مجلة عرب أستراليا ـ بقلم د. نجمة خليل حبيب
تتميز استراليا عن كثير من البلدان في أن اسمها سبقها الى الظهور، فقد تعارف علماء الجغرافيا على اطلاق لقب Terra Australis Incognita أي أرض الجنوب المجهولة للدلالة على الفراغ الحاصل اسفل المجسم الذي تمثلوه للكرة الارضية. وقد تأخر الاهتمام بهذا الجزء من العالم الى ما بعد اكتشاف أميركا وآسيا (الهند والصين) فكأن الطامحين الطامعين بالمجد والثروة من الاوروبيين حفزهم ما تحقق من كشوفات فوقفوا متسائلين وماذا بعد، وقادهم تساؤلهم الى ما تبقى مجهولاً من هذا الكوكب فكان توجههم جنوباً.
كان الهولنديون اول الواصلين الى هذه البلاد، فاستعمروها وأطلقوا عليها لقب هولندا الجديدة، إلا أن استعمارهم كان سريعاً قصير المدى، فكأن ما وجودوه في هذه القارة لم يف بطموحاتهم إذ كشفت كتاباتهم عن صورة سلبية للارض وذم لقاطنيها، وكان جل ما توقفت عنده هذه الكتابات، حيوان الكانغارو وغرابته.
إلا أن تلك الصورة على قتامتها أثارت فضول الانكليز، فقام الرحالة “وليم دامبير William Dampier” برحلة اليها ولكنه هو الاخر رأى فيها بلاداً تعسة لا خير فيها، مسكونة باتعس انواع المخلوقات على وجه الارض. صحيح انه كان أقل تشاؤماً من الهولنديين، فهو لم يصف أهلها بالوحوش، ولكنه قال فيهم : إنهم متخلفون دون مستوى البشر “1”. لذا، فتر حماس الانكليز تجاه هذه الارض ولم يعاودوا التفكير بها إلا في القرن الثامن عشر عندما أوكلت الحكومة البريطانية امرا الى الكابتن “جايمس كوك James Cook بالقيام برحلته التى مهدت للاستيطان الابيض.
رافق “كوك” في رحلته هذه, عالم يدعى”جوزف بانكسJoseph Banks ” فحطت رحالهما بما عرف فيما بعد ب”نيوساوث ويلز New South Wales”. وقد جاءت تقاريرهما اكثر موضوعية وإيجابية من سابقاتها وعكست التسمية التي اطلقاها على المكانين هذه الايجابية. (أطلق جاميس كوك اسم بلاده على المستوطنة الجديدة واطلق بانكس على المكان الذي أرسى بحارته فيه ومنه انطلقوا في كشوفاتهم العلمية “بوتاني باي Botany Bay”) ويقول المؤرخون؛ إن غنى المنطقة بالنماذج الطبيعية ودهشة بانكس إزاء جمالية المشهد, إذ انه كان قد رأى في ذاك الخليج اجمل ميناءات العالم، كان الدافع وراء هذه التسمية “2”.
كما ان كتابتهما حول الابؤريجينيينThe Aborigines لم تكن متطرفة في سلبيتها، فقد اكتفت بالقول: صحيح أن لهم طريقة في العيش وفلسفة تختلف عما هو معروف عندنا, ولكنهم قوم سعداء راضون بعيشهم, زاهدون بما لدينا من ترف ورفاهية، يعافون ما نتركه لهم من ثياب وحاجيات ولا يرون في حضارتنا ما يبهج ويثير”3″. شجعت هذه التقارير الحكومة البريطانية على اتخاذ قرار إنشاء مستعمرة لها في “بوتاني باي” في الولاية التي تحمل اليوم اسم “نيوساوث ويلز” المستعمرة السجن لاحتواء ما تفيض به سجونها
حدث الاستيطان عام 1788 بقيادة “آرثر فيليب” وبقافلة مؤلفة من الف شخص, ثلاثة ارباعهم من المساجين والربع الاخر من الموظفين والبحرية وعائلاتهم. لقد أملت بريطانيا من وراء إقامة هذه المستعمرة أن تتيح لسجنائها فرصة بدء حياة جديدة وأملت أيضاً أن يجد علماؤها في طبيعة البلاد مختبرا غنيا لاجراء تجاربهم وبحوثهم”4″. أما من الناحية الاقتصادية فقد توقعت الحكومة البريطانية ان تتمكن المستعمرة من تحقيق اكتفائها الذاتي في غضون ثلاث سنوات من عمر الاستيطان، إلا ان فقر التربة وعدم انتظام هطول الامطار ولااستقرارية الفصول وعدم ملاءمة ادوات الفلاحة المستحضرة لطبيعة التربة وكثرة انتشار القوارض, ادّت الى تأخر حصول هذا الاكتفاء مدة خمس عشرة سنة عانى خلالها المستوطنون ما يشبه المجاعة .
أدى هذا الاستيطان الى المواجهة بين الابؤريجينيين والاوروبيين, وكانت الحضارة التي جلبها المستوطن الاوروبي لهولاء البدائيين وبالاً عليهم، فهي الى جانب ما حملته من أمراض وإبادات قامت أيضا بتهجير القبائل التي كانت تعيش في المناطق الخصبة فدمرت بذلك بنيتهم الاجتماعية وقضت على ما يعرف في ثقافتهم ب”زمن الحلم “” Dreamtime
وإذ نمت وازدهرت مقاطعة بورت جاكسون, إزداد عدد المهاجرين الاحرار الى الجزيرة, فقد بدأ يقصدها البريطانيون المغامرون واعتق الكثير من السجناء, إما لانتهاء مدة عقوبتهم وإما لحسن السيرة والسلوك. وهكذا, وبحلول عام 1840 كانت مستعمرات اخرى قد انشئت على امتداد الساحل واعلنت القارة كلها ملك للتاج البريطاني. إلا أن أستراليا لم تكن على نفس القدر من الاهمية كالمستعمرات الاخرى, فهي لم تستطع تحقيق احلام الغزاة بالغنى والثروة كما كان الامر في اميركا والهند. حتى في عهد اكتشاف الذهب لم تستطع تحقيق بناء مجتمع مترف غني، بل اقتصر الامر على إقامة اقتصاد مزدهر برز فيه عدد ممن حالفهم الحظ بالثروة والنجاح.
إلا أن اكتشاف الذهب في نيوساوث ويلز وفكتوريا ادى الى ازدياد الهجرة الى استراليا وتجديد الثقة بامكان نشوء الحلم الاستعماري البريطاني القاضي ببناء انكلترا جديدة في هذا المقلب الجنوبي من الكرة الارضية. وفي أقل من ربع قرن كانت الجامعات والمتاحف والمكاتب والكنائس والحدائق العامة قد أنشئت واكتمل بناء كل ما يلزم لانشاء مستعمرة حقيقية. إلا أن الملاحظ أن هذه النهضة الاقتصادية لم تواكبها نهضة فكرية مماثلة, فقد تأخر نشوء حركة ثقافية فاعلة الى ما بعد هدوء حمى الذهب، وكان الركود الاقتصادي الذي ضرب البلاد عام 1890 هو الذي حفزها وأدى الى بلورة الحس الوطني اكثر مما فعل تدفق الذهب عام 1850 “5”
وان كانت استراليا اليوم بلداً يدور اقتصاديا في عجلة الامبريالية ولا يعيش في قلب العالم التجاري بل على هامشه يزوده بالمواد الخام الرخيصة التي يحتاجها في تطوره المتسارع, إلا أنها تخطو مسرعة للحاق بالركب الحضاري العالمي, ولها في نظامها الديمقراطي وعدالتها الاجتماعية وتركيبتها الديموغرافية, فضل السبق على كثير من البلدان العريقة في حضارتها. كما ان لها من الطاقات البشرية المتنوعة التي تستقبلها من مختلف بلدان العالم وتصهرها في بوتقتها زادا غنيا كفيلا بان يجعل منها في المستقبل غير البعيد دولة قوية فاعلة في شتى الميادين.
رابط مختصر… https://arabsaustralia.com/?p=734