مجلة عرب أستراليا سيدني-آخر يهود العراق… وقصة “أل” التعريف
بقلم خلدون زين الدين”النهار العربي”
يومَ كشف “ويكيليكس” أسماء آخر سبعة يهود عراقيين في بغداد، سرت سريعاً المخاوف على سلامتهم. كان هذا عام 2011. صحيفة The Times كتبت حينها، إن حياة السبعة باتت معرضة للخطر في أي لحظة. برنامج Today على قناة BBC، أصدر كذلك تحذيراً عن مخاطر تهدد اليهود السبعة. الكاهن الأنغليكاني لمدينة بغداد أندرو وايت قال وقتذاك إن “الكنيسة فعلت ما بوسعها لحمايتهم، وإن أحدهم كان يحاول المغادرة بينما رفض الآخرون لكبرهم في السن”.
اليوم أصبح عددهم ثلاثة، بحسب المعطيات. توفي منهم قبل أيام قليلة الدكتور ظافر فؤاد ألياهو، آخر أطباء اليهود العراقيين، ما أعاد طرح الكثير من الأسئلة عن إرث طائفة ناهز عدد أفرادها الـ 120 ألف نسمة، قبل هجرتهم وترحيلهم القسري إلى إسرائيل في أربعينات وخمسينات القرن الماضي.
لطالما شكل اليهود قبل الهجرة أو التهجير بعد تأسيس إسرائيل، فئة مهمة من الشعب العراقي من حيث العدد، ومساهمتهم في بناء العراق. كان بينهم سياسيون وفنانون وأطباء ومثقفون، تعايشوا مع العراقيين من دون أي مشكلات تُذكر. في القرن السابع عشر شكل اليهود 40 في المئة من سكان مدينة بغداد… اليوم هم ثلاثة! فهل العدد القليل هو السبب وراء تجاهل دستور عام 2005 لهم؟ الجواب برأي ضياء الشكرجي، مقرر اللجنة الأولى المعنية بباب المبادئ الأساسية لدستور 2005، هو “نعم”، لكنه تجاهل كذلك الزردشتيين والبهائيين مثلاً.
الشكرجي، وهو كذلك مؤسس التجمع العلماني العراقي، تحدث الى “النهار العربي” قائلاً: “لم يبقَ من اليهود العراقيين سوى عائلة واحدة، بضعة أنفار فقط، ولكن اليهود كان لهم وجود وتاريخ في العراق. وفي الدولة الحديثة عندما أسست الدولة العراقية للمرة الأولى كان لهم دور فاعل، وبقي لهم دور ثقافي وسياسي واجتماعي …”.
الرواية الحقيقة
عوامل كثيرة أثرت سلباً في التواجد اليهودي في العراق. تنافس القوى السياسية الطاغية وصراع الإيديولوجيات، أرسيا تغييرات تاريخية. سقوط السلطنة العثمانية، الحكم الاستعماري البريطاني، وظهور الحركات القومية اليهودية والعربية، كلها عناصر ولّدت ضغوطاً سياسية، داخلية وخارجية، على اليهود العراقيين. تجاذُبُ هؤلاء بين اتجاهات مختلفة أدى إلى إلحاق الضرر بهم.
بين 1950 – 1951، غادر نحو 120 ألف يهودي العراق، معظمهم إلى إسرائيل، في عملية سميت “تسقيط الجنسية”. تعود التسمية هذه إلى إصدار الحكومة العراقية قانوناً يُسقط الجنسية العراقية عن كل يهودي غادر أو يغادر العراق بصورة شرعية أو غير شرعية.
قصة أل التعريف
يقول ضياء الشكرجي، الى “النهار العربي” إن “المادة الأولى من دستور العام 2005 في العراق، تعتبر لغماً. هي محاولة لأسلمة الدستور وإضفاء قدر الإمكان صبغة شيعية. يقول الدستور إنه يضمن كل الحقوق الدينية لجميع الأفراد، فيذكر المسيحيين والأيزيديين والصابئة، ولم يذكر الزردشتيين، والبهائيين ولا اليهود…”.
“الإسلام اعتبر مصدر أساس للتشريع” عبارة كان فعلاً هناك إصرار ومحاولات حثيثة لجعلها على النحو التالي: “الإسلام هو المصدر الأساس للتشريع”، أي بإضافة أل التعريف، وهذا ما كان يعارضه الشكرجي من موقعه كمقرر اللجنة الأولى المعنية بباب المبادئ الأساسية لدستور 2005”. “صحيح لم أكن بعد قد حسمت خياري العلماني”، يقول لنا، ويضيف لكن “كنت أعتبر نفسي ديموقراطياً مسلماً. اليوم أقول حتى عبارة الإسلام، دين الدولة الرسمي، لا ينبغي أن يُكتب في دستور دولة.
الدولة ليس لها دين، الدولة ليست ملحدة ولا مؤمنة بل الدولة حاضنة لجميع المواطنين بغض النظر عن دياناتهم وجذورهم وقومياتهم ومذاهبهم وبالأخص في ما إذا كان يتعلق بالطائفتين الرئيستين، التشيّع والتسنّن. ونحن ندعو لاعتماد مبدأ المواطنة حصراً…”.
وفي ما خص اليهود العراقيين، يتابع الشكرجي، هناك نوع من الإشارة الى أن أي دعوة للاعتراف بالمواطنين اليهود وإرجاع ممتلكاتهم هي بمثابة دعوة صهيونية وهذا كلام فارغ برأيه، “فاليهود العراقيون يحبون العراق ويتمسكون بالتقاليد العراقية وكانوا مواطنين صالحين. نحن في عصر يجب أن ننظر إلى الإنسان كإنسان بغض النظر عن أي شيء آخر، ولا حل بالتالي سوى بدولة علمانية”، يقول ضياء الشكرجي.
حركتان متصارعتان
…بعد مضي سبعة عقود، لم تحسم الرواية الحقيقية للنزوح الكبير ليهود العراق، حتى بين المهجّرين أنفسهم. “السردية المتعارف عليها لهذا الخروج الكبير، المعروف بين اليهود العراقيين بـ” سنة التسقيط”، تُصوّر هذه الهجرة على أنها نهاية السبي البابلي وتحقّق الوعد الإلهي بالعودة الى أرض صهيون…”.
الكاتب الألماني جوزف كرواتورو، وفي مقال لموقع “قنطرة” الألماني، قال إن “نشوء إسرائيل عام 1948، والهجرة الجماعية الضخمة التي تلتها للفلسطينيين إلى البلدان العربية المجاورة، أدّيا إلى وضع اليهود من السكان الأصليين لبلدان الشرق الأوسط في موقع ضعيف جداً. كان على اليهود العرب التعهد بالولاء لهوية باتت مرتبطة بحركتين متصارعتين، “اليهود” و”العرب”، وكلاهما له تعريفه الجديد وفق رواية تاريخية للانتساب الإثنو – قومي”.
يتابع كرواتورو كاتباً أنه “بعد 1948، باتت الأمور أكثر حدة مع تعرض الفلسطينيين للنكبة، واستفاقة اليهود العرب على نظام عالمي جديد لا مكان فيه بعد اليوم لمن ينتمون إلى اليهودية والعروبة في وقت واحد…”.
عداء وإجراءات عنصرية
في ظل هذا المحيط المتحوّل بسرعة كبيرة “كان على اليهود في العراق، ومصر وسوريا وغيرها أن يدافعوا عن يهوديتهم التي باتت، للمرة الأولى في تاريخهم، لا ترتبط بديانتهم فحسب، وإنما بقومية مستعمِرة. هذه الحوادث البالغة الأهمية – بحسب الكاتب الألماني – أدت إلى حالة عامة من العداء والإجراءات العنصرية ضد اليهود من السكان الأصليين في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ضغط الحركة الصهيونية لتهجير الجاليات اليهودية وإنهاء الـ”الغولا” (الشتات) من جهة، وتنامي الشعور القومي العربي الذي يساوي بين اليهودية والصهيونية من جهة أخرى، أديا إلى الافتراق النهائي لليهود العرب عن بلدانهم. وعلى الرغم من أن قسماً كبيراً من اليهود العراقيين لم يكن منخرطاً في أي نشاط سياسي – أكان قومياً أو صهيونياً أو شيوعياً – إلا أنهم لا إرادياً أُقحموا، في شكل خطير، في الإيديولوجيات القومية المتنازعة …”.
امتنعوا عن المغادرة
على الرغم من أن غالبية اليهود العراقيين نزحوا غداة قرار تقسيم فلسطين وإنشاء إسرائيل، إلا أن أقلية من أفراد الطائفة امتنعت عن المغادرة عبر “التسقيط”. أسباب هؤلاء للبقاء متنوعة، من بينها أنهم اعتبروا أنفسهم عراقيين أولاً وأساساً، أو لأنهم اعتقدوا أن هذه عاصفة ستمر، أو لأنهم، ببساطة، لم يشاؤوا أن ينسلخوا عن حيواتهم.
مع انقلاب عام 1968، كان لسيطرة الديكتاتورية “البعثية” على العراق تأثير مدمّر على العراقيين بمختلف طوائفهم، لكن القمع استفحل أكثر في حالة اليهود العراقيين، فلاحقتهم الاتهامات دائماً بالخيانة. القمع الذي مارسه “البعثيون” بين 1969 و1971 أدى الى مغادرة من بقي من اليهود العراقيين.
مع مطلع السبعينات من القرن الماضي، استمرت أرقام أبناء الطائفة اليهودية بالتناقص. تبعثر الوجود اليهودي الألفي في بلاد ما بين النهرين، وتوزع بين إسرائيل في شكل كبير، وبين المملكة المتحدة وأميركا الشمالية. مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، كان عدد اليهود العراقيين المتبقين لا يتعدى العشرات مع سقوط نظام صدام حسين.
يقول الكاتب الألماني جوزف كرواتورو إنه “على الرغم من أن أفرادها من السكان الأصليين لهذه البلاد، ورغم رسوخ بناها الاجتماعية، كانت الطائفة اليهودية تحت ضغط مرعب أدى إلى تداعيها”.
رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=15156