بقلم الصحافي اللبناني داود رمال
بدأت الخطيئة اللبنانية بمسار الترسيم مع جمهورية قبرص في العام 2007، عندما رسّم لبنان الخط الوسطي بينه وبين قبرص، من دون تحديد نهائي للنقطتين الجنوبية والشمالية لهذا الخط، الأمر الذي إستغلته تل أبيب من أجل ترسيم حدودها مع قبرص، خلافاً للمادة الثالثة من الاتفاق بين الحكومتين اللبنانية والقبرصية والذي جاء فيه أنه “إذا دخل أي طرف من الطرفين في مفاوضات تهدف إلى تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع دولة أخرى، يتعين على هذا الطرف إبلاغ الآخر والتشاور معه قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع الدولة الأخرى، إذا ما تعلق التحديد باحداثيات النقطتين 1 أو 6”.
ما هو ثابت هو وجود انقسام سياسي حول الحق اللبناني، وبعدما حدّد وفد التفاوض اللبناني الخط البحري وفقاً للقوانين الدولية، لا سيما قانون البحار وأخذاً في الإعتبار التجارب والحالات المماثلة اقليميا ودوليا، برز الانقسام حول تثبيت هذا الخط بمرسوم يجب ان يصدر قبل شهر حزيران/ يونيو المقبل (تاريخ بدء الإستخراج من حقل كاريش) وابلاغه الى الامم المتحدة، بين من يقول بعدم لزوم المرسوم والاكتفاء بالمرسوم الصادر عام 2011 والتفاوض على مساحة الـ860 كيلومترا مربعا، وبين من يتبنى موقف الجيش اللبناني المستند الى القانون بأن حق لبنان يتجاوز ذلك بمساحات اكبر بكثير.
وكما تأجيل إتخاذ القرار في ملف نيترات الأمونيوم وبالتالي وقوع كارثة انفجار مرفأ بيروت وسقوط مئات الشهداء والاف الجرحى وأضرار مادية بمليارات الدولارات، وذلك كله بسبب تلكؤ المسؤولين على مختلف المستويات عن القيام بأدنى واجباتهم، يتكرر اليوم المشهد مع ملف الحدود البحرية حيث يتم تقاذفه من مرجعية الى اخرى، من دون عرضه على مجلس الوزراء حيث يرفض رئيس حكومة تصريف الأعمال دعوة الحكومة للإنعقاد وبالتالي الإكتفاء بالحدود الضيقة لتصريف الأعمال، إلا إذا نجحت محاولة جمع الرؤساء الثلاثة أو تقرر طرح الأمر على المجلس الأعلى للدفاع.
ثمة قناعة عند قيادة الجيش اللبناني أن حدود لبنان البحرية مع فلسطين المحتلة، وبناءً على دراسة تقنية وقانونية تولاها ضباط وخبراء لبنانيون، تمر بمنتصف حقل كاريش الذي تنوي اسرائيل بدء استخراج الغاز منه نهاية العام الحالي، وهذا يؤدي الى خسارة لبنان مليارات الدولارات التي هي ملك الشعب اللبناني.
وبعيداً عن الاعتبارات القانونية والتقنية والاستراتيجية، هناك من يقول أن اتفاق الإطار ينص على أن التفاوض يجب أن يتم على أساس مساحة 860 كلم مربع، أي بين الخط اللبناني الذي ينتهي بالنقطة 23 والذي صدر بموجب مرسوم العام 2011 وبين الخط الاسرائيلي الذي ينتهي بالنقطة رقم 1 ويقضم مساحات مائية من البلوكات الجنوبية. وهذا الأمر تعتبره قيادة الجيش غير صحيح، فاتفاق الاطار مُعلن ولا ينص على ذلك، أما إذا كان هناك من يُلمح إلى أن هناك اتفاقاً ضمنياً على هامش اتفاق الاطار للتفاوض على 860 كلم مربع، فهذا الأمر لا يرضى به كل من عمل على نص اتفاق الإطار، في كل مراحله.
هناك من يدعي أيضاً أن التفاوض على أساس 860 كلم مربع أفضل من التفاوض على أساس 2290 كلم مربع، أي بين الخط الاسرائيلي الذي ينتهي بالنقطة رقم 1 والخط اللبناني الجديد (القديم) الذي ينتهي بالنقطة 29 (بدل النقطة 23) ويسترجع مساحة 1430 كلم مربع من المياه اللبنانية بالاضافة الى مساحة 860 كلم مربع (مساحة 2290 كلم مربع موضحة على الخريطة أدناه = 860+1430). هذه البدعة تنافي أبسط قواعد التفاوض، فجميع دول العالم التي فاوضت على حدودها البحرية أو رفعت ملفاتها الى المحاكم الدولية كانت تطالب بالحد الأقصى ومن ثم التوصل الى حل منصف على اساس قانون البحار لا سيما المادة 74 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وهذه قاعدة عامة لم تستثن أي دولة في العالم، فكيف يرضى لبنان ببدء التفاوض على أساس 860 كلم مربع ولديه خط قانوني يزيد مساحة 1430 كلم مربع بحيث تصبح مساحة التفاوض 2290 كلم مربع. وهل يُعقل أن يقال أنه لا يُمكن المطالبة بـ 1430 كلم مربع ومن ثم التنازل، ويصح القول أنه يمكن التفاوض على 860 كلم مربع ومن ثم التنازل.
أين تكمن القطبة المخفية؟
إن الخط الذي يُطالب به لبنان اليوم خلال المفاوضات والذي يُعيد مساحة 1430 كلم مربع الى المياه اللبنانية، ليس بخط جديد كما يردد البعض أو يعتبره بدعة، فهذا الخط أعده المكتب الهيدروغرافي البريطاني (UKHO) بناء على طلب من الحكومة اللبنانية وذلك قبل صدور المرسوم رقم 6433 في العام 2011، ولكن للأسف هذا الخط وضع في الجارور ولم يُعرض على مجلس الوزراء صاحب القرار، حيث تمّ عرض خط وحيد أي الخط الذي ينتهي بالنقطة 23 وصدر المرسوم الذي يُعمل اليوم على تعديله. فلو تم عرض تقرير (UKHO) على مجلس الوزراء بدلاً من وضعه في الجارور لكان موضوع الحدود البحرية قد حُل منذ زمن بعيد، ولكان حقل كاريش الذي يُنقب العدو فيه عن النفط والغاز ملك لبنان. فمن هي الجهة التي لم تعرضه على مجلس الوزراء؟
في الأشهر الماضية، تم توجيه كتب عدة الى رئاسة مجلس الوزراء، أكدت علی حق لبنان بمساحات بحرية أوسع بكثير من تلك التي أودعها لبنان الأمم المتحدة في العام 2011 دون ان يؤدي ذلك الی عرضها على مجلس الوزراء قبل استقالة حكومة حسان دياب لاتخاذ القرارات المناسبة. من بين هذه الكتب والمراسلات، كتاب تمّ توجيهه من قبل قيادة الجيش عبر وزارة الدفاع الوطني الى مجلس الوزراء بتاريخ ١٢\٤\٢٠١٩، وذلك إثر مباشرة العدو الاسرائيلي بالتنقيب عن النفط والغاز في حقل كاريش القريب من الحدود البحرية اللبنانية، وكان هدف هذا الكتاب هو إطلاع السلطات السياسية على الموضوع ودعوتها إلى أخذ الاجراءات اللازمة ليصار الى وقف كافة الانشطة البترولية في هذا الحقل، مع التأكيد على أنه يمكن للبنان تعيين حدوده البحرية الجنوبية بالاستناد الى القوانين والأعراف الدولية بشكل يعطيه مساحات اضافية جنوب الخط المعلن بموجب المرسوم رقم ٦٤٣٣\٢٠١١، بحيث يصبح جزء من حقل كاريش ضمن المياه اللبنانية مما يعطي الحكومة اللبنانية هامشاً اوسع في التفاوض بشأن هذه الحدود.
بعد ذلك تمّ الانتهاء من تحضير ملف متكامل من قبل قيادة الجيش حول الحدود البحرية اللبنانية، وتمّ ارساله الى مجلس الوزراء بموجب كتاب رسمي صادر عن وزير الدفاع الوطني في حينه الياس بو صعب بتاريخ ٢٧\١٢\٢٠١٩، وتّم التاكيد عليه بموجب كتاب صادر عن نائب رئيس الحكومة وزيرة الدفاع الوطني زينة عكر بتاريخ ٩\٣\٢٠٢٠، حيث اكدت قيادة الجيش مجدداً على موضوع أحقية لبنان بمساحات مائية إضافية جنوباً وعلى وجوب التواصل مجدداً مع المكتب الهيدروغرافي البريطاني (UKHO) وذلك بغية تعديل المرسوم رقم ٦٤٣٣\٢٠١١ المتعلق بتحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للحصول على تلك المساحة الاضافية التي تصل الى حدود ١٤٣٠ كلم مربع، وقد أرفق بهذا الكتاب ملف كامل مع قرص مدمج يتعلق بهذا الشأن والذي تضمن كافة الخيارات المتاحة أمام الحكومة اللبنانية في موضوع ترسيم حدودها البحرية خاصة بعد اجراء المسح الهيدروغرافي من قبل مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش والحصول على معطيات وبيانات أكثر دقة تسمح بتعديل المرسوم المذكور أعلاه بالاستناد الى المادة الثالثة منه. وقد ارسل هذا الملف مع القرص المدمج الى مجلس الوزراء لاتخاذ القرار المناسب بشانه.
وقد تبين أن كافة الكتب والمراسلات المذكورة أعلاه لم يتم معالجتها من قبل مجلس الوزراء، حيث لم يتم عرض هذه الكتب على أي جلسة ليصار الى مناقشتها واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها، بل كانت هذه الكتب تقف عند عتبة مكتب الأمين العام لمجلس الوزراء في السراي الكبير، ويتم احالتها من وزارة الى أخرى دون نتيجة، حتى تسنى للعدو الاسرائيلي المباشرة في التنقيب عن النفط والغاز في حقل كاريش من دون أي اعتراض من الجانب اللبناني.
وينص الكتاب على تعديل المرسوم وإرساله إلى الأمم المتحدة وفق الصيغة الآتية:
“المادة الأولى: تُعدّل الحدود الجنوبية والجنوبية الغربية للمناطق البحرية اللبنانية التي عيّنت بموجب المرسوم رقم 6433 تاريخ 10/1/ 2011، وفق لوائح إحداثيات النقاط الجغرافية المبينة في الملحق (ملحق أ) المرفق ربطاً والموضحة باللون الأحمر على الخريطة البحرية الدولية الصادرة عن الأدميرالية البريطانية رقم 183 (رأس التين إلى إسكندرونة)، بمقياس رقم 1: 1.100.000 المرفقة بهذا الرسم (ملحق ب).
المادة الثانية: يمكن مراجعة الحدود الجنوبية والجنوبية الغربية للمناطق البحرية اللبنانية وبالتالي تعديل لوائح إحداثياتها وفقاً للحاجة وحينما تقتضي مصلحة لبنان ذلك.
المادة الثالثة: يُكلف وزير الخارجية والمغتربين بإتخاذ الإجراءات اللازمة لإبلاغ كافة الجهات المعنية لا سيما منها الدوائر المختصة في الأمم المتحدة.
المادة الرابعة: يعمل بهذا المرسوم فور نشره في الجريدة الرسمية“.
لذلك، يمكن القول إن الدولة اللبنانية لم تعد تملك ترف الوقت في بت موضوع الحدود البحرية وتعديل المرسوم رقم 6433/2011 وفقا للملف المحال من وزارة الدفاع منذ نهاية العام 2019 الى مجلس الوزراء، ولذلك، وجب لفت انتباه جميع المسؤولين في الدولة الى الآتي:
- بدأ العدو الاسرائيلي بإجراءات تلزيم البلوك ٧٢ المتاخم للمنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان مما يحتّم علی لبنان التحرك بغية افشال دورة التراخيص الإسرائيلية. فمن شأن بداية أعمال التنقيب والاستكشاف في هذه الرقعة، تعريض ثروة لبنان النفطية والغازية للخطر، نظراً لاحتمال وضع إسرائيل اليد علی المكامن المشتركة أو تجفيف المكامن اللبنانية الصرفة عن طريق التنقيب الافقي. إذا قام لبنان بتعديل حدوده البحرية الجنوبية بحسب الطريقة المقترحة، يصبح ٩٥٪ من البلوك ٧٢ واقعاً ضمن المياه اللبنانية، مما سيؤدي حتماً الی ثني الشركات النفطية عن التقدّم بعروض لتطوير هذه الرقعة.
- ستنطلق أعمال الاستخراج من حقل كاريش المتاخم للمنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان في نهاية العام الحالي. ومن شأن تعديل الحدود اللبنانية البحرية الجنوبية تحويل حقل كاريش الی حقل متنازع عليه مما يتيح للبنان طلب تجميد الأعمال فيه الی حين حل النزاع الحدودي. الا أن القانون الدولي قد استثنى من هذه القاعدة الحقول والآبار التي تمّ بدء الاستخراج منها نظراً للعواقب المادية الهائلة لهكذا خطوة وأثرها علی البيئة البحرية، والمثال على ذلك (غانا/ ساحل العاج، المحكمة الدولية لقانون البحار، ٢٠١٥). لذا، علی لبنان التحرك قبل بدء أعمال الاستخراج بغية التمكن من ايقافها والضغط بذلك علی العدو الإسرائيلي الذي سيضطر حينئذ إلى تليين موقفه من مسألة ترسيم حدوده مع لبنان.
على المسؤولين اللبنانيين أن يتعلموا من كارثة مرفأ بيروت وأن يستبقوا الأمور ويتخذوا القرارات اللازمة في الوقت المناسب، وليس بعد فوات الأوان.
نشر في الموقع ١٨٠
رابط مختصر –https://arabsaustralia.com/?p=13595