بقلم هاني الترك OAM وسميره سلامه ـ سدني
مجلة عرب أستراليا ـ سيدني ـ منذ حوالي خمسة عشر عاماً كتبت مقالتي هذه واعيد نشرها بسبب الاعتداء الاسرائيلي المتكرر على غزه والعالم العربي المتخبط :
وطأت قدما اللاجئ الفلسطيني خليل ارض السلام استراليا منذ ثلاث سنوات مطروداً من بلده فلسطين كلاجئ سياسي.. وتراه منغلقاً على نفسه سائراً تائه العينين شارد الفكر نصف نائم ونصف ميت.. يحمل في قلبه طعنات غدر الانسان ويبدو على وجهه تعب الزمان.. منذ الوهلة الاولى شعر على هذه الارض بالأمان.. وحصل على مأوى وعمل في المصانع وأمّن بذلك قوته اليومي وكأنه وُلد من جديد.. الا انه لم يكن سعيداً البتّة.. بل كان مهموماً مثخناً بالجراح .. وبالأحرى نفسه مريضة سقيمة ولكن يدري ما الذي يعاني منه.
امام هذه الحالة المؤلمة قرّر خليل فوراً الذهاب الى الطبيب النفسي لعلّه يساعده ليخرج من الدوّامة النفسية السوداء التي تحجب الضوء امام صفاء نفسه.. وادرك الطبيب انّ شخصيتين تتصارعا داخل خليل.. وقد نمت هاتان الشخصيتان غير المتناسقتين في اعماق نفسه بسبب الحروب التي ابتلت فيها بلاده هناك.. حروب مجنونة لا يعرف فيها احد مَن يحارب مَن .. ومَن ينتمي الى مَن .. فتارة صديقك معك واخرى عليك .. فألارض اغتصبها الاعداء وطعن شعبها الاصدقاء.. الطائفيون خانوا والقوميون استسلموا والعرب استقالوا وغسّلوا آياديهم وبات خليل لا يثق بأحد ولا حتى في نفسه المنكوبة.
لقد وصلت به الشكوك الى حد عدم الثقة بعدالة الله.. ان هول العذاب الذي مرّ به خليل لا يُحتمل.. فقد ضغط على اعصابه وحوّله الى انسان مرتجف يتجنّب معاشرة الناس والاحتكاك بهم.. تلك كانت الشخصية الاولى المسيطرة على داخل خليل على الشخصية الثانية.. التي هي الانسان الصغير المؤمن بالمحبة والسلام والذي يتمسّك بدعوات الحق والدين ويتطلع الى السعادة وتلفه عاطفة دافئة.. الا ان هذه الشخصية الثانية مقهورة في حاجة الى مدّ يد المساعدة لديها حتى تنضج وتتمرّد على جلاّدها.. وصوتها هو صوت الحق غير المسموع والمكبوت في الاعماق.
كان الطبيب يعرف علاج خليل من خلال الجلسات المعتادة جاهداً ان يقوده الى الجلسة الكبرى التي يُفرغ فيه عواطفه المكبوتة ويُطلق فيها دموعه المقموعة منذ سنوات.. وحدث ما حدث في الجلسة الاخيرة.. قال خليل للطبيب«لقد حلمت ليلة امس حلماً بشعاً افزعني حتى الموت .. اضطربت نفسي بين اليقظة والنوم.. اني اتساءل مَن أنا؟ ماذا حدث لي؟ ما الذي ضاع مني وابحث عنه؟ انه نفسي وانتمائي الى شعبي وارضي.»
هنا ادرك الطبيب ان تساؤل خليل هو اخطر حقيقة في حياته وشجعه على المضي قدماً في الحديث .. لم يتمالك نفسه وسرت في جسده رعشة شديدة وارتعبت الصور امام مخيلته واخذت افكاره المجنونة تتدفّق الى الخارج .. واخذ يبكي بكاءً مرّاً متذكراً ماضي حياته.. فانتعشت ذاكرته وقال :«اني ارى وجه الموت امامي واعمال القسوة والنهب والسلب التي ترتعب من هولها نفوس البشرية.. اتذكر الذبح والقتل واشلاء الجثث المتناثرة ودماء المقهورين السائلة.. انها الجريمة الشنعاء ضد البشرية.. حدث هذا وكنت صغيراً ودخلت المعتقل شاباً وعشت حياتي القاسية معتقلاً.. وارادني الجلادون ان ابقى مكبلاً.. وكنت في كل الاوقات انتقل من عذاب الى عذاب.. وحياتي دائماً على مفترق طرق.. كنت مع اهلي مسلوباً محاصراً ودوي المدافع يتعقبني اينما ذهبت.. ورائحة الدم المسفوك حولي من كل صوب..
انا الفلسطيني المتعب.. احترت مَن هو جلاّدي.. هل هو عدوي ام حليفي ام صديقي.. وبمَن استنجد .. هل استغيث بالله .. بالعربي.. بالدنيا.. فإني اشعر ان الجميع حولي تكاتفوا ضدي.. انها الخيانة الكبرى ضد شعبي.. احتملت النار في قلبي وشاهدت مناظر سفك دماء ابناء شعبي واهلي .. شعبي الذي يحارب دفاعاً عن وطنه وعرضه وكرامته وشرف العروبة.. ولكن لا.. لا استطيع ان انسى الدم المهدور حولي والأيادي المجرمة المخضبة بالجريمة.. ان الحزن يزلزل اعماقي.. فلن انسى عشرات الاحياء الابرياء تزهق ارواحهم كل يوم .. لا تقل ان الدنيا تحمل على عاتقها ظلم الناس .. لا تقلها.. ان الانسان هو الخالق الاول لكل الدنيا.
انطلق الصوت الحقيقي من اعماق خليل الذي كان مدفوناً في الباطن وتكلم بلغة الواثق صاحب المبدأ والانسان اولاً .. فأخذ يبكي وترك عيادة الطبيب ولم يعد.
رأي الزميلة سميرة سلامه:
الواضح انها قصة معاناة حقيقية لهذا الشاب الفلسطيني .. فقد علّمتني الحياة وقسوتها أنّي انا الفلسطيني سأظل فلسطينياً .. حتى ولو ذهبت الى ما وراء الشمس.. وأود ان اصرخ دائماً على الملأ.. انقذوا الفلسطيني من انياب الغدر والطغيان.. فإلى متى سيظل الفلسطينيون يعانون من تجاوز الضمير العربي والعالمي .. سأناطح السحاب في عنادي مكافحاً من اجل ارضي حتى يعود الى بلدي الحب والسلام وتتحقق نبوءة الشهداء .
ان تعلقي بفلسطينيتي هو الشيء الوحيد الذي لا هوادة فيه لأنه يمثل شخصيتي الحقيقية .. مثل شخصية خليل.. ولو حسبوا فلسطينيتي جنوناً فأنا سعيدة بها ومتمسكة بها حتى الموت.. هذا هو خياري. لوكان حبي لفلسطين جريمة فليشهد التاريخ أنّي مجرمة.
وكما قال رئيس تحرير التلغراف انطوان القزي في مقال «تقاسيم التوتر» «في فلسطين اسمعوا هذه الفزور: قطر تدعم «حماس» بالمال من وراء ظهر السلطة» ومصر عدوة قطر اللدودة تتوسط لـ «حماس» مع اسرائيل.. وابو عباس يتفرّج من بعيد على دولارات الشيخ تميم ووساطات السيسي «وما في اليد حيلة».
وكلما ألّمت نكسة بأبناء شعبي انظر بعينيّ عبر البحار الى الشرق الاوسط البعيد .. وانطق بكلماتي الشاعر بيرم التونسي: «يا شرق فيك جو منوّر والفكر ظلام وفيك حرارة ا خسارة وبرود الأجسام
فيك سبع مئة مليون زلمه لكن اغنام
لا بالمسيح عرفوا مقامهم ولا بالاسلام.
رابط مختصر … https://arabsaustralia.com/?p=1014
الكاتب الأستاذ هاني الترك OAM االكاتبة سميرة سلامه