مجلة عرب أستراليا سيدني-نسرٌ و حمامة
بقلم الدكتور رغيد النحّاس
يضحكني ويؤسفني أنْ أرى البعض يستخدم الأسد أو النسر أو ماشابه من الوحوش والجوارح والكواسر كشعارات لنمط تفكيرهم، بما في ذلك استخدامها صورًا لصفحاتهم على فيسبوك، وكأنّ مجرّد استخدام هذه الشعارات يرفع من منزلتهم، أو أنّه يظهرهم بصورة قويّة أمام الناظرين. أو كأنّ القوّة هي بالجسارة والوحشيّة وإبادة الآخرين. وأفْهم طبعًا أنّ البعض يتّخذ هذه الشعارات كرمز للفخر والاعتزاز. أحترم الخيار الشخصيّ، وإن كان خياري أن لا أقبل بمضمونه في سياق ما أتحدّث عنه هنا.
هذه هي الشعارات التي اتخذها كثير من الدول، وهذا تعبير واضح عن إسفاف الفكر، وعن ثقافة العنف، وسياسة السيطرة التي يعتنقها البشر.
قد أفهم أنّ النسر يمثّل “التحليق” و”السموّ”، ولكنّ ما يعتبره معظم الدول التي اتخذته شعارًا لها هو جانب “الشجاعة”، التي هي برأيي مجرّد وحشيّة يستخدمها هذا الطائر من أجل بقاءه. لماذا لم يستخدموا “الحمامة” مثلًا بالمقدار نفسه؟
الطائر يعمل وفق غريزة البقاء، وليس له دونها حول ولا قوّة. أمّا الإنسان، فمن المفروض أنّ لديه العقل المفكّر الذي يمكّنه من ترويض غرائزه، وملاحظة أنّ بقاءه والحفاظ على كوكبنا يحتاج للفكر والعلم، لا الحروب. ولكن حتّى هيئة الأمم المتحدّة هي مرآة للدول المنتصرة التي وصلت إلى السيطرة على هذه المنظّمة الدوليّة بعد حروب وحشيّة دامية وصلت حدّ استخدام القنابل النوويّة، وإبادة مجتمعات بكاملها. طبعًا تستخدم الأمم المتّحدة “حمامة السلام” شعارًا لها، فهل هذا ما يمثّلها حقيقة؟
غالبًا ما تكون الشعارات مثل “الشجاعة” و”القوّة” وسيلة عقائديّة لتعبئة الجماهير واستخدامها عبيداً لأسيادٍ متعطشين للدماء، ونهب خيرات المجتمعات المقهورة.
نحن في القرن الواحد والعشرين. ربّما لن تتغيّر حال العالم من حيث المبدأ، ولكن أليس حريًّا بالأفراد، خصوصًا من يعتبر نفسه مثقّفًا، أن يأخذ مبادرة تخليص ثقافته من رواسب التلوّث التي تركها فيه الجانب السفيه من “التراث”؟ أليس حرّيًا بكلّ فرد أن يعمل دائمًا على النقد الذاتيّ وإعادة النظر في نمط تفكيره، وتطوير مساره إن لزم الأمر؟
اعتماد شعار معيّن ليس بأمرٍ ثانويّ، كما يخيّل للبعض الذي قد يرى في كلامي تركيزًا على أمر لا يحتاج هذه “الجعجعة”. أنا أرى أنّ كلّ شيء يحتاج إلى صيانة. الفرد هو الخليّة الأساس التي تبنى عليها العائلة، فالمجتمع، فالدولة، فالأمم المتحدة.
البناء يحتاج إلى أساس متين. وأهمّ متانة تحتاجها البشريّة هي رجاحة العقل البشريّ.وأهم عامل في صيانة العقل (الفكر) الفرديّ هو إعماله موضوعيّاً، وأهمّ ما في الموضوعيّة، في هذا السياق، هو عدم قبول الموروث دون مساءلة.
رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=15831