مجلة عرب أستراليا سدني -محللو السياسة على القنوات التلفزيونية بين المهنية والارتزاق…
بقلم الدكتور خالد ممدوح العزي
بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية ما بين روسيا والناتو، باتت تتحفنا يومنا تحليلات “محللين” من هنا وهناك، لمن يدعون الخبرة في الأزمة الأوكرانية والاطلاع على تفاصيلها ومعرفة الخطط الاستراتيجية.
وتحاول القنوات العربية إظهار هذه الأسماء في إطار تحليلها للأخبار والأحداث، حيث يتم رسم سيناريوهات من كل حدب وصوب، وكأنك تقف أمام عباقرة التحليل الاستراتيجي، فريد زكريا، وليد فارس، زبغنيو بريجنسكي، صموئيل هنتنغتون، فرانسيس فوكوياما.. وكي لا ننسى أيضا ظهور الجنرالات المحللين العسكريين، وكأنهم جميعهم من خريجي مدرسة بطريرك الدبلوماسية السياسية الاممريكية هنري كيسنجر.
التحليل السياسي هو فهم وإدراك فكري وعلمي عميق الجذور في أصول الممارسة السياسية، ويشمل ذلك الأيديولوجيات وعقائدها ومصالح أطرافها، كما يهتم بمخرجات السياسة وأهدافها، وهو نوع من التفكير الإستراتيجي الذي يهتم بمعرفة طبيعة الأحداث وأسبابها ومساراتها والدوافع المسؤولة عن وقوعها، إضافةً إلى تطوراتها، كما يحرص على معرفة الشواهد التاريخية، من أجل الفهم العميق لمجريات الأزمات والأحداث الجسيمة، وهو أخيرا يهتم بتنمية المقدرة على التنبؤ بالمسارات المستقبلية للأمور وما يترتب عليها من نتائج، كما يقدم النصائح والتوصيات في ظل هذه النتائج. فالمشكلة لا تنحصر في حدود الأزمة الأوكرانية، بل يتعدى ذلك إلى حدود كل الأزمات العالمية، لذلك لا يمكن لأي محلل أن يكون منجما، إذ تخطى بعض المحللين العرافة العمياء البلغارية فانغيليا بانديفا غوشتيروفا التي عرفت باسم “فانغا”.
كثير من المحللين يظهرون إعلاميا في كل وقت وعند كل حادثة، وينقلون حديث الشارع، ولكن لا يمكن أن يكون التحليل السياسي علميا، إلا إذا كان مبنيا على أسس يعرفها المتخصصين فيه، سواء كانوا من السياسيين أو الباحثين والخبراء.
وعلى سيرة الأزمة الأوكرانية التي اندلعت بثورة جديدة في العام 2013، تواصلت مع صديقي الناطق الإعلامي للرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش، الكسندر لاتي، الذي تعرفت عليه أثناء دراسته في كلية الإعلام في سانت بطرسبورغ، وبقيت بيننا علاقة زمالة إعلامية، وقد تجددت اتصالاتنا بواسطة صديقي الفلسطيني المقيم في أوكرانيا، لكن الملفت يومها أن كل العرب المتواجدين على الأراضي الأوكرانية أصبحوا محللين سياسيين، أطباء، عمال، بائعون، مهندسون، لاجئون.
وأثناء التواصل والسؤال عما يجري في أوكرانيا، لفت نظري إلى مسألة المحللين العرب الذي باتوا كلهم يفقهون بالأزمة الأوكرانية، من المقيمين في أوكرانيا أو خارجها، وأتمنى لو يوجد في أوكرانيا خمسة أشخاص يعرفون طبيعة مشكلات الشرق ويحللون فيها، لكانت أوكرانيا في المراتب الاولى للمعرفة والتحليل وخاصة لأزمات الشرق الاوسط. في الأزمة الأولى وفي الأزمة الثانية، خرج علينا جهابذة التحليل السياسي والإعلامي والقانوني والخبراء الاستراتيجيين، الذين باتوا يعبون الفراغات الهوائية للمساحات المخصصة للتحليل في القنوات الفضائية العربية والناطقة بالعربية.
هذا الكم الهائل من المعلومات الواردة كل يوم في القنوات عن ملفات المنطقة بشكل خاصة والعالم بشكل عام، جعل الإنسان يضيع في متاهات الأحداث ويفقد بوصلة الاتجاه. ومن هنا تنبع الحاجة والضرورة لوجود أشخاص متخصصين من ذوي الكفاءة والخبرة يستطيعون تحليل الأحداث اليومية بصورة منضبطة وتصنيفها بشكل علمي رصين ليسهل على الناس، بمن فيهم صناع القرار، رصد وتوقع مآلاتها.. فهؤلاء يمكن القول عنهم محللون سياسيون. والمشكلة تكمن بمعدي البرنامج الذين يفتحون الهواء باستضافة أشخاص ليس لهم خبرة ولا معرفة لا في مجال المعلومات، ولا في إطار الخبرات التحليلية، فعندما تشاهد شخصيات على الهواء تتعجب من دعوتهم للتحليل. بالرغم من وجود معدين محترفين لا يمررون هكذا أخطاء، أو مثل هذه الهفوات والأخطاء التي تضر بالقناة وبسمعتها وهم متفانين في العطاء للقنوات لكنهم قلة قليلة.
إذن التحليل السياسي فنّ وعلم، وهو في عالمنا العربي ممارسة حديثة تتأرجح بها المصالح والأيديولوجيات خارج قواعدها الأساسيّة. وأعني بذلك أن مدرسة التحليل السياسي العربي التقليديّة نشأت في غالبها مشوّهة، كونها ترعرعت في جو مشاغبات التيارات وفي حضن الإعلام الرسمي المتوازي مع صوت وسوط السلطة، وبذلك افتقدنا في هذه المهنة للتأسيس العلمي والمهني الذي يرى التحليل السياسي خدمة معرفيّة مجتمعيّة ترتكز على النزاهة والأمانة العلميّة وغايتها الأساس تنوير أذهان الرأي العام حول الأحداث والمواقف المؤثرة في حاضرهم ومستقبلهم من خلال الاهتمام بالقواعد التالية:
1ــ على المحلل احترام التخصّص والخبرة والاستمرار ضمن الحديث المطلوب، فلكل موضوع سياسيّ فكر أساسي وتشعبات تحتاج إلى إدراك أبجدياتها العلميّة ومفاهيمها في التطبيقات السياسيّة.
2ــ لا يبنى التحليل السياسي على قدرات بلاغية ولغوية، لان المهارة اللغوية مهما كانت فريدة ستخذل المحلل، حين يتطلب الموقف تلخيصا لحدث.
3ــ المعلومات الحصريّة والمصادر الخاصة هي أغلى ما يملكه المحلّل السياسي وهي سلعته الثمينة في مهنته. فلا يمكن طرح الأفكار التي يعرفها العامة دون إضافات.
4ــ لا يجب وقوع المحلل في فخ النجومية فيدّعي شيئا غير حقيقي والمغامرة بمعلومة أو التلميح إلى توجّه سياسي معين.
5ــ لا بد من تعزّيز التحليل السياسي بالأرقام والوقائع والتأكد من لفظ الاسماء بطريقة صحيحة وربط الأحداث وتسلسل الأفكار حتى تصل مضامينها مكتملة.
6ــ يجب استخدام اللغة الهادئة والعبارات الادبية دون إزعاج الآخرين وكذلك يجب احترام المحاورين والمشاركين الضيوف. فالصراخ والشتيمة والانفعال لا علاقة له بالتحليل السياسي.
7ــ يجب المعرفة بأن الأزمات السياسيّة هي جزء من صراع الإرادات السياسيّة في عالم اليوم فلا الحماس سيكسر إرادة الغير أو يغيّر مسار القضية. لذا يجب التفرّيق بين التحليل السياسي للحدث والاجهار بموقف من القضية.
8ــ المحلّل السياسي الناجح هو القارئ للأحداث ثاقب النظر ومتابع مميز الاخبار. ومن هنا النجاح في تحليل الأحداث السياسيّة لن يتأتى إلا برصيد كبير من المعرفة وبعد النظر.
9-يجب التذكر أن السياسة تعني” فن الممكن” وهذا يعني أن لا مستحيل في السياسة لا داعي للأحكام المسبقة والانتباه الى أن التحليل هو فن توقع الاحتمالات واستشراف المستقبل.
10ــ الظهور المتكرر محرقة إعلاميّة علنيّة، فلا يجب الثرثرة والانتقال بذات البضاعة من محطة تلفزيونيّة لأخرى. التحليل السياسي هو مهنة توضيح الأمور للأحداث وتقديم خدمة مجتمعية معرفية مرتكزة أساسا على النزاهة والأمانة العلمية، وفقا لتوجهين لا يمكن الابتعاد عنهما: المعرفة العميقة والقدرة على الحصول على معلومات خاصة من صناع القرار ودمجها في سياقها العام. من خلال المراقبة الحثيثة للبرامج الإخبارية والحوارية بصفة اختصاصية لما يفرضه علينا اختصاصنا في تدريس الاعلام في الجامعة، يتبين ان هناك استضافات تجري لتنويع الاسماء او لاكتشاف شخصيات جديدة او استضافات شخصيات مختصة وخبيرة واستضافات للمنفعة المالية والشخصية نتيجة العلاقات الخاصة التي تكون على حساب المشاهد والقناة. ويمكن تبرير كل شيء لكن لا يمكن تبرير استضافة مراسلين في قناة معينة كونهم محللين في قناة اخرى، ولكن لا يمكن استضافة كاتب مقال او تحقيق ومناقشته بالموضوع كونه خبير بالوقت الذي لا يعرف كيف تم الاستناد للمعلومات او مصادرها، لا يمكن القبول باستضافة شخص يعمل في قناة يتواصل مع الضيوف ويرتب أوقاتهم بأنه محلل في قناة فضائية اخرى، كذلك لا يمكن ان تستمر الظاهرة البشعة بأن يستضيف صحفي زميله. ولا يمكن الاستعانة بمحلل سياسي على قناة بالوقت الذي يعتبر فيه إنه في الجهة المعادية للقناة لأنه سيحاول المزايدة على جمهور القناة، ولا يمكن استضافة طالب فاشل في دراسة ماجستير ليقدم على انه خبير ومحلل سياسي وهو يعمل في وكالة إخبارية.
لقد أصبح التحليل السياسي من ضروريات الحياة السياسية والإعلامية وصناع القرار، وحتى لعموم الناس من المهتمين بالشؤون العامة، وكذلك للمفكرين ورجال الفكر والدين والإعلاميين والصحافة والكتاب، فهو محرك عملية تشكيل الوعي الجماهيري والوقاية من الظواهر الخطيرة الزاحفة والأزمات السياسية.
رابط مختصر –https://arabsaustralia.com/?p=22049