مجلة عرب أستراليا سدني –
بين ماضي الإسلام ومستقبله: دعوةٌ صريحةٌ إلى حوارٍ هادىءٍ مع أخوةٍ مزاجيّين (4 – 4)
بقلم:الدكتور جمال دملج –كاتب لبنانيّ
إذا كان قد قُدِّر للمفكِّر والفيلسوف الفرنسيّ ألبير كامو أن يقول يومًا في حياته “إنّ الصحافيّ هو مؤرِّخ اللحظة”، فإنّ خير ما يمكن أن نستدلّ به؛ نحن أبناء “مهنة المتاعب”، من وحي هذا الكلام المتّزن والمسؤول، يتمثّل في ضرورة الإقدام على اتّخاذ خطواتٍ جريئةٍ من شأنها أن تؤهِّلنا لكي نكتب تاريخًا نظيفًا بكلّ ما يحمله التوصيف من معاني، أقلّه عن طريق البدء بنفض الغبار عن أحداثٍ ومحطّاتٍ قُدِّر لها أن تُوثَّق في العديد من المراحل التاريخيّة السابقة بأساليبَ وأدواتٍ ملتبِسة.
ولعلّ الأجزاء الأولى والثانية والثالثة؛ بالإضافة إلى هذا الجزء الرابع والأخير من دعوتنا إلى حوارٍ هادىءٍ مع أخوةٍ مزاجيّين، لم تخرج في مجملها عن سياق الإطار العامّ للرغبة في نفض الغبار والتفكير بصوتٍ عالٍ، انطلاقًا من قناعةٍ راسخةٍ مؤدّاها أنّ أكثر ما ظلّ مخيفًا في حياتنا الإنسانيّة يتمثّل في الأصوات الخافتة التي درجَت العادة على أن تتردَّد عن طريق الهمس، حيث يختلطُ حابل الحقائق بنابلها، وتتراكمُ طبقات الغبار، وتتكاثرُ شياطين الظنون… وحيث “إنّ بعض الظنّ إثم”.
السلطة الرابعة
الحديث عن الواجبات المهنيّة المرتكزة على أخلاقيّات العمل في الميدان الصحافيّ لا بدّ من أن يذكِّرنا؛ مثلًا، بالجريمة الهمجيّة والشنيعة التي أودت في شهر تمّوز (يوليو) عام 2016 بحياة الكاهن جاك هامل على مذبح الربّ في مدينة روان الفرنسيّة، ولا سيّما أنّ الموجة العارمة من مواقف الشجب والإدانة والاستنكار التي أثارتها في أماكنَ مختلفةٍ من العالم على خلفيّة ما اتّسمت من وحشيّةٍ لا تمتّ إلى السلوك البشريّ الطبيعيّ بأيّ صلةٍ، سرعان ما استوجبَت إعادة تسليط الضوء على جوانبَ ظلّت مهملةً في أجندات المعنيّين بملفّ مكافحة ظاهرة التطرّف والإرهاب على طول خارطة العالم وعرضها، وأهمّها الدور المشبوه الذي لعبته وسائل الإعلام العالميّة والعربيّة في الترويج لهذه الظاهرة الظلاميّة المقيتة.
وهكذا رأينا كيف سارعَت الدوائر الإعلاميّة الفرنسيّة، على وقْع هوْل صدمة ذبح الكاهن – الشهيد، إلى اتّخاذ قرارٍ يقضي بالتوقُّف عن نشر كافّة الأخبار المتعلّقة بعمليّات الإرهابيّين وجرائمهم وتحرّكاتهم ونشاطاتهم، وذلك في خطوةٍ صائبةٍ وجريئةٍ كان يُفترض أن يُحتذى بها في بقيّة دول العالم من أجل المحافظة على رونق “السلطة الرابعة”، وبالأخصّ في العالم العربيّ.
عِلم الأعصاب
هذه الخطوة النابعة من الحسّ بالمسؤوليّة تجاه الأخطار السيكولوجيّة التي ظلّت تنجم على مدى السنوات الماضية عن نشر مثل هذه الأخبار، وخصوصًا من جهة تحريك وإثارة غرائز العنف والتطرّف والإرهاب في أوساط الجماعات المحكومة بها، سرعان ما أعادت إلى الأذهان محاضرةً على قدْرٍ كبيرٍ من الأهمّيّة، كانت أستاذة علم الأعصاب في جامعة أوكسفورد البريطانيّة العريقة الباحثة كاثلين تايلور قد ألقتها في مهرجان “هاي للثقافة والفنون” في مقاطعة ويلز عام 2013، وكشفت فيها عن خلاصةِ أبحاثها بخصوص “ارتباط الأصوليّة الدينيّة بالأمراض العقليّة”، أملًا في وضع بوصلةِ اهتداءٍ صوب الأرضيّة التي يمكن على أساسها إيجاد وسائل العلاج لمثل هذا “المرض المزمن” الذي يواصل التفشّي في المجتمعات التي بقيت حتّى الأمس القريب مستعصيةً عليه، وبالشكل الذي غالبًا ما كان يؤدّي إلى الفتك بضحايا ضحاياه الأبرياء أكثر من ضحاياه المرضى أنفسهم، أي بمن لا ذنب لهم سوى أنّهم يعيشون في تلك المجتمعات.
بارانويا العداء
ولعلّ أكثر ما كان لافتًا في هذه الخلاصة التي توصّلت إليها الباحثة البريطانيّة هو أنّ دراستها لم تنحصر في إطار الأصوليّة الإسلاميّة وحسب، بل اشتملت أيضًا على عيّنات أخرى كتلك التي اعتبرت أنّ دفاع “الجهاديّ الإسلاميّ” عن عقيدته بذلك الأسلوب المتطرّف الذي يوصله إلى الجريمة، قد لا يختلف كثيرًا عن سعي المؤمنين بالعقيدة الرأسماليّة الذين قاموا؛ على سبيل المثال، بقتل الآلاف إبان حكم الرئيس الأميركيّ ريتشارد نيكسون إرضاءً لبارانويا العداء للشيوعيّة، وهو الاعتبار الذي دفع تايلور إلى التساؤل بتهكّمٍ “عمّا إذا كانت أصوليّة أسامة بن لادن أقلّ وطأةً من أصوليّة منظّري الرأسماليّة الذين أمطروا لاوس وكمبوديا وكوريا الشماليّة بالقنابل والصواريخ”؟
ومع وجوب الإشارة إلى أنّ هذه المحاضرة كانت قد أُلقِيت قبل ظهور تنظيم “داعش” ومشتقّاته بنحو عامٍ من الزمان، ولكنّ أهمّيّة إعادة التذكير بها في هذه الأيّام تكمن في أنّها أبرزت ميلًا واضحًا إلى رفض كافّة أشكال التطرّف الفكريّ والعقائديّ، حتّى على مستوى الممارسات الشخصيّة اليوميّة المرتبطة بثقافة العنف، ومن بينها، مثلًا، “ذلك المعتقَد الذي يقول إنّ معاقبة الأطفال بالضرب أمرٌ لا بأس به”، وهي أمور متّصلة فيما بينها بالعنف الذي لا يبدو في أيّ حالة من الأحوال خيارًا شخصيًّا، أو نتيجةً لإرادةٍ حرّةٍ تامّةٍ، بقدر ما يبدو مرضًا متّصلًا بالاضطراب العقليّ.
“الجبل المقدَّس”
وبالعودة إلى مدى ارتباط ظاهرة الأصوليّة والتطرّف بتعاليم الأديان، لا بدّ من الإشارة إلى أنّه منذ زمان “يهوديت الأرملة” التي تقول بعض الأسفار إنّها تمكّنت من التسلّل إلى خارج أسوار مدينة القدس لتنجح في إغراء الجنرال أليفانا قائد جيوش “ملك الأرض” نبوخذ نصّر أثناء الحصار الذي فرضه على المدينة تمهيدًا لاقتحامها، قبل أن تقوم بقطع رأسه على سريره في تلك الخطوة الجريئة التي أربكت ضبّاطه وحالت دون سقوط القدس في قبضتهم، ولغاية زمان إيجال عمير الذي قال إنّ الله أمره بتنفيذ عمليّة اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيليّ الراحل إسحاق رابين في تلّ أبيب، بدا أنّ نزعة التطرّف في اليهوديّة، سواء في تجلّياتها الدينيّة الخالصة أم الصهيونيّة المُستحدَثة، كانت ترتكز دائمًا إمّا على دافع الدفاع عن النفس والأرض والمكتسبات، أو على دافع الرغبة في تحقيق مكتسبات جديدة.
وإذا كانت الأديان السماويّة التي تلت اليهوديّة قد تمكّنت، إلى حدٍّ ما، من تهذيب نزعة التطرّف على خلفيّة تعاليم السيّد المسيح عليه السلام وقوله مثلًا: “سامحهم يا أبتاه لأنّهم لا يدركون ما يفعلون”، فإنّ استغلال الدين في السياسة، هو الذي أدّى إلى قيام من تحدّثت عنهم كاثلين تايلور في تقريرها من منظّري الرأسماليّة بإمطار لاوس وكمبوديا وكوريا الشماليّة بالقنابل.
والأخطر من ذلك، فإنّ التطرّف في أوساط أولئك المنظّرين، كان قد ضرب أطنابه بشكلٍ خطيرٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنسانيّ الحديث، وذلك عندما قام الرئيس الأميركيّ السابق جورج بوش بالإفصاح علنًا لنظيره الفرنسيّ (الراحل) جاك شيراك بأنّه ذهب إلى العراق عام 2003 لكي يحارب “بأجوج ومأجوج” هناك، استعدادًا لمعركة الهرمجدون (الجبل المقدّس) الحاسمة.
“الثالوث المحرَّم”
في مقابل ذلك، وللإنصاف، لا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أنّ التاريخ الإسلاميّ لم يُظهر أنّ الفتوحات كانت تتمّ بباقات الورود وحبّات الأرز وماء الزهر، ولا سيّما أنّ نزعة القتال غالبًا ما كانت تتجلّى بوضوحٍ في ميادين الحرب على خلفيّة قوله تعالى في سورة البقرة: “وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله فإنْ انتهوا فلا عدوان إلّا على الظالمين”، علمًا أنّ القرآن الكريم، ومن ضمنه هذه السورة وغيرها، لا يمكن أن يبرِّر لبعض “الفئات الضالّة”؛ على حدّ تعبير العاهل السعوديّ الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، مثل الجهاديّين والسلفيّين والتكفيريّين وغيرهم، دفع الأمّة الإسلاميّة بأكملها إلى الدرك الذي وصلت إليه بفعل الممارسات المتطرّفة الشنيعة.
وإذا كان من المفيد هنا استحضار ما دوَّنه صاحب نظريّة “نهاية التاريخ وخاتم البشر” المفكّر الأميركيّ فرانسيس فوكوياما عن أنّ أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتّحدة بحقّ نُظُمها القيميّة تمثَّل في أنّها اكتفت بالعمل على تحقيق مصالحها السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة من خلال تحالفاتها مع عددٍ من الدول الغنيّة في الشرق الأوسط، من دون أن تبذل أيّ جهدٍ يُذكر على صعيد إقناع قادة تلك الدول بالقيام بتوزيعٍ عادلٍ لثرواتهم الوطنيّة على شعوبهم، فإنّه من المفيد أيضًا تجديد التأكيد على أنّ موضوع التفاوُت الطبقيّ ظلّ يشكّل؛ بالإضافة إلى موضوعيْ الدين والجنس، زوايا ما يُعرف بـ”الثالوث المحرَّم”، نسبةً إلى ما كنتُ قد تحدَّثتُ عنه في جزءٍ سابقٍ من هذا البحث لدى التطرُّق إلى كتاب بو علي ياسين الصادر تحت نفس العنوان في سبعينيّات القرن العشرين، والذي اعتَبر فيه أنّ الخطوط الحمراء التي وضعَها القائمون على رسالات رسل الله على الأرض للحيلولة دون التطرّق للدين، حتّى خارج نطاق الإلحاد، وللجنس، حتّى خارج نطاق الأباحيّة، وللتفاوت الطبقيّ، حتّى خارج نطاق الشيوعيّة، أدّت في نهاية المطاف إلى خلقِ مجتمعاتٍ منغلقةٍ على نفسها، ويعيش فيها بشرٌ يعانون في الأصل من مشكلاتٍ لا حصر لها على صعيد التفاهم مع طموحاتهم ورغباتهم الشخصيّة، وهي المشكلات التي تسبّبت لهم بـ”اضطراباتٍ عقليّةٍ”، على حدّ تعبير الباحثة البريطانيّة كاثلين تايلور، ودفعتهم إلى تبنّي نهج الأصوليّة والسير على طريق الإرهاب.
خلاصة القول
ولعلّ النقطة الأهمّ التي يُفترض استحضارها في سياق استكمال هذا البحث تتعلَّق بدور الإعلام الواعي في التعاطي مع المدّ الأصوليّ والتكفيريّ الهائل الذي لم يسبق لا لارتفاع منسوب خطورته ولا لاتّساع نطاق استهدافاته الدمويّة، في حاضرنا الراهن، أيّ مثيل.
وإذا كانت الشواهد التاريخيّة تدلّ إلى أنّ “قناة الجزيرة الفضائيّة” في قطر هي التي افتتحت موسم الترويج للفكر الأصوليّ، منذ أيّام تلك المقابلة القديمة التي أجراها الزميل جمال إسماعيل مع أسامة بن لادن في أواخر تسعينيّات القرن العشرين، والتي استخدمها مدير الأخبار (وقتذاك) في “الجزيرة” الزميل صلاح نجم في برنامجه الشهير “رجلٌ ضدّ دولةٍ… ودولةٌ ضدّ رجل”، فإنّ عمليّات الترويج لذلك الفكر ظلّت مستمرّةً حتّى بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، ولدرجةٍ دفعت الكثيرين إلى حدّ الاعتقاد بأنّ إغراق وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمقروءة بأخبارٍ عن “ثقافات” الأصوليّين وتحرّكاتهم، كان ضرورةً ملحّةً للدعاية الرسميّة الأميركيّة التي أرادت السعي في اتّجاه توفير “المبرّرات الأخلاقيّة” لاستمرار خططها الاستراتيجيّة في مجال “الحرب على الإرهاب”.
وعلى الرغم من أنّ التفكير بـ”عقليّة المؤامرة” يغري كثيرًا بطرح مئات التساؤلات عمّا إذا كانت المنظومة الإعلاميّة الغربيّة، وأدواتها المحلّيّة، قد فعلت فعلتها في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة مع سبق الإصرار على نوايا مبيّتةٍ أم لا، وخصوصًا في ظلّ تحوّل مهنة الإعلام من رسالةٍ إلى تجارةٍ، فإنّ ما يُفترض وضعه على رأس سلّم الأولويّات في الوقت الحاليّ هو كيفيّة العمل على وضع حدٍّ لهذا الانتحار الإنسانيّ المجنون، أقلّه عن طريق التفكير بصوتٍ عالٍ من أجل المساهمة في كتابةِ تاريخٍ نظيفٍ، وأن نحذو حذوّ الدوائر الإعلاميّة الفرنسيّة بالإقدام على حظر بثّ أخبار الجماعات الإرهابيّة والأصوليّة والتكفيريّة حيثما تتواجد في العالم، علّنا نقدّم بذلك تحيّة وفاءٍ لأرواحِ زملاءَ سقطوا أثناء قيامهم بأداء واجباتهم المهنيّة في خضمّ تداعيات هذه المعمعة الهستيريّة الطائشة، وبالتالي، علّنا نُسهم في إيقاظ الضمير المهنيّ في وجدان زملاءَ آخرين “ساقطين” في الأصل… وهم لا يزالون على قيد الحياة. والخير دائمًا من وراء القصد.
رابط مختصر –https://arabsaustralia.com/?p=14688