مجلة عرب أستراليا سدني – وظيفة شاغرة
بقلم الكاتب المسرحي العراقي عصام جميل
منذ ثلاث سنوات كان يجلس على نفس هذا المقعد القديم المصنوع من الجلد الاسود ، لم يتغير شئ قط في هذا المكان ، ما زالت هي نفس السكرتيرة لم تتغير ، وما زال مكتبها في نفس موضعه ومن خلفه ذلك الجدار الذي علقت عليه العديد من الصور بالابيض والاسود لاحد لاعبي البيسبول وهو يحمل مضربه ويضع خوذة على راسه ويغطي وجهه بقناع مُشبَّك. تبادر الى ذهنه انها صورة المدير في شبابه. حاول ان يتذكر وجه مدير الشركة حينما قابله قبل ثلاث سنوات للحصول على نفس الوظيفة الشاغرة ، ولكن لم تسعفه ذاكرته. كل ما علق في ذاكرته حينها هو وجه منتفخ وعينان غائرتان كانتا تسلطان النظر على اوراق الملف الذي بين يديه ثم كلماته الحارقة التي اخترقت قلبه ـ
أسف يا سيد جورج، على الرغم من خبرتك الطويلة في مجال عملنا الا انه ينقصك شهادة المرحلة الثالثة مؤسسة تعليمية استرالية
بقيت تلك الكلمات تدوّي في رأسه حتى هذه الساعة، وكان هذا حافزاً له للحصول على الشهادة المطلوبة مهما كلفه الامر . وقتها ايقن ان كل الجهود التي بذلها لترجمة شهاداته في مصر الى اللغة الانكليزية قد باءت بالفشل، اذ بقيت تلك الشهادات والمهارات حبراً على ورق ولم ينتفع منها شيئا اللهمَّ إِلا أن يجعل ملف خبراته ينتفخ بالاوراق
كانت الساعة قد جاوزت الحادية عشر صباحاً، رغم ان موعد المقابلة المقرر كان في العاشرة والنصف
نظر الى ساعته ثم الى السكرتيرة ، وشَعَر انها قرَأت الملل الذي في عينيه ، الا انها تجاهلت نظراته وانكبَّت على عملها ترتب بعض الملفات والاوراق . نظر مرة أخرى الى صور لاعب البيسبول المعلقة وودَّ ان يكسر الصمت سائلاً عن صاحب الصورة فردت السكرتيرة بتعجب
“انه كريج ”
“كريج ”
“نعم كريج شيبلي، كيف لا تعرف”
شعر بالخجل فرد عليها
“ليس لي اهتمام بهذه اللعبة ”
نظرت اليه باستهجان ثم تجاهلته
“هذه المرأة لا تطيق وجودي ”
قالها في سرّه ثم اشاح وجهه متجنباً سهام نظراتها التي تسددها اليه من خلف نظارتها. كانت امرأة في الخمسينات من العمر، وعلى وجهها مسحة جمال لم توليه عناية كافيه
“لعلها تقول في سرها ..هذا الملون الآتي من الشرق الاوسط يظن ان الابواب ستفتح له بهذه السهولة ”
نظرت اليه وابتسمت بتصنع واضح
ابتسامة كاذبة ، لا أشك انها تقول في سرها بان كل اوراقي وملفاتي التي اتأبطها لن تجدي نفعا، وان الوظيفة ستمنح بالتأكيد لاول متقدم من ذوي البشرة البيضاء.
كانت الدقائق تمضي بطيئة مملة حتى انه فكر ان يترك المكان ويغادر ولكنه تحلّى بالصبر متحدثاً في سر
” اصبر يا جورج ، لقد قطعت بحوراً وشواطئ حتى وصلت الى استراليا ، فلا بأس ان تصبر بعض الوقت ”
كان الحصول على شهادة المرحلة الثالثة في الهندسة الكهربائية أمراً ضرورياً للحصول على وظيفة في مجال التخصص، وهكذا قرر أن يبتدأ السلم من اوله متناسيا تلك الشهادات التي ضيع فيها احلى سني شبابه في مصر
حسناً ، انتم تريدون شهادة المرحلة الثالثة ، هذه هي الشهادة ، لا بل جئتكم بشهادة المرحلة الرابعة والدبلوما كذلك ، لنرَ ما هو قولكم هذه المرّة
شعرَ إنَ السكرتيرة كانت تختلس النظرات اليه بين حين وآخر ، مما جعله يعتقد انها تحاول قراءة افكاره
ثم أنتَبَه الى احدى زوايا سقف الغرفة حيث توجد كاميرا مراقبة فازداد شعوره ان احدا ما كان يراقبه طول الوقت . رسم ابتسامة كاذبه على شفتيه ثم اسند ظهره الى المقعد مسترخيا
عليَّ ان اظهر لهم عدم انزعاجي ، لا شك انهم يرصدون تحركاتي. سوف لن افوّت هذه الفرصة من يدي مرةً اخرى. سوف انتزعها منكم انتزاعاً
لم يمض وقت طويل حتى فُتِحَ باب الغرفة الجانبي وظهر منه رجل في الاربعينات وتحدث الى جورج طالبا اليه الدخول
حين دخل جورج الى الغرفة المجاورة اعتقد ان الرجل الذي نادى عليه سيقدمه الى مدير الشركة ، ذلك الرجل البدين الذي سبق ان قابله قبل ثلاث سنوات، ولكن فور دخوله ادرك ان هذا الرجل هو نفسه المدير او لعله من ينوب عن المدير
كان رجلاً وسيماً يرتدي قميصاً ابيض مع ربطة عنق لم تُربَط بعناية. وبينما كان هناك مكتب في يمين الغرفة إلا إنه فضَّلَ الجلوس على اريكة في الجهة المقابلة للمكتب ، ثم دعا جورج للجلوس حيث يوجد مقعد بالقرب منه
التقط ملفاً كان موضوعاً على طاولة صغيرة وصار يقرأ ويقلب الاوراق، بينما استجمع جورج كل حواسه وبدا متأهبا للرد على اي سؤال
“انت قدمت لهذه الوظيفة من قبل ”
“نعم ، كان ذلك قبل ثلاث سنوات ”
اجاب جورج متوجساً
“نعم ، انا ارى ذلك في ملفك ، لقد رُفِضْت حينها بسبب الشهادة ”
“نعم ، ولكنني تغلبت على هذا الحاجز واستطعت الحصول على شهادة المرحلة الثالثة ”
“والمرحلة الرابعة ايضاً ، والدبلوما كذلك.”
قالها المدير بطريقة توحي بأن الامر لم يسرّه
“انا احب هذا المجال واحببت ان اكون ملماً بكل شئ ”
“بالتاكيد ، انت شاب طموح ولقد اكتسبت الكثير من الخبرات …ولكن ”
حين توقف عن الكلام واغلق الملف شعر جورج ان الفرصة أخذَت تفلت من يده
“لكن …لكن ماذا يا سيدي؟”
” مؤهلاتك يا جورج اكبر من الوظيفة، المطلوب هو شهادة المرحلة الثالثة فقط”
ثم نظر اليه بعينين مواسيَتين
“يمكنكم التغاضي عن بقية الشهادات ”
قالها جورج محاولا انقاذ الموقف
حينما ترتضي ان تعمل بوظيفة اقل من مستواك ستبقى دائما تنظر اليها كحالة مؤقته حتى تجد وظيفة أفضل”
“ارجو ان تكون قد فهمت قصدي، حظا أفضل في المرّة القادمة
ثم مدَّ يده للمصافحة
رابط مختصر.. https://arabsaustralia.com/?p=13722