مجلة عرب أستراليا سيدني- الهجمات الميليشيوية مستمرة على التواجد الأميركي بقلم الدكتور خالد ممدوح العزي
بعد الإعلان الأخير عن انسحاب القوات الأميركية من قاعدة عين الأسد العراقية، بات التواجد الأميركي في سوريا في مرمى العاصفة، بالرغم من انحساره في مناطق محدّدة، حيث باتت القواعد في الشمال السوري تتعرّض لهجمات وقصف بالصواريخ منذ بداية الشهر الماضي.
صواريخ عدة انفجرت بالقرب من مواقع عسكرية أميركية شمال محافظة دير الزور، حيث شكل هذا الحادث استمراراً لسلسلة من الهجمات على مواقع أميركية. الحادثة الأخيرة في 5 كانون الأوّل التي تعرضت لها القواعد بالقرب من التنف، تُشكل بداية فعلية لمقارعة الاحتلال من قبل الحشود الولائية.
تشكل هذه البقعة في الشمال السوري مناطق نفوذ للقوات الكردية التي تعمل على تثبيت منطقة إدارة ذاتية وتنتشر فيها مفارز كردية، ويطلق عليها “روج افال أي” شمال شرق سوريا، والتي تشكل منطقة اقتصادية للدولة السورية تحاول روسيا والنظام وإيران السيطرة عليها مهما كلف الثمن.
بدأت الهجمات على المواقع الأميركية في شمال شرق سوريا تأخذ طابع الإنتقام من قبل هذه الميليشيات، لأن الهجمات الأخيرة على منطقة التنف كانت بمثابة رد مماثل من قبل الميليشيات الولائية الإيرانية المنتشرة في سوريا على ضربات الإسرائيليين المستمرة التي تستهدف الميليشيات وبنيتها التحتية. لكن الضربات تحمل في مضمونها رسالة إيرانية للتواجد الأميركي في سوريا.
تأتي هذه الهجمات الصاروخية على المواقع الأميركية في ظل حدوث عمليات عسكرية ينفذها سلاح الجو الإسرائيلي ضدّ الأهداف الميليشيوية المنتشرة في سوريا بشكل خاص، من ضمن خطة إسرائيلية تهدف إلى عدم تموضع هذه الميليشيات على الأراضي السورية لمنعها من أن تُصبح أمراً واقعاً يجب التعامل معها من قبل المجتمع الدولي كقواعد إيرانية متقدّمة في سوريا.
كان الإجراء الأميركي رمزيّاً إلى حدّ ما قبل الهجوم الموصوف على التنف، حيث تمّ إجلاء معظم القوات الأميركية البالغ عددها 200 عسكري، بفضل المعلومات الإستخباراتية التي تمّ تلقيها على الفور حول التخريب العسكري الوشيك في قاعدة التنف.
إذاً، من الواضح حتّى الآن أن الجانب الأميركي لا ينوي خفض نشاطه في المنطقة، إذ أفادت وكالة “سانا” أخيراً بأن مروحيات تابعة للقوات الجوية الأميركية هبطت على الضفة الشرقية لنهر الفرات في دير الزور، حيث نفذت عملية مشتركة مع المقاتلين الأكراد ضدّ خلية تابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية”.
لذلك يرى الخبراء والمتابعون لملفات الشرق الأوسط بشكل عام وسوريا بشكل خاص، أن القصف الموجه ضدّ القواعد الأميركية هو جزء من التكتيكات العامة لخصوم واشنطن، والتي لها فوائد مشكوك فيها وكأنها رسائل إثبات وجود من قبلهم وتسجيل نقاط على أميركا التي يعرفونها بأنها لا تريد الردّ عليهم كي لا تذهب إلى مقارعة فارغة.
برهنت الخطوات المتّبعة بأنّ الفصائل العسكرية بتنفيذ ضرباتها ضدّ معسكر التنف، قد استخدمت فيها طائرات مسيّرة إيرانية الصنع، ما يعني بأن الضربة خطط لها في إيران من قبل “الحرس الثوري” الإيراني، الذي يقود معركة ضدّ أميركا في أكثر من مكان امتداداً للمعركة القائمة حاليّاً في العراق لإخراج القوات الأميركية منها.
وفي هذا السياق، نرى أن الخطة الإيرانية في التعامل مع القوات الأميركية هي إجبارها على الخروج من قواعدها العسكرية من خلال المعركة التي تُديرها إيران بواسطة حشودها الولائية، التي تفرضها علناً من أجل خروج الولايات المتحدة من العراق وسوريا كونها تعتبرها قوات محتلّة.
لهذا السبب تضع إيران ضمن استراتيجيتها أولوية إخراج القوات الأميركية من المنطقة لأنها تعلم نية الولايات المتحدة الخروج من الشرق الأوسط، إذ إنّ المنطقة لم تعد على سلّم أولوياتها، لذا تعد العدّة للخروج أو التموضع المحدّد. إيران تعلم جيّداً بأنّ الخروج الأميركي من المنطقة سيترك فراغاً واضحاً، لهذا تعمل طهران على تثبيت نفوذها الجديد في المنطقة من خلال الإحلال مكان الولايات المتحدة وتقديم نفسها كقوة جديدة مسيطرة، وكأنّ المنطقة من دون أهلها.
إن طموح إيران بات واضحاً، وهو إخراج أميركا من العراق وسوريا، حيث باتت تنظر بفارغ الصبر إلى مرسوم رئاسي من الرئيس الأميركي جو بايدن على غرار ما جرى في أفغانستان والإنتقال سريعاً إلى دور استشاري بحلول العام الجديد، خصوصاً بعد تسرّب أنباء إلى العلن بأن الولايات المتحدة تُريد إعادة تموضعها في الشرق الأوسط، ما فتح الباب أمام شهية إيران المتعطشة للسيطرة والبطش.
لقد شكّل الإنسحاب الأميركي غير المنظّم من أفغانستان، كما احتلال أفغانستان، نقطة تحوّل جديدة لإيران في رفع منسوب طموحاتها الهادفة إلى ملء الفراغ، بالرغم من أن الولايات المتحدة حتى الآن لم تظهر نيّتها الفعلية بالخروج من العراق وسوريا وإنهاء مهامها العسكرية التي لم تنتهِ بعد.
إذاً من الواضح جدّاً أن الضربات المقابلة من الحشود الإيرانية تهدف إلى إجبار إدارة بايدن على تقليص دور قواتها العسكرية في مناطق معيّنة من الشمال الشرقي. والإنتهاء من المهمة القتالية الأميركية النشطة في العراق والانسحاب السريع للوحدات الأجنبية من أفغانستان يخلقان خلفية مماثلة للتمدّد الإيراني، لأن قصف مواقع قوات الدفاع والأمن والقوات الأميركية هو حلقة أخرى في تكتيكات تضييق الحيّز العملياتي على واشنطن وجنودها في سوريا.
ويستبعد مراقبون للسياسة الأميركية في الخارج أن تكون محاربة تنظيم “داعش” هي السبب الرئيسي وراء الوجود الأميركي المستمرّ في سوريا أو العراق، ففي خضم تعدّد المصالح الأجنبية في سوريا أصبح للمهمة العسكرية الأميركية هناك تداعيات واسعة تتجاوز بكثير قتال التنظيم الإرهابي. فإنّ سيطرة أميركا على المجال الجوّي في شرق سوريا، يُساعدها على إبقاء الأمور بيدها وتحت سيطرتها بالرغم من سعي روسيا الدائم لإخراجها من سوريا، حيث تتلاقى توجهات موسكو مع طهران.
لكن عملية الاستباحة المستمرّة للمناطق الكردية من قبل ميليشيات إيران و”الحرس الثوري” وتعرّضها الدائم للقصف والهجمات المقنّعة ستكون لهما تأثيرات ومضاعفات على الجانب الكردي السوري. فإنّ مثل هذا الضغط يلعب ضدّ عملية استدراج الأكراد إلى الجانب الحكومي، بالرغم من كلّ الزيارات والمفاوضات وبيع المنتجات النفطية للأسد عبر رجال الأعمال السوريين الموالين لدمشق، الإخوة القاطرجي.
نرى أن روسيا وتركيا لديهما اتفاقات تمّ تحديدها خلال عملية أستانا في شأن الضغط على منطقة المصالح الأميركية. إن نجاح مثل هذه المحاولات لقضم أجزاء جديدة من المنطقة، التي لا يُسيطر عليها نظام الرئيس بشار الأسد، يعتمد على قرار سياسي من جانب واشنطن لتمديد المهمّة في شرق سوريا ودعم قوات الإدارة الذاتية الكردية أم لا، لأنّ النظر إلى رغبة جزء من المؤسّسة السياسية الأميركية في سحب القوات لا يُشكّل قراراً نهائيّاً وواضحاً يُمكن أن يبنى عليه. ومثل هذه الأحداث، أي القصف بقذائف الهاون والحرب الإلكترونية، قد تُثير انتقادات جديدة في الكونغرس لأداء إدارة بايدن، التي تُفرح خصوم الولايات المتحدة وتدفعها أكثر لتسجيل ضربات عاجلة تؤدّي إلى تحقيق أهدافها.
رابط مختصر..https://arabsaustralia.com/?p=21067