ فخاصّيّة التّخدير كانت أقرب صفاتي التي نشأتُ وترعرعتُ عليها، بعد أن اضطررتُ إلى ذلك مراراً إثر كلّ عمليّةِ كسرٍ لشوكةِ قلبي تناوب الجميعُ على إجرائها لي مجاناً، تماماً كما لو أنّني لم أغادر غرفة العمليات طيلة عمري السّابق، إلا أنّ الفارق كان في التّخدير، فهناك في المشافي يجرون عمليات التّخدير قبل الجراحة، لكنّني كنتُ أجري التّخدير ذاتيّاً بعد انتهاء الجراحة.
على بوّابة الممرِّ إلى النّور، الممرُّ ذاته الذي قرأ عنه الكثيرون في تجارب العائدين إلى الحياة، بعدما ابتلعتني موجةٌ من البلادة والخدر أوصلتني إليه بحركةٍ متثاقلة، هي أشبه بالإعادة السّريعة لمجريات حياتي السّابقة دون أن يكون لي أيّ قوّة في التّملّص من الانجذاب نحو النّور في آخر الممر، فجأةً جذبني شخصٌ ما بقوّة، شخصٌ صامتٌ كالموت، إلا أنّ وجهه كان عامراً بالأمان. اعتقدتُ بدايةً أنّه يسوع، إلا أنّ سيماهاً شرقيّةً كهذه لا يمكن أن تكون ليسوع، نظر الشّخصُ الملاك في عيني، وبدون أيّ رفّة جفن -كطبيبٍ يداوي طفلاً- دسَّ يده في حلقي فتقيّأتُ كلّ ما في جوفي، ثمّ حملني بيديه وأنا لا أنفكّ أتفحّص معالم وجهه الجدّيّة، أردتُ أن أسألهُ من أنت؟ إلا أنني لم أقوَ على الكلام أبداً. خطا بي عدّة خطواتٍ خارج الممر المظلم، ثمّ أنزلني على قدميّ وقال لي جملةً واحدةً، “عودي إلى جذورك!”، قالها بصوتٍ ذي ذبذباتٍ لا يُمكن أن تُنسى، ذبذباتٍ تشرّبتها دهاليز سمعي إلى الأبد، لأصحو بعدها في غرفة الإنعاش.
حُفرت صورته في ذاكرتي. صرت أراه كلّما أغمضت جفوني، بينما بقي صوته يطنّ في أذني ليلاً نهاراً كأنّه منبّه بيولوجي مربوط على النّبض، “عودي إلى جذورك.. عودي إلى جذورك”.
قال لي د. كارنسن الذي أشرف على انعاشي في مشفى الملك جورج في حي نيوتن القريب: “إن تقَيُّؤَكِ المفاجئ والسّريع كان السبب في نجاتك”.. أخبرني أيضاً أنّ الجسم يقوم عادةً بردّة فعل دفاعيّة للتّخلّص من السّموم التي تعرّض لها، ولكن في حالةٍ كحالتي تلك كان من المفروض أن تتوقف جميع الوظائف الحيويّة للجسم بسبب حالة التّخدير العالية التي تعرّضت لها.
: “حقاً لقد عُدتِ من الموت يا مادلين.. وهذه أعجوبة برأيي”.
من يومها تحولّت كلّ أسئلتي التي لا جواب لها إلى سؤال واحدٍ، “من أنت؟”…..
رابط مختصر-https://arabsaustralia.com/?p=13562