مجلة عرب استراليا ـ سيدني
بقلم: الدكتور جمال دملج ـ كاتب لبنانيّ
تمامًا مثلما لا يمكن لاثنين من العاقلين أن يختلفا على قيمة الدلالات الرمزيّة الكامنة في جوهر ما جاء يومًا على لسان حكيم الصين كونفوشيوس عندما قال إنّ المستقبل لن يصبح أمامنا في الحاضر بمثابةِ صفحةٍ مشرقةٍ إلّا إذا قمنا أوّلًا بدراسة الماضي، فإنّ اثنين لا يمكن أن يختلفا في الموازاة على أنّ تقصيرنا المتوارَث جيلًا بعد جيلٍ في مجال دراسة ماضينا هو الذي لا يزال يُواصِل إغراق مستقبلنا في بحورٍ غامضةٍ من الظلمات.
علاوةً على ذلك؛ وهنا الأهمّ، فإنّ هذا التقصير نفسه هو الذي لا يزال يُعيق مسيرة تقدُّمنا في حياتنا الإنسانيّة إلى الأمام، تارّةً لاعتباراتٍ دينيّةٍ بحتةٍ، وتارّةً أخرى لمزيجٍ من الاعتبارات التي يختلط فيها العنصر الدينيّ الأصيل بالعناصر السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والمصلحيّة الدخيلة عليه، وخصوصًا في منطقة الشرق الأوسط الحُبلى بصراعاتٍ ونزاعاتٍ وفتنٍ وكيديّاتٍ طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ وإثنيّةٍ وعرقيّةٍ لا يختلف اثنان من العاقلين في المحصِّلة النهائيّة أيضًا على أنّها صراعاتٌ ونزاعاتٌ وفتنٌ وكيديّاتٌ باتت تضع هذه المنطقة بأسرها على حافّة السقوط في هاوية المستقبل المجهول إلى أبد الآبدين.
المبرِّرات الشخصيّة
على هذا الأساس، فقد كان من الممكن للجزء الثاني من هذا البحث أن يبقى مصنَّفًا في خانة العاديّ جدًّا لو أنّ مداه الزمنيّ يقتصر على الغوص في أبعاد تلك المرحلة الغابرة من تاريخنا الإنسانيّ، عندما بنى المماليك مدينة طرابلس في شمالِ لبنان عام 1289 ببوّاباتها وأسواقها وأزقَّتها وجوامعها وخاناتها وحمّاماتها على أنقاض ما هدَمَه السلطان المنصور قلاوون (وقتذاك) ممّا كان الفينيقيّون قد بَنوْهُ من معالمَ لهذه المدينة قبل أكثرَ من ثلاثةِ آلافٍ وخمسمئةِ عامٍ من الزمان، وقبل أن يتعاقب عليها كلٌّ من الرومانيّين والفارسيّين والبيزنطيّين والأمويّين والعبّاسيّين والطولونيّين والإخشيديّين والفاطميّين والفرنجة الصليبيّين.
كما كان من الممكن أيضًا؛ على المستوى الشخصيّ، أن أحصُر البحث ضمن نطاق الحديث عن ذلك البيت الطرابلسيّ العتيق الذي بُنيَ في الأصلِ في إطار المخطَّط العمرانيّ القلاوونيّ قبل أكثرَ من سبعمئةِ عامٍ في “زقاق زقزوق” المتفرِّع من “سوق البازركان”، والذي وُلِدتُ فيه عام 1960، لولا استرسالي في عبق التاريخ، بناءً على نصيحة الحكيم الصينيّ كونفوشيوس، لأصِلَ إلى الحقبة الآراميّة والعموريّة والوثنيّة ما قبل المسيحيّة والإسلام، ولأجِدَ أنّ “الدملجيّين” كانوا حاضرين منذ قديم الزمان بفاعليّةٍ في مجال العمل على تحقيق العدل والسلام والأمان حيثما قُدِّر لهم أن يتواجدوا في هذا العالم الفسيح الأرجاء.
قبيلة “بني دملج”
وإذا ما انطلقتُ من آخر الأديان السماويّة، أيْ من الإسلام، فإنّ خير البداية لا بدَّ من أن تتجسَّد في فحوى ما جاء على لسان الباحث في شؤون تاريخ الأديان شاكر الشيخ سلامة الحسَب في دراسته النقديّة القيِّمة حول “بدر الكبرى” عندما قال ما حرفيَّته:
“حين هاجر محمّد النبيّ وصَحبُه إلى يثرب، فإنّ أهمَّ ما شغل تفكيره واِستحوذ عليه هو التأسيس لجيشٍ عسكريٍّ قويٍّ قادرٍ على تنفيذ أهداف الحركة، وكيفيّة تأمين اِحتياجاته المادّيّة، ولم يكن أمام محمّد النبيّ من طريقٍ لتوفير هذا المال لجيشه غير الغزو لقوافل قريش وحلفائها، وسلبها والسطو عليها، ولهذا قام بالعديد من الغزوات قبل (وقعة بدر) ومنها:
أوّلًا، أمَرَ سريّةً قتاليّةً بقيادة حمزة بن عبد المطّلب ومعه ثلاثون مهاجرًا لاعتراضِ قافلةٍ من قوافل قريش التجاريّة، إلّا أنّ حمزة تفاجأ بأنّ القافلة محاطةٌ بحراسةٍ مشدَّدةٍ مكوَّنةٍ من ما يقاربُ الثلاثِمئةِ مقاتلٍ بقيادةِ أبي الحكم بن هشام (أبو جهل)، ممّا أجبَرَ هذا الوضع على أن يرجَع حمزة من دون تحقيق الهدف المكلَّف به.
ثانيًا، بعد هذا بشهرٍ، أمَرَ سريّةً قتاليّةً بقيادةِ عبيدة بن الحارث بن المطّلب، وهو الآخَر تفاجأ كما تفاجأ حمزة من قبْله بالعدد الكبير من الحراسات على تلك القافلة التجاريّة المراد سلبُها ونهبُها، وعادَ إلى محمّد النبيّ من دون تحقيق الهدف المكلَّف به.
ثالثًا، ما أن مرَّت القلائل من الأيّام، حتّى أمَرَ سريّةً قتاليّةً أخرى بقيادة سعد بن أبي وقّاص لسلبِ قافلةٍ تجاريّةٍ على وشك الوصولِ إلى منطقة خرار، ولكنّها مرَّت في المنطقة من دون أن يُدرِكَها أو أن يتمكَّن من اللحاق بها، فعادَ إلى محمّد النبيّ خائبًا.
رابعًا، هذا الوضع من عدم تحقيق السرايا لأهدافها سبَّب ضجرًا وقلقًا لمحمّد النبيّ، حيث لا بدَّ من المال لدعم الجيش وتوفير مستلزماته الملحَّة، وهذا تَطلَّب أن يخرج محمّد النبيّ بنفسه للغزو وإقناع القبائل التي لها استعدادٌ للتعاون معه للانضمام لجيشه أو ليكونوا له عيونًا استخباراتيّةً لتقصّي أخبار قريش، وخاصّةً تلك الواقعة على طريق “الإيلاف التجاريّ” الذاهِب للشام، فخرَجَ على رأسِ سريّةٍ، وتمكَّن من إقناع “بني دملج” بإنهاء التعاون والتنسيق مع قريش، والانسحاب من معاهدة الإيلاف، والتعاون مع الجيش المحمّديّ بما يخصّ العمل الاستخباراتيّ لتدقيقِ حركاتِ وأقوالِ قريش”… والإيلاف هي معاهدةٌ تجاريّةٌ أبرمتها قريش مع القبائل العربيّة المقيمة ما بين مكَّة وما بين كلٍّ من اليمن وبلاد الشام، وهي تعني “أمان الطريق”، أيْ أن تأمَنَ قوافل قريش عندما تمرُّ في أراضي هذه القبائل من دون حلفٍ تعقدُه معهم.
الدملجيّون… وفتح ليبيا
هكذا يظهَر إذن في الدراسة النقديّة الآنفة الذكر للباحث شاكر الشيخ سلامة الحسَب أنّ الدملجيّين (بني دملج) كانوا حاضرين بفاعليّةٍ في المنطقة خلال المرحلة التي سبقَت ظهور الإسلام، الأمر الذي سيتأكَّد أكثرَ فأكثرَ عندما نستحضر على الفور فحوى ما كتبَه الباحث الليبيّ علي رحّال تحت عنوان: “اللهجة الليبيّة وسهولة حفْظ القرآن”، قائلًا ما حرفيّته:
“لن أبخسَ حقَّ أحَدٍ في جدِّ واجتهادِ أو جُهدِ مشائخَ هذا دينُهم منذ أن أنعَمَ الله علينا بِنِعَم الإسلام في السنة الواحدة بعد العشرين من هِجرة سيِّد الكائنات محمّد صلّى الله عليه وسلَّم، واتّجاهِ عمرو بن العاص، جزاه الله عنّا خيرًا، إلى طرابلس بعد أن فتَحَ برقة سلمًا، وخروجِ نفرٍ من بني دملج ومعهم قائدهم جزاه الله عن هذا البلد خيرًا، فغدا السيرَ صوب شاطئ المدينة فوجَدَ نفسَه داخل المدينة، وأغلب ظنّي أنّها من الجهة الغربيّة المعروفة بالباب الجديد، فسارعوا إلى فتْح أبواب المدينة، وهُرِعَ الرومُ إلى سُفنهم يطلبون فرارًا ونجاةً بأنفسهم من أمامِ رجالٍ يطلبون الموت شهادةً كما يطلبون هُمُ الحياة تنعُّما، وأطلَقَ عليها سيِّدي عمرو بن العاص اسم طرابلس بدلًا من تريبوليس، وأقامَ فيها أوَّل مسجدٍ يُرفَع فيه اسم الله عاليًا، بعد أن تعاقبَت علينا ممالكُ ودولٌ وظلامٌ دامسٌ من عبوديّةٍ وإشراكٍ”… وهذا كلامٌ إنْ دلَّ إلى شيءٍ، فهو يدلُّ إلى أنّ حضور بني دملج كان فعّالًا في ليبيا قبل الفتوحات الإسلاميّة.
الدملجيّون… والقبائل السودانيّة
في النظام القبليّ السائد منذ مئات السنين ولغاية زماننا الراهن في السودان، يترأّس “الدملج” في قبيلة الداجو مجموعةً صغيرةً أو بطونَ قليلةً، وقد يشمُل كلَّ دملجٍ على ما بين أربعةٍ أو خمسةِ بطونٍ صغيرةٍ، بينما يُسمّى رئيس الدمالج بـ”سمبي”، فضلًا عن أنّ نظام الدمالج عند الداجو هو نظامٌ إداريٌّ قديمٌ ومتوارَثٌ ومتعارَفٌ عليه منذ نشأة مملكة الداجو الأولى قرابة العام الميلاديّ 350 فوق المنطقة الممتدّة من النيل الأبيض إلى نهر شاري، ومن شمال كردفان إلى بحر الغزال، كما أنّه نظامٌ سارٍ على كثيرٍ من قبائل دارفور كنظامٍ للإدارة منذ القرن العاشر، بحيث أنّ سلطات الدملج بقيَت على الدوام أعلى من سلطات العُمدة.
الدملجيّون… وألغاز الإسلام
وإذا كان ما تقدَّم في هذا الجزء الثاني من بحثنا كافيًا حتّى الآن للتوصُّل إلى استنتاجٍ منطقيٍّ مؤدّاه أنّ مرحلة تراجُعِ فاعليّةِ الحضور الدملجيّ، سواءٌ في الشرق الأوسط أم في أفريقيا، ومن ثمَّ اضمحلاله وتلاشيه، بدأت في الأصل مع بداية ظهور الإسلام، فإنّ الجزأيْن القادميْن الثالث والرابع سيُخصَّصان لمحاولة الإجابة عن أسئلةٍ جادّةٍ وجدليّةٍ لا بدَّ من طرحها في سياق الدعوة إلى حوارٍ هادىءٍ مع أخوةٍ مزاجيّين، بدءًا من الغموض الذي لا يزال يكتنف السيرة النبويّة المحمَّديّة من أساسها بالاستناد إلى تقييم القدّيس يوحنّا الدمشقيّ لها في القرن السابع باعتبارها “الهرطقة” التي تحمل الرقم مئةٍ في زمانه، مرورًا بالجدل المتفاعِل باضطرادٍ على مرِّ التاريخ حول “صحَّة” الأحاديث النبويّة المدوَّنة في مؤلَّفات أشخاصٍ لم يُعايشوا النبيّ ولم يُعاصروه ولم يُولدوا في الأصل في زمانه؛ مثل البخاري ومسلم والترمذيّ وغيرهم، والمعتمَدة كمراجعَ شرعيّةٍ لا تزال تحدِّدُ سلوكيّات المسلمين لغاية يومنا الراهن، وانتهاءً بحالة الشيزوفرينيا التي يبدو أنّها ماضيةٌ تمامًا في استنساخ العقبة تلو الأخرى للحيلولة دون تقدُّم غالبيّة المجتمعات الإسلاميّة على طريق الحداثة الحقيقيّة.
بين ماضي الإسلام ومستقبله: دعوةٌ صريحةٌ إلى حوارٍ هادىءٍ مع أخوةٍ مزاجيّين (1 – 4)
رابط مختصر … https://arabsaustralia.com/?p=14647