عيون صغيرة تبرق من بعيد، سماء قريبة، وجه بيضاوي، شمس غارقة بالنحيب، ريح
شديدة ووجه أبيض وقدمان تعتليان سور حديقتي، إنه ذاك الشاب صاحب الحصان الأبيض.
ماذا أكون ومن أكون، وماذا به هذا الصفر الملتحي ينزوي في زاوية الحارة منذ مئات السنين، من يكون؟ ما هو ذنب المشتري ينتفض خائفا البدر عند بلوغ الليل، وما هي آليات الوجع الدائم التي تفجّر خاصرة العالم؟ حروب كثيرة لا تنتهي. ومن تكون تلك صاحبة البسمة المُشوهة في عمر الورود، ومن وضع الفراشة المتعبة على وسادتي في مخدعي الخاص ذات صباح؟ لست أنا، فأنا أراقب الفراشات من بعيد فقط، لا ألتقطها ولا أضعها على وساداتي، وساداتي حارة مثل أفكاري المشتتة وعيناي دامعتان، لامعتان تشبه هطول الأمطار أثناء عواصف الصيف في مناخ استوائي.
من يأتيني في يوم غارق حتى الرُّكب بلوحة تمثلني ويضعها على حائط مبكاي، لن أبكي علي أيامي الماضية، تخلّصت منها تلك الذكريات التي بدأت تنهمر بلا وعاء يلتقط دمعي. أنا هي التي مسحت أبخرة المدافن وزينت حدائق القصور، أنا التي جمعت زقزقة البلابل ووضعتها في حناجر الببغاوات، أنا التي دفّأت ثلج القلوب وأوقدت مصابيح الحياة للعذارى والمشتهين!
من تكون تلك العجوز الرابضة في زاوية الطريق الترابي، لم أعد أذكر حارات فلسطين المتربة، لم أعد أذكر سوى خطواتي التي واكبت خطوات جدتي قبل رحيلها بقليل، لم أعد تلك الفتاة صاحبة الحنجرة الذهبية، أين تقهقرت أغاني الطفولة ومواويل العاشقات ودلعونيات العجائز السعيدات؟ فالغناء لم يجلب لنا سوى المتاعب والحسرات، اقتصرت الزغاريد على مواويل شاخت وماتت داخلها السعادة فصمتُ، أين هو صوتي ومن سرقه مني، لم أعد أتقن الغناء، هل تسوله طائر الحب في (أستراليا) مني؟
قالوا لي يوما، لا تركضي، خطواتك تأتي بالمستحيل ونحن لا نستطيع اللحاق بك، لا تركبي حصان الجيران فهو لا يعود لكِ، وأنا أحببته، بل هو حبّي الأول الحصان وصاحبه، أمروني: لا تلعبي مع الصبية فيتسخ بياضك، قالوا لي لا تلعقي العسل لعقا، تذوقيه فحسب، صرخوا في وجهي: لا تصعدي التينة، لم أتذوق الحبّات من لبّ الشجرة العملاقة التي هي في بالي حتى الآن، وقالوا ثم قالوا دائما: لا تختبري الله فهو موجود دائما.
ألم يتصدر الألم مفرقي ذلك الجار العجوز بعد، أطلق لحيته وصبر على مرّ الزمان عندما فقد أبناءه في الحروب، ما يزال يطلق النكات! لا أحد يضحك. لم يكتمل رمش الطفلة التي لدغتها الحية وهي في حضن الحقل تتأوه فواصلوا حصاد جهدهم في كل أوان! هل ارتكبت (سامية) خطيئة ما عندما فقدت عذريتها وهي طفلة تلعب مع الأطفال، أليست الخشبة التي غرزت داخلها السبب، لماذا وبعد أربعين سنة ما زالت تحمل معها مصيبتها من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة هاربة من ذنبها! وتلك الفتاة التي عضها الفأر وهي نائمة حيث التهم نصف أذنها، ماذا حلّ بها؟ هل ألصقوا لها أذنا أخرى لكي تمتطي حصان الجيران الأبيض؟ و(فاطمة)، لماذا لم تتخلص من عيبها عندما أخرجت حنشا خرج من بين ساقيها أمام مرأى الأطفال الذين خافوا الاقتراب منها وهم يصرخون (حيّة، ثعبان، فاطمة ولدت ثعبانا)، وبقيت المسكينة مسلوبة الإرادة، وقفت مكانها تبكي وتولول خائفة، لا تحرك ساكنا ولا تستطيع إخفاء عيبها عن أعينهم الخائفة ونظراتهم القاتلة، هل جفف أحد ما دمعها؟
خسارة أني لم أستطع رتق العالم المجنون من آفاته قبل أن أهرب، خسارة أني بلغت سنّ الطفولة في حارة لم تلتزم حكم الجيرة على الجيرة فأصبحت وكرا لسارقي القمح، ثم وكرا لفاقدي الحياة فحولوه إلى ملجأ لتجارة الحشيش والمخدرات. هناك تركت بعضا مني، خطواتي التي أحببتها، مسحها البوم بنعيقه!ّ وصورتي التي كانت حيّة داخل عيون البشر، جميعهم أصيبوا بالعماء ومنهم من فقد الحياة! ومنهم من فاته قطار النوم الأبدي فأصبحوا قيد الانتظار، منهم من تناسى ومنهم من نسي بالفعل ومنهم من ظلّ هناك يبكي على الأطلال، الأرواح تتناسخ هناك، فالرجل الذي أنجب ولدا عاقا يتخرج من سلالته عشرة يشبهونه والمرأة العاقة التي تتكافل مع الشيطان، يركبها ذلك الشيطان فتنجب بناتا شيطانات مثلها، ومن تعوّد على الإقامة في أوحال الرذيلة لا يستطيع أن يخرج من مستنقعات الفساد، وبيقى السؤال نافذا:
هل اعترف حصان الجيران الأبيض بخطيئته الذي كان حلم كل فتاة لم تمتطه؟