مجله عرب تيتراليا سدني أصل الأنسان -بقلم الكاتب المسرحي العراقي عصام جميل
هي قصة قصيره -ترصد بعض الهموم الاجتماعية التي يعيشها المهاجرون في استراليا
سئمنا من دروس اللغة الانكليزية ، صرنا نقفز من مرحلة الى اخرى مثلما يفعلون في سباقات ركض الموانع ، وليته كان سباق موانع، فحتى هذا ايضا له نهاية الا دروس اللغة التي يقدمونها للمهاجرين الجدد في بلاد حيوان الكنغارو . دروس لا مفر منها ، والمتهاون بها تُقطع عنه ارزاق الرعاية الاجتماعية . ولا ألوي الحق فأقول انها لا تساعد المهاجرينَ الجُدُد على تعلمِ لغةٍ جديدةٍ وثقافةٍ جديدة ، الا ان الاهم من ذلك في رأيي هو انهم يوفروا من خلالها عدداً كبيراً من الوظائف للعاطلين عن العمل من اصول انكليزية، ومنهم مدرستنا اليزابيث ، التي ما زالت مقتنعة ان بالامكان الافادة من خبراتها التي اكتسبتها خلال سنيَّ حياتها الطويلة التي عاصرت بها القطارات التي تسير بقوة البخار.
اليوم كان مختلفا بعضَ الشئ، فلقد قررت السيدة اليزابيث ان تتوقف عن إعطائنا دروس اللغة التي نتعلم فيها كيف نكتب رسالة الى صاحب محل أحذية ، نُعْلِمُهُ فيها ان الحذاء الذي اشتريناه لا يناسب قياس ارجلنا، وكنا قد قضينا ثلاث اسابيع نتنقل بها من حذاءٍ الى آخر. ولكن اليوم بدا مختلفاً بعض الشئ، فبعد أن دخلت السيدة اليزابيث بِعودِها الذابل النحيل وكعادتها في كل صباح ترتب ما بقيَ لها من خصيلات شَعرٍ متقصف ، أسرعت الى السبورة وبيدها لفافة ورق سرعان ما نشرتها ثم علقتها مبتسمة. كانت الورقة التي نشرتها عبارة عن صورة لقرد يتطور حتى يصل الى صورة انسان يجلس الى مكتب وُضِعَ عليه جهازَ كومبيوتر. كانت هذه الصورة شائعة وكنا نجدها ملصقةً على بعض زجاج السيارات مذ جئنا الى هذه البلاد البعيدة . قالت السيدة اليزابيث وهي تشير الى الصورة بطريقة استعراضية:
ـ اليوم سنتحدث عن اجدادنا العظام.
قالت هذا وهي تشير الى القرود.
كنا حوالي اربعة عشر طالبا من اصولٍ متنوعة ، صار كل منا ينظر الى الاخر محاولين قراءة تعابير وجه بعضنا البعض، غير متيقنين ان كان الامر جدَ أم لا.
ولكن سرعان ما اكتشفنا ان الامر لا يحتمل الهزَل، فقد اخذت السيدة اليزابيث تتكلم بتبسيط شديد عن مراحل تطور الانسان ابتداءً بالمرحلة القردية . ولقد حاول كل مَن في الفصل ان يفهم قدر ما يستطيع ولكن الامر كان عصيا على الفهم ، خصوصا بعدما عرجت السيدة اليزابيث على ذكر نظرية اسمتها النشوء والارتقاء لرجل اسمه داروين ، حينها اختلط الامر علينا وأخذنا نلوي رقابنا ذات اليمين وذات الشمال. ولا أُخفي عليكم ان الموضوع رغم صعوبة فهمه فقد شدَّني على نحو كبير.
كان في الصورة خمسة مراحل. اولها صورة قرد، والثاني قرد ايضاً ولكنه اطولُ قامة ، اما الصورة الثالثة فكانت لرجل شبيه بالقرد ، أطول قامة وظهره أقل انحناءً و يحمل خنجراً، غير ان الرابع كان قريب الشبه بالانسان منه بالقرود وكان ظهره اقل انحناءً و يحمل رمحاً، اما الصورة الاخيرة فكانت لأنسان عاقل يجلس الى كومبيوتر ولكنه كان بلا ثياب كحال سابقيه .
قلت للسيدة اليزابيث متسائلا:
ـ يفترض ان يكون هذا الانسان عاقلاً، فلماذا هو لا يرتدي الثياب؟
قلت هذا بطريقة عفوية جداً، ولم اكن اقصد الاستهزاء او ما شابه ذلك، ولكن سؤالي تبعتهُ عاصفةٌ من الضحك جعلتني في حرجٍ شديد، لا سيما وان علامات الانزعاج بدت واضحة على معالم السيدة اليزابيث فانبرت بصوتها الرفيع تخاطب الجمع ان يهدأ، ناظرة الي بعتاب ثم واصلت الدرس.
ثم بعد دقائق قليلة خطرت في راسي فكرة سرعان ما جاهرت بها سائلا السيدة اليزابيث بان القرد، واقصد الصورة الاولى، ما زال نوعه موجودٌ ، وكذلك الانسان في الصورة الاخيرة، ولكن لِمَ اختفت الانواع الاخرى التي تطورت عن القرود.
في الحقيقة ، فور مجاهرتي بالسؤال اكتشفت فداحة الخطأ الذي قمت به ، فلقد ابدت السيدة اليزابيث انزعاجها الشديد مني معتقدة انني احاول ان اشكك في نظرية التطور . وهكذا رمت السيدة اليزابيث ما بيدها وتركت الدرس غاضبة. ويعلم الله انني لم أقصد إغاضتها ولم اُبيّت سوء النية ، انما هو سؤال خطر ببالي وحسب.
بعد قليل جاءت مديرة المركز مستفسرة فقص لها مَن في الفصل ما حدث، فنظرت اليَّ بعتاب ثم طَلَبَتْ ان اتبعها الى الادارة .
كنت اعتقد اني سأجد السيدة اليزابيث في مركز الادارة ولكن المديرة اخبرتني انها تركت المركز غاضبة وان ما فَعَلتْهُ امرٌ لا ينم عن التحضر وان التشكيك بنظرية النشوء والارتقاء امرٌ غير مستحب في المؤسسات التعليمية . حاولت ان اوضح لها وجهة نظري الا ان محاولتي باءت بالفشل ولم يكن امامي إلا خيار واحد وهو ان اقدم اعتذاري للسيدة اليزابيث فور مواجهتي بها فَقَبلت .
عند عودتي الى البيت صرت افكّر مع نفسي، ترى ما الذي أغضب السيدة اليزابيث الى هذهِ الدرجة؟
ألعلَ سؤالي كان محرجاً لها فلم تستطع الاجابة ، وهذا قادني الى الاستنتاج بأني استطعت ان أدحض نظرية السيد داروين.
وشعرت بالزهو ثم رفعت راسي قائلاً لنفسي …انا الانسان البسيط والمحدود التعليم استطعت ان اهزم أحد العلماء. ولكن من هو دارون هذا ؟ ألعلَهُ يكون زوجها ! ربما … وهذا ما أثار غضبها .
بقيت صورة القرود تراود ذهني طوال اليوم ثم صرت أتأمل في أُصول عائلتي ، الامر الذي قادني الى التفكير بجَدّي. فلقد فارق الحياة منذ وقت طويل حتى قبل ان اولد ولم اتمكن من رؤية شكله وهيئته , ووددت لو اني استطيع رؤية وجهه .
بقيَّ هذا الامر يشغلني واخذت الشكوك تساور نفسي فكان أبعد ما كنتُ اتمناه هو ان تتشابه ملامح جدّي وملامح القرد ، حتى اذا جاء المساء استطعت ان اتصل باحد ابناء عمومتي الذي مازال يقيم في العراق، وكان ممن يهتمون بمتابعة الانساب والتسلق على اغصان ِشجرة العائلة. وصار يُعدد لي انساب عائلتي ومن اين انحدَرَت ومن هو جدنا الاعلى . كان شغفه بمِثل هذه الامور لا حدود له ، ولولا مقاطعتي له لاستمر يقص عليَّ لساعاتٍ سلسلة الانساب بلا كلل . قلت له ان كان يحتفظ بصورة لجدّي وكان جوابه على الفور نعم ، ولكنه قال لي انها صورة قديمة صٌورِت بواسطة آلة تصوير قديمة وبسيطة ، تلك التي يطلقون عليها التصوير الضوئي او الشمسي، وفيها يستخدم المصور صندوقا مغطى بقماش اسود وفيها يُعرِّضُ الورق الحساس الى الضوء فتنطبع الصورة . كانت مشاعري ساعة رأيت صورة جدي متضاربة ومختلطة، ولم استطع ان احدد ما الذي شعرت به ،فكأنني أنظر الى صورة آتية من قرون سحيقة. كانت الصورة مظلمة وعلى ما يبدو ان المصور الفوتوغرافي قد نسيَّ ان يغلق فتحة العدسة فتعرض الورق الحساس لضوء اكثر من المطلوب مما سوَّد الصورة، أما ملامح الوجه فقد بدت عابسة مكفهرة وأول انطباع يتبادر الى ذهنك حين تنظر اليها هو كمن يرى صورة عامل في منجم فحم حجري خرج لتوه من المنجم بعد انهياره.
على اية حال، لم يكن الامر محزنا لي لا بل كان مُسِرّاً ،فلقد تيقنت ان ملامح جدّي ،على الرغم من بؤسها،ليس لها اوجه تشابه مع القرود، وهذا ما جعلني افتخر بهذه الصورة فقررت طبعها وتكبيرها.
عند محل طبع الصور نظرت العاملة بريبة حين قلت لها اني اريد طبع هذه الصورة بحجم اكبر، إلا انها استسلمت لرغبتي كزبون ومضت في اجراءات الطبع بالاسود والابيض.
شعرت بالسعادة وانا اضع الصورة في حقيبتي بين ثنايا كتب تعلم اللغة الانكليزية فكأني كنت احمل معي دليلاً دامغاً يدحض نظرية السيد دارون ويفنِّدَها.
عادت السيدة اليزابيث في اليوم التالي الى دروس اللغة، ولكنها دخلت غرفة الدرس برأس شامخ مرفوع حتى انها نست ان تصفف خصيلات شعرها المتبقية كعادتها, وقبل ان تبتدأ الكلام وقفْتُ واعتذرتُ لها امام الطلبة عن تعليقي على الموضوع بالامس ثم أكدت لها انني لم أقصد سوءاً.
حينها قالت وابتسامة المنتصر على وجهها :
ـ لا عليك ، لقد جئتك اليوم بجواب على تعليقك.
ثم نشرت لفافة الورق التي بيدها وعلقت صورة القرود مرَّةً أخرى على السبورة وقالت:
ـ كما تلاحظون ان الرسم الثاني الذي بعد القرد هو انسان الهومو–هابيلز ، اما الرسم الثالث فهو لانسان الهومو–نياندرثالينسز ، اما السر في انقراضهم وعدم وجود سلالة باقية لحد الان لهؤلاء فهو انهم لم يكونوا متطورين بما فيه الكفاية ، او كما نقول البقاء للاصلح.
ختمت قولها وصمتت كأنها كانت تنتظر تصفيق الحاضرين ولكن ،وعلى ما يبدو،لم يكن اي من الحاضرين يفهم ما يدور حوله وبقي الطلاب يتبادلون النظرات بصمت.
بعد لحظات قليلة عدت مرةً اخرى للجدال رافضاً الاستسلام بسهولة ، ولكني غلَّفت احتجاجي باستهلالٍ مهذب لكي لا أُثير حفيظتها فقلت:
ـ عذراً، وارجوا ان تسمحي لي هذه المرة ايضا في ان أُبدي رأيي.
ـ بالطبع لك مطلق الحرية في ان تقول ما تشاء.
قالت ذلك بطريقة الواثق من نفسه فقلت لها:
ـ سيدة اليزابيث، لا شك انك اكثر علما مني بالامر ، ولكن اليست القردة اقل تطوراً من انسان عائلة المونو .
ـ نعم ، ولكن ماذا تقصد بسؤالك؟
ـ انتِ قلتِ ان انسان المونو قد انقرض لانه لم يكن متطوراً بما فيه الكفاية ، ولكن القردة ما زالت باقية وهي أقل تطوراً.
وعلى ما يبدو ان سؤالي قد زعزع ثقتها بنفسها مرةً أخرى فتلعثمت ثم رسمت ابتسامة مصطنعة على وجهها وقالت :
ـ في الواقع انا لست متخصصة في هذا المجال , وان واجبي هو ان اعطيكم معلومات عامة متنوعة، والان لنواصل الدرس.
قالت هذا وتابعت الدرس مستعينة بصور اخرى عرضتها علينا لعظام متحجرة قالت ان عمر هذه العظام يعود لملايين السنين، ثم طلبت منا ان ندونَ جدولا بيانيا لمراحل تطور الانسان فأستل كل مَنْ في الدرس كراريسهم واقلامهم ،اما انا فدسست يدي في حقيبتي بحثاً عن الورق فأخرجت سهواً صورة جدي مما أثار ضحك زميلي الذي يجلس بجواري، ثم انتبهت السيدة اليزابيث الى الامر وسالت لمن هذه الصورة.
ـ انها لجدي.
وأثار جوابي هذا عاصفةٌ من الضحك لكلِ مَنْ في الدرس، فوقفت مخاطبا الجميع:
ـ حسناً ، من حق كل واحد منّا ان يفتخر بجده.
واشرت بيدي الى صورة جدي ثم الى صورة القرود.
وسبب جوابي هذا مزيداً من الضحك مما جعل الامر صعبا على السيدة اليزابيث في ان تسيطر على الموقف . اخيراً قالت:
ـ حسناً، انا أرى من الافضل ان نعود الى متابعة دروسنا السابقة حول كيفية كتابة رسالة لصاحب محل احذية نخبره بها ان الحذاء الذي اشتريناه لا يناسب مقاسنا.