مجلة عرب أسترالياـ بقلم د. صائب عبد الحميد
أولا: الغرباوي الإنسان والصديق
هكذا استطيع أن أصفه باختصار، وصفا مكثفا.. (المقاتل بالكلمة). عرفت الغرباوي مقاتلا على جبهتين في الآن نفسه، جبهة المعاناة الشخصية مع الأمراض التي رافقته في عنفوان شبابه، وجبهة الثقافة التقليدية التي استعبدت مجتمعه، وعلى كلا الجبهتين كانت الكلمة سلاحه.
ما ألمّ به في صحته كان كفيلا بأن يهوي بالعملاق ويطوي قامته. لكنه لم يخضع يوما ولم يستسلم، ففي ذروة المعاناة كان عقله يكافح ويبحث عن سبل تنبيه عامة الناس من غفوتهم على سطوة التعاليم المتخلفة، وهيمنة المعارف المستمدة من الأساطير، ومن التاريخ المتخيّل. مترويا، هادئا، مطمئنا، كما تملي سجيته، وكما يتجلى حياؤه ونقاؤه. بعيدا عن الصدامات والمقارعات المباشرة، موقنا بأن الناس، شيئا فشيئا، سوف تستسيغ الهواء النقي، وتنفض غبار الغطاء السميك الذي ألقاه على كواهلها أصحاب النهج التقليدي ودعاة التجهيل وتسطيح الوعي.
نائيا بنفسه عن الأضواء البراقة، والألقاب المخادعة، ليشق طريقه بهدوء وروية، حتى يصبح مضيئا بذاته، بعطائه الذي جمع بين سلاسة الأسلوب وبين سعة الآفاق وعمق الأفكار.
ابتدأت علاقتي المعرفية بالغرباوي حين دعاني الى مكتب مجلة التوحيد، قبل ان يتولى هو رئاسة تحريرها، ثم تعمقت معرفتنا ببعضنا حين ترأس تحرير المجلة، ونشر لي بحثا جريئا يتحدى المعارف السائدة في فهم الطقوس والشعائر الدينية، وتحمل معي سهما وافرا من اللوم على نشره. تلك المعركة كانت سببا جديرا في بناء صداقة واعية بيننا.
لكن ثمة معركة ثانية تشاركنا فيها، واختار الغرباوي الانسحاب من فضائها المباشر. ذاك حين أسسنا (رابطة الكتّاب والمثقفين العراقيين في المهجر)، في سنة 1999، وكان الغرباوي واحدا من خمسة عشر تم انتخابهم لعضوية الأمانة العامة للرابطة، وحيث تم انتخابي من قِبل أعضاء الامانة العامة أمينا عاما للرابطة في دورتها الاولى، آثر الغرباوي الانسحاب من الأمانة العامة مع الإبقاء على عضويته في الرابطة، تحت ضغط ظرف خاص به. لكن هذا الحدث لم يخلق شرخا في علاقتنا بعد معرفتنا بطبيعة الغرباوي وعذره المقبول. لاسيما وأننا كنا نعيش فضاء معرفيا مشتركا، نلتقي في معظم مفاصله. وحين أذكر هذا الفضاء لا يفوتني ذكر بعض الأصدقاء الآخرين من رواده، والذين كانت لي وللغرباوي صداقة مشتركة معهم، في مقدمتهم عبد الجبار الرفاعي، الذي ناطح اسمه السحاب لاحقا، وهو الأقرب الى الغرباوي، كونهما يشتركان ايضا بمسقط الرأس (الناصرية). وطاهر الحمود/ أبو رضوان، وطاهر آل عكلة/ أبو آلاء، مع أنهما كانا أقل حضورا ورغبة في السجال المعرفي، مستمتعان بتوفقهما اللغوي والأدبي، مع أن أبو آلاء كان يمضغ الفلسفة الاسلامية كما يمضغ العلك الطري، وينسجها شعرا وأهازيج لا أدري لم لا يبادر بنشرها، مع مزايا أخرى لا يضاهيه فيها أحد. في مثل هذا الفضاء تكون الصداقة أعمق من أن يخدشها حدث عابر، فالمشتركات كثيرة، والتحديات واحدة. كنا ندرك ببصيرة تامة أن الثقافة الدينية الشعبية والتي يعززها الخطاب الديني السائد، هي ثقافة تراكمية تأسست على تاريخ متخيّل، صار مصدرا لعديد المعتقدات الوليدة، والمقدسات المصطنعة، التي غلّفت المعتقدات والمقدسات الحقيقية وتفوقت عليها في ميادين الاهتمام والاشتغال الشعبي والديني بشكل عام. وكنا في عزلتنا شبه التامة عن هذا الوسط، ندرك أن الكلمة هي سبيلنا الوحيد في السعي الى نشر الوعي وإيقاظ العقول. وتنوعت اهتماماتنا بعد ذلك، فاشتغل الدكتور عبد الجبار الرفاعي على التنوير الديني وفق مناهج البحث والهرمنيوطيقا المعاصرة، وانصرفت أنا من التاريخ الى الفكر التاريخي وفلسفة التاريخ لما لازمني من شعور بعدم الجدوى في محاولات إصلاح وتجديد الخطاب والفكر الدينيين، حيث تنفجر العصبيات الدينية والطائفية بين الحين والآخر، إما أمام ما تراه تحديا، وإما أمام تحديات مفتلعة تقوم هي باختلاقها والنفخ فيها لتصبح قضايا تشغل الرأي العام، عاميا وثقافيا، ووفق أساليبها المعتادة في صناعة الضجيج، وتغليف مواقفها بالفتاوى الجزمية.
ويقفز الزمان، ويقفز معه المكان، فيغترب الغرباوي موغلا في غابات استراليا، لأشاهد بعد حين (صحيفة المثقف العراقي) التي أسسها في سدني، ويشرف عليها ماجد الغرباوي، وهو يعيد نشر مقال قديم لي تحت عنوان (الوحدة الإسلامية والمسار الأحدب). ما حفزني لكتابة مقال أنقد فيه رؤيتي السابقة نقدا قلبها رأسا على عقب، فنال ذاك إعجاب ماجد الغرباوي فكتب مبرزا إعجابه بأن ينقد الكاتب رؤيته السابقة بناء على تطوره الفكري وقناعاته المتجددة.
ويتجدد التواصل بيننا، فأستقبل كتابا مهما من مؤلفاته، لأتولى نشره والتقديم المتواضع له، ضمن إصدارات (معهد الأبحاث والتنمية الحضارية). ثم كتابا آخر من مؤلفاته ضمن إصدارات (المركز العلمي العراقي)، لتمنحني تلك المقالة وهاذان الكتابان أجمل فرص التلاقي الحميم بعد افتراق الزمان والمكان.
لكن ثمة لقاء حقيقي حصل بعد ذلك، في زيارة الغرباوي لبغداد، على وليمة عشاء في منزل الصديق طاهر الحمود/ أبو رضوان، الذي أصبح وكيلا لوزارة الثقافة لنحو عقد من السنين.
ثانيا: الغرباوي الباحث والمفكر
تعمق الغرباوي في دراسة التراث الاسلامي، لا سيما في بعدي العقائد والأحكام الفقهية، واشتغل مفككا وناقدا، متنوع المباحث، غزير الانتاج.
كتب في الفكر السياسي عدة مؤلفات، منها: (الحركات الإسلامية .. قراءة نقدية في تجليات الوعي)، و(الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني)، و (تحديات العنف).
كتب في الحركات الإسلامية المعاصرة، وقد عايشها، واطلع على أدبياتها، وعاصر تجاربها في ممارسة السلطة. أدرك الضعف في منهاجها العام، والتناقض بين مبادئها المعلنة، وبين أساليبها العملية، بين المدّعى وبين الفعل والممارسة.
وكتب في التراث والفكر الديني كتبا منوعة، حتى نهض بمشروع كبير، أصدر منه حتى الآن / آذار 2024، تسعة مؤلفات كبيرة، اختار لمشروعه هذا عنوانا لافتا: (متاهات الحقيقة). وكأنه يرى ان (الحقيقة) دائما مزعومة، مدّعاة، كل يدعيها لنفسه، ما ينتج في النهاية متاهات لا حصر لها. هذه هي قراءتي أنا لهذا العنوان.
في هذا المشروع، وتحت هذا العنوان الرئيسي، أبحر الغرباوي في متاهات عدة، متاهات العقيدة، ومتاهات الفقه، ومتاهات التراث، ومن الصعب ملاحقة كل ذلك في ورقة واحدة او أوراق معدودة، لكني أستأذن الصديق المفكر الغرباوي في اقتناص قضايا متفرقة مثلت نقاطا محورية في فكره.
فمع الأخلاق مثلا، يأخذ الغرباوي بمذهب كانط القائل بأصالة الأخلاق، فالأخلاق ليست معطى دينيا صرفا، كما انها ليست معطى اجتماعيا يتميز بالنسبية، إنما هي (قيم أصيلة، بها تصدق إنسانية الإنسان). لكن الغرباوي يستشهد على هذا البعد أحيانا بنصوص دينية، كقول الإمام علي لولده الحسن: «أحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلم كما لا تحب أن تُظلم…». مع ان هذا النص هو نص تربوي، إرشادي، وإن جاء بصيغة الأمر والنهي «أحبب، واكره، ولا تَظلم». فهو كسائر النصوص الإرشادية الدينية؛ القرآنية والنبوية، لا يثبت أصالة الأخلاق بقدر ما يؤكد دور الدين في تعزيزها والحث عليها. وليس فيه دلالة على ما أراده الغرباوي مسبقا من أن الأخلاق هي من نتاج العقل العملي. لذا يعود الغرباوي ليؤكد مبدأه، مجادلا في (أن الإنسان يبادر لعمل الخير بدافع ذاتي مجرد، محض، فيأتي بالفعل لذاته لا لغيره). وقد يجد الغرباوي ردا في أن هذا النص العَلَوي ليس نصا دينيا محضا، بل هو نص عقلي مصدره العقل وحده. إذن هو يستعير عليا بصفته الحكمية لا بصفته الدينية. وهذا توجيه مقبول بلا شك. لأن الغرباوي يكمل فيقول: (ان اعتبار الأخلاق قائمة على الشريعة هو اتجاه خطير جدا، يمكن من خلاله توظيف الدين لتعزيز مصالح سياسية أو طائفية، قد تطيح حتى بقيم الدين ذاته).
وبعد معالجة مستوفية لتأثير المقدّس على الأخلاق، يخلص الى (أن المقدس يرتهن صدقية موضوع الفعل الأخلاقي، دون قيمه وأحكامه. الأولى (القيم) قيم إنسانية بعيدا عن المقدسات والأديان. وأحكامها صادرة وفق معايير العقل العملي. وبهذا نحدد سلطة المقدس، ونحول دون استغلاله وتكريسه لمصالح سياسية وطائفية، طالما أضرت بمصداقية المسلمين في خضم صراع مرير على السلطة، وحاجتهم لتوظيف الرموز المقدسة). ليؤكد (أن القداسة رهان خاسر ما لم تكن صفة ذاتية للمقدس).
ومع الفقه والفقهاء: يتوقف الغرباوي عند مفاصل غاية في الدقة والاهمية، لعل في مقدمتها قضية التحيزات المسبقة للفقيه، والتي غالبا ما يكون مصدرها عقديا، فالفقيه ليس متجردا من التحيز العقدي، وقد كتبت سابقا: الفقهاء تمذهبوا قبل أن يتفقهوا، والمفسرون تمذهبوا قبل ان يفسروا القرآن، وعلماء الكلام تمذهبوا قبل أن يتكلموا.. وهذه حقيقة يغفلها أكثرنا وهو يقرأ للفقهاء والمفسرين وعلماء الكلام والمؤرخين وأصحاب الحديث، وغيرهم. وهكذا رأى الغرباوي: (أن كل فقيه ينحاز لا شعوريا لقبلياته وقناعاته العقدية، ويدافع عن نسق يقينياته وأحكامه المسبقة كمبنى عقدي ينعكس على فهم النص، فينحاز لنتائجه لا شعوريا، بل ويوجه النص بذات الاتجاه). وعندي أنه ينحاز شعوريا، وليس لا شعوريا، وهذا يتفق مع قول الغرباوي: (بل يوجه النص بذات الاتجاه). وهذه مسألة دقيقة حين ندركها نفهم الكثير من أسباب اختلاف الفقهاء. وبالتالي يقول الغرباوي: (لا يمكن تبرئة الفقيه وإلقاء اللوم على الأدلة الشرعية فقط، مادام الفقيه يمارس عملية استنباط الأحكام الشرعية وفقا لمبانيه، ويستبطن نهجا عقديا يوجه وعيه).
وأيضا يتابع الغرباوي سؤال خضوع الفقيه لسلطة النص ومحدداته، فالفقيه او المفسر او المفكر، لا يفكر بالتحرر من أسر النص، لأن قداسة النص هي التي تتولى هندسة قبلياته وبنيته الفكرية والمعرفية، وتحدد هامش الحرية وفضاء التفكير داخلها. وهي التي تسمح أو لا تسمح له بتجاوز النص. فالحرية لا تعني بالنسبة له التحرر من قيود النص، بل هي عنده حركة مغلقة داخل فضاء النص. فالاجتهاد لديه هو اجتهاد في دائرة النص ومدياته، فهي حرية محدودة، غير منتجة، تطاردها إكراهات النص. وبخلاف ذلك تأتي القراءة المقاصدية التي تحاول تقديم فهم جديد للدين، والبحث عن مقاصد تشريعاته، دون التفريط بقداسة النص.
وهكذا يسير في ما أسماه (متاهات الحقيقة) ليغطي مساحات واسعة في التعاطي مع التراث الاسلامي في معظم ميادينه.
* لكن ثمة سؤال منهجي يمكن أن يثار:
لماذا جعل الغرباوي كتابه عن المرأة: (المرأة وآفاق النسوية) ضمن سلسلة (متاهات الحقيقة)، ولم يجعله كتابا مفردا، مستقلا في موضوعه؟
لعله رأى أن التشريع الفقهي يوقعنا في متاهة حقيقية في فهم الفهم الفقهي للمرأة، فهل هي إنسان قائم بذاته، له مقوماته الإنسانية الكاملة، وحقوقه وامتيازاته وواجباته كإنسان فرد؟ أم هي كيان تابع ومملوك للرجل؟ فمازال الفقه مترددا في هذه المفارقة، يركب المتناقضات، ويروغ عنها، بين مبادئ قرآنية ونبوية كلية تمنح المرأة مكانتها، وبين أحكام تغتصب شيئا من إنسانيتها لتكون خاضعة لسلطان الرجل.
وأخيرا، وهو يختصر توصيف المعاناة في نضاله الفكري، في مقاربته لتوصيف الوعي الجمعي الديني، يرى الغرباوي رأيا سديدا: (إن مشكلتنا اليوم ليست في عجز الأدلة عن بيان الحقائق، بل مشكلتنا الأساس مع رثاثة الوعي، والجمود، والمصالح الأيديولوجية، ووجود حواضن للغلو تشكل درعا يصعب زعزعته بسهولة. وهي معاناة حقيقية لمن يروم ترشيد الوعي، وفضح تزوير الحقائق لغايات طائفية وسياسية).
لعلي بهذه الكلمات المقتضبة أتيت على بعض أهم المحاور التي يدور حولها فكر الغرباوي، منذ بداياته، وحتى أواخر مؤلفاته في سلسلة (متاهات الحقيقة). عساني كنت موفقا في عرضها، لتكون هدية متواضعة من زميل وصديق يكن له المحبة ويرجو له التوفيق.