مجلة عرب أستراليا سيدني- زيلينسكي وغالبية الأوكرانيين يتحدثون الروسية… أي علاقة للغة بالهوية الوطنية؟
بقلم الكاتب خلدون زين الدين- النهار العربي
“الأوكرانيون في الجزء الشرقي من البلاد هم من أصل روسي، يعيشون تحت الاحتلال الأوكراني”، تبرير ساقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تزامناً مع غزوه أوكرانيا. بنظر سيد الكرملين هؤلاء الأشخاص هم بلا شك روس، “يريدون الحفاظ على هويتهم ولغتهم وثقافتهم، ويتلقون إشارة إلى أنهم غير مرغوب بهم”!.
يطرح كلام الرئيس الروسي سؤالاً مباشراً عن المتحدثين بالروسية وهم أوكرانيون؛ هل اللغة تُعبّر عن هويتهم الوطنية؟ ما خلفية ثقة بوتين بأنهم سيرحبون بقواته متى جاءت لتحريرهم؟ وهل من استثناءات هنا؟
زيلينسكي… وتيموشنكو
قبل الحديث عن دراسات على صلة وثيقة بالأوكرانيين المتحدثين بالروسية وهويتهم القومية، إشارةٌ سريعة إلى شخصيتين في موقع القرار يتحدثان الروسية أولاً قبل الأوكرانية.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أحد الشخصيتين تلك. هو يتحدث الروسية بطلاقة. مثله رئيسة الوزراء السابقة، يوليا تيموشينكو، الزعيمة البارزة للثورة البرتقالية في أوكرانيا. تلقى الإثنان، في المناسبة، دعماً انتخابياً كبيراً في الأجزاء الناطقة بالأوكرانية من البلاد.
دراسات
“الغالبية العظمى منهم يعتبرون هويتهم العرقية أوكرانية”. دراسة موسّعة تعود للعام 2013 بيّنت أن اللغة غير مرتبطة بالهوية العرقية بالنسبة إلى الأوكرانيين.
أكثر من 90 في المئة من سكان مناطق غرب ووسط أوكرانيا أكدوا هويتهم الأوكرانية. في الأجزاء الغالبِ عليها الطابعُ الروسي، مثل جنوب وشرق أوكرانيا وحتى دونباس، قدّم ما يزيد على الـ 70 في المئة أنفسهم على أنهم أوكرانيون، وفق الدراسة.
ويومَ طلب عالم النفس السياسي الأوكراني فاديم فاسوتينسكي من أكثر من 1300 من السكان الناطقين بالروسية في كييف، لوهانسك، أوديسا وسيمفيروبول، الاختيار بين احتمالات عدة لوصف أنفسهم، اختار 37 في المئة مصطلح “مواطن أوكراني”، بينما اختار 34 في المئة “مواطن أوكراني ناطق بالروسية”، واعتبر 18 في المئة فقط أن “الروسية” هي هويتهم الرئيسة.
الالتزام القوي تجاه أوكرانيا بدا جلياً أيضاً في دراسة لمجموعتين لغويتين من المهاجرين الأوكرانيين في بولندا. الباحثون وجدوا أنه على الرغم من أن الأشخاص ممن لغتهم الأم هي الأوكرانية عبروا عن هوية أوكرانية أقوى من المتحدثين بالروسية. ومن قال منهم إن لغتهم الأم هي الروسية عبّروا كذلك عن مشاعر إيجابية للغاية لكونهم أوكرانيين.
هل هذا غريب؟
عدم ارتباط اللغة بالهوية الوطنية ليس غريباً. سويسرا مثال، كندا أيضاً، والعديد من البلدان المتحدثة بلغتين أو أكثر… ولا تأثير لذلك على هويتها. إيرلندا في الإطار أصبحت اللغة الأصلية واللغة الوطنية الرسمية فيها لغة أقلية.
بالعودة إلى أوكرانيا، وبرغم تحديد الدستور الأوكراني، اللغة الأوكرانية باعتبارها اللغة الوطنية الوحيدة، وبرغم جعل التشريعات الإضافية الأوكرانية لغةً سائدةً في التعليم والقانون والإعلام، إلا أن سياسات اللغة لم تتسبب في تخلي الناطقين بالروسية عن هويتهم الأوكرانية.
استطلاع أجرته مؤسسة Ilko Kucheriv على مستوى البلاد عام 2021، أعلن فيه 22 في المئة من الأوكرانيين أن “اللغة الروسية هي لغتهم الأم، لكن 36 في المئة فقط قالوا إنهم يتحدثون الروسية في المنزل”.
استثناء
يحكي التاريخ أن الامبراطورية الروسية سيطرت على القرم وضمتها إبان حكم كاثرين العظيمة عام 1783. ظلت القرم جزءاً من روسيا حتى عام 1954، عندما قام الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف بإهدائها إلى جمهورية أوكرانيا السوفياتية آنذاك “من أجل تعزيز الوحدة بين الروس والأوكرانيين”.
الروس هنا يشكلون أغلبية السكان في القرم، ولكن في المنطقة تقطن ايضاً أقليات لا بأس بها من الأوكرانيين والتتار.
حوار
نهى يوسف، صحافية مهتمة بالشأن الأوكراني استهلت حديثها مع “النهار العربي” بإعطاء لمحة تاريخية عاجلة عن مسألة اللغة بالنسبة إلى الشعب الأوكراني، قائلة إنه “كباقي شعوب دول الاتحاد السوفياتي السابق، كان مجبراً على التحدث باللغة الروسية، طبقاً لسياسة الحزب الحاكم لتوحيد اللغة في كل دول الاتحاد.
بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهياره تماماً عام 1991، لم يكن الحديث باللغة الروسية مثار جدل بخصوص الهوية الوطنية في أوكرانيا، رغم أن العصر الستاليني كان من بين الأحلك بالنسبة إلى الأوكرانيين. وعدا عن الإبادة الجماعية بالتجويع “الهولودومور”، كان ستالين قد استهدف بشكل ممنهج طبقة المثقفين من كتاب ومفكرين وفنانين وقتل طائفة منهم. بعد تفكك الاتحاد السوفياتي كانت اللغة الروسية مجرد وعاء للتعبير، ترعرعت أجيال على استخدامه …”.
بدأت الأمور تتغير ببطء في بداية الألفية الحالية، برأي نهى يوسف. بوادر النفور الأوكراني من اللغة بنظرها ولدت صغيرة عام 2004 مع الثورة البرتقالية، عقب تزوير فيكتور يانوكوفيتش بدعم من النظام الروسي نتائج الانتخابات الرئاسية. بدأ على الأرجح تيار سياسي خفي معارض لكل ما هو روسي، تحوّل إلى مدِّ مع ثورة “ميدان” عام 2014. في تلك اللحظة باتت لغةُ حديثِ الأوكرانيين تحددُ اتجاه بوصلتهم: إما لروسيا، أو للاتحاد الأوروبي.
هذا التوجه برأيها “بدأ سياسياً ووجد أرضية خصبة لدى شعب قاسى لعقود اضطهاد الاتحاد السوفياتي، وبدأ يرى في 2014 أن موسكو تسعى لمنعه من دخول جنة الديموقراطية والحرية، بنظر كثيرين. في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ أوكرانيا الحديث، ومع ضم روسيا شبه جزيرة القرم، وهي خطوة باعتقاد نهى يوسف كانت جيو-اقتصادية محضة، تحولت اللغة الأوكرانية إلى رمز دال إلى الهوية الوطنية …”.
خلال زياراتها المتعددة لكييف، بدءاً من العام 2014، تقول الصحافية نهى يوسف لـ”النهار العربي”، إنها بدأت تلاحظ أعلاماً أوكرانية في نوافذ المنازل وفي الشوارع، وإن لم تكن هناك مناسبة وطنية، “وأُخبِرت أن العامة يمتنعون عن الرد باللغة الروسية إن حدثتهم بها، وبخاصة مع الأجانب، وبذلك هم يظهرون هويتهم التي يريدون بناء عليها الالتحاق بالاتحاد الأوروبي. وامتد الأمر من اللغة المتكلم بها، إلى أسماء الشوارع والمعالم الثقافية والتاريخية …”.
في المجمل، يمكن الاستنتاج أن نفور الأوكرانيين اليوم من اللغة الروسية، وإن تحدثوا بها أفضل من لغتهم الأم (باستثناء المناطق الغربية البعيدة من المركز كـ “لفيف”) كان نتاج تفاعل عوامل تاريخية وسياسية. أشعل جذوتها تجاذب روسيا والغرب للظفر بنفوذ في بلد ذي موقع استراتيجي حساس، وموارد طبيعية وافرة…
… والحرب مستمرة
اليوم، ومع الغزو الروسي لأوكرانيا، يظهر الناطقون بالروسية بين المقاتلين من أجل بلادهم للدفاع ضد الجيش الروسي. كتائب المتطوعين الأوكرانية خلال الحرب الانفصالية طويلة الأمد في منطقة دونباس شرق أوكرانيا، ضمت نسبة كبيرة من المتحدثين بالروسية. الاستثناء الأبرز يبقى … شبه جزيرة القرم.
رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=22373