مجلة عرب أستراليا سدني – هرولة
بقلم الدكتور رغيد النحّاس
عندما أنهيت تخصّصي، وعدت إلى دمشق بدرجة الدكتوراة في العلوم، كان عليّ أن التحق بالخدمة العسكريّة التي كانت مؤجّلة لحين انتهاء الدراسة.
كان حملة الدكتوراة والأطباء وأطباء الأسنان والصيادلة يشتركون في كتيبة واحدة. وأذكر أنّ كتيبتنا ضمّت حوالي ثلاثمئة نفر، لا يزيد حملة الدكتوراة بينهم عن ستة عشر.
وحملة الدكتوراة هم الأكبر سنّاً بين أفراد الكتيبة، نظراً لأنّ الدكتوراة لا يتمّ التحضير لها إلاّ بعد إنهاء الدراسات العليا الأخرى. أي أنّني كنت واحداً ممّن هم أكبر سنّاً.
كنت إلى ذلك الحين لا أمارس رياضة منتظمة، وليس لي في اللياقة البدنيّة والقوّة الجسديّة لا ناقة ولا جمل.
التحقت بالمدرسة العسكريّة في مدينة حلب، وتمّ في اليوم الأول استقبالنا من قبل حلاّق المدرسة الذي قضى على كلّ شعرة من شعرات رأسنا. ثم سلّمونا ملابسنا العسكريّة، ووزّعونا على مهاجع يتسع كلّ واحد منها لخمسين فرداً، يشترك كلّ فردين في سرير مزدوج: سفلي وعلوي. ولحسن حظّي أنّني كنت في سرير سفلي، فلم أكن على رغبة في بهلوانيّات التسلّق.
وعلى الرغم من أنّ الأوامر جاءت أنّ النوم هو عند الساعة العاشرة مساء، وأنّ الأضواء إن تركت ستكون عاقبتنا وخيمة، بقي المهجع ساهراً حتّى منتصف الليل. كلّ فرد في سريره، ولكنّ عدّة محاورات أخذت دورها، رغم أنّ الناس لا تعرف بعضها، فمثلاً بدأ أحدهم بالصياح: “في حدا من الضيعة الفلانيّة؟” ردّ عليه اثنان بالإيجاب، وبدأت رحلة التعارف.
خلدت بعدها إلى النوم بعد يوم متعب، ولكن حين دوّى في المهجع صريخ أحد المسؤولين عنّا، اعتقدت أنّي نمت قبل خمس دقائق فقط. كانت الساعة لم تصل الخامسة صباحاً. أمرنا الرقيب بالحضور خلال ربع ساعة إلى الساحة العامّة بملابسنا الرياضيه
كانت تلك أوّل ما واجهت من مفاجآت، لأنّ ما قيل لنا سابقاً هو أنّ اجتماع اليوم التالي هو الثامنة صباحاً. الرسالة واضحة. هذه عسكريّة، وليس لنا سوى الخضوع للأوامر. امتثلنا طبعاً، واجتمعت الكتيبة كلّها في الساحة. صدرت الأوامر بالهرولة، وانطلق الجمع أماماً في وجهة نعلم بدايتها ولا نعلم نهايتها. كان علينا أن نتبع سيارة جيب تسبقنا وتتوقّف، تسبقنا وتتوقّف … وفي المؤخّرة بعض الرقباء يتأكّدون أنّ أحداً لن يغادر.
أنا الذي لم يهرول مئة متر في حياته حتّى ذلك الحين، كان الآن يشارك في “ماراثون” يغطّي عدّة كيلومترات. طبعاً بدأ بعضهم بالسقوط إلى جانب الطريق تعباً، وما أن يسقط أحدهم حتّى تنهال عليه شتائم الرقيب، وأهمّها تعييره بأنّه “حرمة”، وحثّه على المواصلة.
لم أكن أعرف متى سيكون سقوطي. لكنّني صمّمت أنّه إذا لم أستفد شيئاً من دورة العسكريّة هذه، فعلى الأقلّ أحسّن أدائي الرياضيّ.
حين انتهى المسير كنت أنا بين الخمسة في المؤخّرة. على الأقلّ لم اسقط. واجهت بقية ذلك اليوم بالدروس والتدريبات، وألم شديد في عضلات السيقان.
فكّرت أنّه حتّى أكون واقعيّاً، ربّما يمكنني تحسين أدائي لأكون بين آخر خمسين من أصل ثلاثمئة. علّمت نفسي كيف أنظّم حركتي وتنفّسي، فلم يكن هناك من يعلّمنا ذلك. يقولون اركض، يجب أن تركض.
مع انطلاقي كلّ صباح قرّرت أن ترافقني بعض الكلمات التي تكون لي عوناً على حسن الأداء، ليس في تحمّل المشقة فقط، بل تحويلها إلى فائدة. كنت دائماً أفكّر بزوجتي وابنتيّ. ولهذا بدأت حين الهرولة أردّد مع كل خبطة قدم:
نجاة، عزّة، جمانة: حبّ، حياة، أمانة / نجاة، عزّة، جمانة: حبّ، حياة، أمانة / ….
التأثير كان سحريّاً. صارت الهرولة متعة، ومع كل يوم كنت أحسّ بروعة الإنجاز مهما كان بسيطاً.
في آخر مسيرة من هذا النوع، كنت أنا بين العشرة الأوائل. هنّأت نفسي وقدّمت لها الجائزة الكبرى: ابتسمتُ فتجلّت لي صور تلك القدرات التي رافقت عزمي وإصراري: ثلاثةٌ من أجمل نساء العالم.
بعد انتهاء الدورة العسكريّة وعودتي للحياة العاديّة، تابعت رياضة الهرولة لسنين عديدة، ثم عدلت عنها إلى المشي الجادّ، بالأضافة للسباحة وتمارين أخرى لا زلت أمارسها بشكل يومي.
رابط مختصر –https://arabsaustralia.com/?p=16146