مجلة عرب أستراليا سيدني
شُذَيْرات من شذرات مغرمٍ بالتحدّي- قراءة سريعة في كتاب بول طبر “شذرات من سيرة ذاتيّة عاديّة” (منشورات IFPO، 2022)
بقلم الدكتور رغيد النحّاس
أنا مولود لأب دمشقيّ وأمّ لبنانيّة. وعلى هذا، ولأنّني كنت أزور لبنان للاصطياف وزيارة بيت الجّد والجدّة مرّتين في السنة، ولأنّني عشقت بيروت وصيدا وبرمانا وكيفون وغيرها، ولأنّني عشت لمدّة ست سنوات في بيروت التي تعلّمت في جامعتها الأميركيّة، وتعرّفت إلى صديقين من آل الدويهي ومعوّض من زغرتا، كما قمت بترجمة كتاب البروفسور خالد زيادة “يوم الجمعة، يوم الأحد …” وهو عن الحياة في مدينة طرابلس، أقول: أنا لبنانيّ بامتياز.
هذا ما جعل استمتاعي بقراءة شذرات بول استمتاعًا مضاعفًا لأنّه استمتاع المشاعر المستندة إلى المعرفة الحسيّة. يضاف إلى ذلك أنّ الكتاب سلس ينساب كالنسيم الرقيق بكلّ ما يحمله من معاناة وحماس وفرح.
سأركّز هنا على مفهوم التحدّي كما نراه من الكتاب وكما أفسّره. وسأقتصر على أمثلة قليلة.
أن يصف الكاتب شذراته من سيرته الذاتيّة على أنّها “عاديّة” هو قوّة كبيرة لأنّها بذلك تتآخى مع سيّر كثيرين، وهذا ليس غريبًا على من يملك نزعة يساريّة الهوى. هذا لا يعني أنّها لا تملك خصوصيّاتها أو ميّزاتها غير العاديّة.
من الواضح جدًّا، وممّا جاء في خاتمة مقدّمته هو لكتابه، أنّ هذا الكتاب كان متعة كبيرة له فيقول:”… سر هذه المتعة هو أن ما كتبته قد حرّرني في النهاية من عبء الإبقاء عليه مسجونًا في داخلي.”
شذرات كلمة مناسبة لكتاب يحوي مختارات من سيرة كاملة، وفيها دلالات جميلة. فشذور أو شذرات الذهب هي القطع الملتقطة من معدنه.
ومن أوجه هذه الكلمة “الشذْرة” وهي حبّة اللؤلؤ الصغيرة، وعندها يكون الجمع “الشَّذْرُ”.
يخبرنا الكاتب أنّ من أسباب حماسه لتأليف هذا الكتاب هو تحدٍ وضعه على نفسه أن يستخدم المنظور السوسيولوجي المتكوّن لديه، بطبيعة اختصاصه، في الكلام عن حياته الشخصيّة. وعلى كلّ حال هل نستغرب أنّ ابن زغرتا يريد التحدّي؟
الحدّة الزغرتاويّة المترسّبة في ذهنيّة بول جعلته يتصرف بطريقة فاجأتني. هاهو يتخلّى عن رغبته في متابعة التحصيل العلميّ ليصبح مهندسًا كهربائيًا، ويتحوّل إلى الأدبيّ، لبرنامج الثانويّة العامّة، لمجرّد أن لهجة الأستاذ في البرنامج العلميّ كانت عصيّة على بول.
لكن أعتقد أنّ هناك أكثر من تحدّ واحد ساهم في صقل هذا الكتاب. ولعلّ أهمّها كان “أبو بيار”، والد بول. هذا التحدّي يعيش اسمه على مسمّاه إلى أبعد الحدود، أو يمكن أن نسمّيه تحدٍّ بامتياز “بار إكسلانس”.
أبو بيار يشكّل التناقض الفكريّ المستمرّ الذي يؤمّن الوقود اللازم لاستمرار الحيويّة في هذه السيرة. وهذا من العوامل التي بقدر ما كانت صعبة المراس بتحدّيها الخاصّ، بقدر ما سهّلت رواية بول بما وفّرته من مادّة للبحث والكتابة.
ولا شكّ أنّ من أهمّ عناصر الدخول في هذا التحدّي، الذي هو هنا تحدٍّ للذات، شجاعة الكاتب في التطرّق لعلاقته بوالده والتحدّث عنه صراحة، وكذلك عن جدّه “النسونجي” كما وصفه.
التحدّي الذي يواجهه بول مع أبيه هو تحدّ فكريّ اجتماعيّ سياسيّ، ويدخل في صميم اختصاص بول. يخبرنا بول عن نقاشاته السياسيّة مع أبيه، وعن استغرابه أن يظلّ يدعم حزبًا يمينيًّا وطائفيًّا مثل حزب الكتائب في لبنان، وتحالف حزب الأحرار مع الحزب الوطنيّ اليمينيّ في أستراليا، على الرغم من دخله المحدود كحرفيّ في لبنان وانضمامه إلى صفوف الطبقة الكادحة في السنوات العشرين الأخيرة من حياته في سوق العمل.
يتّضح مفهوم التحدّي للجميع، برأيي، حين يحمل حركيّة الهجوم، أو طابع المأساة، أكثر ممّا يتّضح حين يكون في ظاهره ناعمًا. بعبارة أخرى، في الصراع مع “الشياطين” تعرف أين تضرب ومتى تنسحب. أمّا الصراع مع “الملائكة” يكون الحبّ فيه سلاحك الوحيد. ويكون همك أن تجعله عقلانيًّا فاعلًا. ولعلّ علاقة بول بوالدته ليندا مثال على ذلك.
يقول: “تعاطفي مع والدتي خلال نشأتي… جعلني أيضًا أكتسب تدريجيًّا هذه النزعة في شخصيّتها نحو التحليل والتساؤل، والتي تحوّلت مع الزمن إلى ملكة في قدراتي الإدراكيّة. عدم الاكتفاء بالصّفة التقريريّة للكلام(والمعرفة لاحقًا)، وميولي الذاتيّة للتحليل والسعي لفهم‘منطق الأمور‘، غير المنظور، جعلني “أنجذب‘ إلى الأساتذة الذين يعتمدون أسلوب الشرح والتعليل، وربّما دفعني لاحقًا في الجامعة لدراسة الفلسفة والتخصّص في علم الاجتماع.”
هذا استنتاج هامّ يبيّن أنّ بول طوّع حبّه فكسب رضا والدته من ناحية، وتلقّى ما ارتد إليه من حب مقرون بعقلانيّة. وهذا دليل على مثابرته على اكتناه لبّ الأمور في أوقاتها.
الحبّ الحقيقيّ هو ما اجتمع فيه المادّي والنفسيّ .
ولعلّ من أهمّ التحدّيات زواجُه، وهو المارونيّ، من رجاء الشيعيّة. ولقد أتت معارضة أهله وأهلها لهذا الزواج، تجسيدًا لما أشار إليه بول بـ”الطائفيّة الاجتماعيّة”.
قد لا نتعجّب من تصرّف أهل بول المنتمين إلى “المارونيّة السياسيّة” كما يصفهم بول، لكنّ العجيب هو تصرف أهل رجاء الذين قال فيهم بول: “أمّا عائلة رجاء النواتيّة والممتدّة، فكانت منتسبة بالجملة للحزب الشيوعيّ.” والمفاجئ هو تصريح بول التالي: “من جهة أخ رجاء الذي كان صديقًا لي، ومناصرًا لفرع منظمة العمل التي كنت منتسبًا إليها في سيدني، فقد قرّر منذ سماعه بنيّتي الزواج من أخته أن يبتعد عنّ ي وينهي علاقته معي بالكامل ومع جميع ‘الرفاق‘ الذين كان على اتصال بهم”.
يضيف بول: “قرار الزواج من امرأة من طائفة مغايرة هو تحدٍ لمصداقيّة مبادئي الشيوعيّة … زواجي من رجاء كان بهذا المعنى اختبارًا ‘شخصيًّا‘ لمصداقيّة المبادئ التي كنت أدافع عنها.”
والواضح أنّ التحدّيات رافقته منذ صغره. وكلّ مشروع يعزم بول عليه، يترافق بتحدّيات مضاعفة. ها هو في الخامسة عشرة من العمر صار يذهب إلى وسط المدينة بمفرده أو بصحبة بعض الرفاق. وكانت الإمكانيّات الماديّة المحدودة تشكل التحدّيات القاسيّة لهذا الشاب لما تسبّبه من حرمان أو شقاء.
حين وصل بول إلى أستراليا خاض التجربة البروليتاريّة بمعناها الكلاسيكيّ. كان يقوم بالعمل اليدويّ لمدّة ثماني ساعات يوميًّا، وبأجر يقلّ عن المألوف، وفي ظروف صحيّة سيئة.
يتحدّث عن اتجاهاته اليساريّة ودفاعه عن القضيّة الفلسطينيّة لدرجة أنّ البعض صار يعتبره لا يستحقّ أن يكون لبنانيًّا. كما واجه تحدّيات كبيرة حين أسّس فرعًا لمنظمة العمل الشيوعي في أستراليا.
أمّا التحدّي الأزلي له، يمكن أن يتلخّص في قوله: “يبدو لي أنّني متمسّك بالماضي تمسّك الأم بولدها الرضيع. ويبدو أنّني محكوم بالزمن الذي عشته قبل مغادرتي للبنان، ولا أريد أن أتفلّت من قيوده التي تصوغ زمن ما بعد العودة إلى وطني لبنان.” “وبدا لي لسنوات عديدة من وجودي في أستراليا أنّني عندما هاجرت من لبنان قد هاجر معي لبنان الذي عشت فيه سبعة عشر عامًا.”
إذن الوطن ملحّ جدًا في كيان بول، تمتدّ آثاره إلى تكوين بول في كلّ مظاهره. يقول بول:”… أنا على يقين الآن من أنّ آثار النشأة والموقع الطبقيّ الذي أتحدّر منه، إضافة إلى المسار المهنيّ الذي سلكتُه بعد انتقالي إلى أستراليا، قد ترك بصماته على تكويني الأكاديميّ الراهن.”
أعتقد أنّ التقييم الذاتي هو أهمّ أنواع التحدّي وأنبله. يقول بول: “لا بدّ من الاعتراف أنّ انبهاري وتحزّبي لماركس والمفكرين الماركسيّ ين كان له ثمنًا باهظًا إذ أدّى إلى عدم إيلائي الاهتمام الكافي، لا بل الاستخفاف، بكلّ ما يناقض الماركسيّة أو ليس له علاقة بها. أدركت ذلك جيّدًا عندما تخرّجت وبدأت مهنة التعليم الجامعيّ. وينطبق هذا القول أيضًا على طريقتي في التعاطي مع الموادّ التي درّستُها في مجال الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع.”
أسألك يا بول، وأنا مطمئنّ أنّ الصديق الراحل جون بشارة، الذي جعلك تترك أفكار أنطون سعادة إلى الشيوعيّة، لن يسمع سؤالي: “تُرى هل جاء الوقت يا بول لتعيد قراءة المحاضرات العشر؟”
رغيد النحّاس سيدني، أستراليا ،19 حزيران 2023
رابط مختصر-https://arabsaustralia.com/?p=29777