مجلة عرب أستراليا سيدني – التعمشق على أكتاف العظماء
بقلم الدكتور رغيد النحّاس
أنا عضو في مركز كتّاب الولاية عندنا، وتصلني منهم معلومات بشكل مستمر حول مختلف النشاطات.
منذ سنوات، وقبل نشر مجموعتي الشعريّة الأولى باللغتين الإنكليزيّة والعربيّة، كنت حريصًا على أنْ تتمّ مراجعتها من قبل شعراء مختصّين. وحين تلقّيت دعوة من مركز الكتّاب للمشاركة في دورة لتقييم الأعمال الشعريّة، وجدتها فرصة عظيمة لكسب الرأي والخبرة حول هذا الموضوع.
الذي يدير الدورة هو واحد من شعراء أستراليا البارزين. دفعت الرسم المطلوب، وأرسلت لهم، قبل شهرين من اليوم المحدّد، عشر قصائد من أعمالي وهو الحدّ الأقصى المقبول. القصائد تذهب إلى الشاعر فيدرسها، ثم يلتقي مع من تقدّم بها للمناقشة.
ذهبت في الوقت المحدّد المخصّص لي، والتقيت بالشاعر.
كانت بين يديه نسخة مطبوعة عن قصائدي، وانتبهت أنّ عليها بالحبر الأحمر ثلاث ملاحظات فقط، أطولها ثلاث كلمات. تناقشنا في بعض القصائد، ووصلنا إلى واحدة اعتَبَرَها كلّ من قرأها أنّها أهم عمل قدّمته إلى حينه. لكنّ صاحبنا قال لي إنّها أقلّ القصائد جودة، وأشار،بطريقة تهكّميّة، إلى الإهداء الذي وضعته بعد العنوان.
العنوان كان شبيهًا بعنوان واحدة من أهم القصائد التي عرفها الأدب الإنكليزي لواحد من أهمّ الشعراء. وأنا أردت أنْ أكون أمينًا، وأنْ أبدي احترامي ومحبّتي لهذا الشاعر، الذي لا أرقى إلى مستواه الشعريّ طبعًا، بأنْ أؤكّد على مصدر العنوان.
سارعت إلى القول إنّني على استعداد لحذف هذا الإهداء إذا كان هو سبب المشكلة. عندها قال لي الشاعر:”إذا كان الأمر كذلك، فهذه أفضل قصائدك، وهي رائعة حتمًا.”
تعجّبت كثيرًا، ولكن من الواضح أنّه مهما كانت النيّة، هذا الإهداء، بهذه الطريقة، وفي هذا الموقع، لم يكن مناسبًا من وجهة نظر “أنكلوساكسونيّة”. بيد أنّ عجبي كان بسبب أنّه كان يمكن للشاعر أنْ يلفت نظري إلى مشكلة الإهداء دون أنْ يعتبر القصيدة سيئة بسسببه، ثم تصبح القصيدة جيّدة بدونه.
دفعني هذا للتأمّل في البون الشاسع بين التفكير الغربيّ والشرقيّ، بشكل عامّ طبعًا. ففي الوسط الثقافيّ الغربيّ هناك ميل للتواضع وعدم إبراز النفس بأكثر ممّا هي عليه، وتجنّبٍ كبيرٍ للمبالغات. لذلك اعتبر هذا الشاعر أنّ محاولتي قد تكون بهدف التزلّف، أو أنّها مبالغة لا مبرّر لها. مع العلم أنّ الأمر لم يكن كذلك مطلقًا، ولا يرد هذا في أعمالي عادة سوى عند الضرورة الملحّة. ولكنْ كيف له التأكّد من أنّني أشذّ عن القاعدة، وهو يرى العشرات ممن يكتب يستعمل هذه الأساليب الرخيصة بغية إبراز النفس على حساب العظماء؟
دفعتني هذه الحادثة لزيادة تمعّني في أساليب الناس. مثلًايميل البعض، خصوصًا كما يكثر على صفحات فيسبوك، إلى إهداء كلامهم، أو أعمالهم، أو مواد مثل الصور أو الأغاني إلى مشهورين، وأحيانًا يشيرون إليهم بـ”صديقي العزيز”، لمجرّد الصداقة على فيسبوك، أو اللقاء مرّة واحدة، أو حضور ندوة أو حفلة يتواجدون فيها، ويلتقطون معهم صورًا تذكاريّة يستعملونها كتأكيد على العلاقة التي تبدأ وتنتهي بمجرّد التقاط الصورة. وكلنا نعلم أنّ أيّ مشهور قد لا يمانع من التقاط الصور مع “المعجبين”، من باب اللياقة والمصلحة، رغم أنّه لا يعرف من هم، ولن تكون له معهم أيّ صلة.
الأخطر من هذا بعض من يراسل المشاهير، مثلًا “شويعر” يرسل مجموعة شعرية من تأليفه كإهداء إلى شاعر مشهور،وحين يأتيه الردّ اللبق، والذي من الواضح أنّه ليس استحسانًا للعمل، بل تخلّص من المعضلة لأنّ من غير المألوف أن يردّ عليه أنّ عمله لا يرقى إلى الشعر مثلًا، وهو أصلًا لم يطلب النقد. لكنّ صاحبنا يستغل مجرّد حصوله على أيّ رد من شاعر كبير ليطبّل الدنيا على أنّه على علاقة وثيقة معه، ويدّعي صداقته، وأنّه يزكّي شعره.
طبعًا هناك من يفعل ذلك ويكون صديقًا فعليًّا للشخص المعنيّ، ولكنْ حسب ردّة فعل الشاعر الأسترالي أعلاه، هل يليق بنا القيام بذلك؟ أعتقد أنّ الأمور مرهونة بأوقاتها وظروفها. المهمّ عدم الابتذال. مثلًاتصل هذه الأمور لدرجة المرض برأيي، وهي واضحة لدى البعض من أصحاب الثقافة العربيّة.
مثلاً تذهلني وتضحكني تلك المنشورات التي تعود للشخص نفسه/ها حين يذكر بين كلّ جملة وأخرى أقوال رسوله الكريم، وفضائل دينه العظيم، ليدعم حجّته أو يبيّن أنّه وعقيدته على حقّ في كلّ شيء على الإطلاق: سواء أكانت تلك الحرائق التي تلتهم الغابات، أو الأمطار التي تطفئها، ثم تغرق البلاد والعباد. ثم في مناشير أخرى يكيل السبّ والشتيمة على مؤمنين آخرين لمجرّد أنّهم من غير مذهب، أو لأنّهم يناضلون في حماية وطنهم ولكنّه يختلف معهم في الرأي، ويفضل التحالف مع من يغزو بلاده حتّى لو كان لا يمتّ إلى الدين والخلق بصلة.
ويتمّ “التعمشق” ليس فقط على أكتاف العظماء، بل على كلّ ما يمكن التعمشق عليه. مثلًا كما تتصرّف تلك المؤمنة المتديّنة التي لا تفتأ تصوّر نفسها في حركات استعراضيّة فيها من الدلال والغنج ما يجلب الأنظار ويستفزّ الغرائز.وهذه الصبيّة التي تشارك في ثورة بلادها، ولكن مع كلّ منشور لا بدّ أنْ تبرز قوامها وساقيها المكشوفتين في مقدّمة للحديث عن تلك الثورة الرائعة.
المتمكّن المتصالح مع نفسه، الذي يقدّم مادّة راقية، ليس بحاجة للتعمشق على كتف أحد، ولا على إبراز مفاتن الجسد للترويج لعمل فكريّ أدبيّ.
يستثنى من ذلك الترويج للدعارة طبعًا.
رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=17780