مجلة عرب أسترالياـ بقلم أ.د.عماد وليد شبلاق ـ رئيس الجمعية الأمريكية لمهندسي القيمية بأستراليا ونيوزيلندا ونائب رئيس المنتدى الثقافي الأسترالي العربي وعضو الهيئة الاستشارية بمجلة عرب أستراليا
كما ذكرنا في الجزء الأول من المقال، فإن تأثير الفلاسفة اليونان على العرب والمسلمين كان كبيرًا مما سُمّوا فيما بعد بالفلاسفة المسلمون، إذ أن “الفلسفة” لم تكن معروفة في صدر الإسلام. لذلك ينبغي أن نفهم قليلًا عن فكر وشخصيات الفلاسفة اليونانيين قبل أن نخوض في تشخيص وتحليل ما نرمي إليه من أهداف وراء هذا الطرح.
فلاسفة اليونان:
- أرسطو (Aristotle): فيلسوف يوناني وأحد أعظم الشخصيات الفكرية في التاريخ الغربي. وُلد في العام 384 قبل الميلاد في اليونان القديمة، ويُعتبر مؤسس علم المنطق (Founder of Logic). وقد كان مؤلفًا لنظام فلسفي وعلمي أصبح إطارًا لكل من المدرسة الدينية المسيحية والفلسفية في العصور الوسطى. وبقيت مفاهيمه جزءًا مهمًا في التفكير الغربي حتى بعد الثورات الفكرية في عصر النهضة والإصلاح والتنوير. كان النطاق الفكري لأرسطو واسعًا وشمل معظم العلوم والفنون بالإضافة إلى تأسيس علم المنطق، والذي ابتكر له نظامًا متكاملًا على مدى قرون. وما زالت مؤلفاته في الأخلاق والنظرية السياسية والميتافيزيقيا وفلسفة العلم مستمرة حتى اليوم، حيث تُعد أعماله من أقوى الآراء في الجدل الفلسفي المعاصر.
من أعماله:
- يفترض أرسطو أن الهدف الأساسي في حياة الإنسان هو السعادة (اليودايمونيا) أو العيش بصحة جيدة، ويجب أن يعيش بشكل أفضل.
- يجادل أرسطو بأن الإنسان لا يحتاج إلى فعل لارتكاب جريمة، فالامتناع عن القيام بشيء ما يمكن أن يكون غير أخلاقي.
- حياة المدينة هي الوطن الطبيعي للبشرية، وأن حياة المدينة (المجتمع) أهم من الأسرة، وأن الأسرة أهم من الفرد.
- أفلاطون (Plato): وُلد أفلاطون عام 427 قبل الميلاد في مدينة أثينا باليونان. وقد كان من طلاب الفيلسوف سقراط ومعلمًا للفيلسوف أرسطو. كما أسس أكاديمية خاصة للأعمال الفلسفية ووضع تصورًا منهجيًا وعقلانيًا لبعض المفاهيم وعلاقتها المتبادلة في علم الميتافيزيقيا كال أخلاق وعلم النفس. واحتوت أعماله على مناقشات في الجماليات والفلسفة السياسية وعلم الكونيات وفلسفة اللغة. وشملت أعماله أيضًا الرياضيات، التي اهتم بها كثيرًا لفهم الكون بأسره. بالإضافة إلى ذلك، فقد أسس عملًا يقوم على استخدام العقل لتطوير مجتمع أكثر عدلًا ووسطية، يعمل على المساواة بين الأفراد.
- سقراط (Socrates): فيلسوف يوناني عاش في أثينا (469 – 399) قبل الميلاد. عُرف بفكره وآرائه وطريقة حياته التي أثرت على كل من الفلسفة القديمة والحديثة. وقد اشتهر بفلسفته الشهيرة بضرورة سعي الرجال نحو الذكاء. بالإضافة إلى أنه كان من الشخصيات المثيرة كونه طبق مبادئه ولم يتنازل عنها على الرغم من أنها كلفته حياته. بدأ حياته كنحات، وكان على معرفة بالفلاسفة من قبله أمثال بارميندس وهيراقليطس وأنكساجوراس. ويتمتع بمعارفه أو قدراته العقلية الواسعة قبل بلوغه سن الأربعين لدرجة أن الحاكم للدولة في ذلك الوقت أعلن بأن سقراط أحكم رجل في اليونان. وبالرغم من أنه عاش قبل 2500 سنة، فإن فلسفته ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وقد تناقل رسائله تلميذه أفلاطون. وفي سن السبعين، تعرض للمحاكمة وصدر الحكم بإعدامه وتم تسميمه من قبل هيئة المحلفين المشكلة من المواطنين.
من آرائه:
- الإنسان يعلن امتلاكه للمعرفة من دون إدراكه للجهل الذي يمتلكه في الحقيقة.
- اعترف بأنه على بينة بجهله على عكس الآخرين.
- دعوة سقراط وفلسفته ارتكزت على البحث عن “الحكمة” في السلوكيات المختلفة التي تساعد على تحسين الأفكار والأخلاق للناس في أثينا.
- أفنى عمره في مناقشة قضايا العدالة والتقوى بين المواطنين.
- لم يهتم بالمناصب الإدارية العامة، واشتهر بالشجاعة في الحملات العسكرية فكان له العديد من الأعداء.
مفاهيم الفلسفة عند اليونانيين وعند المسلمين:
من السرد السابق وفي الجزئين الأول والثاني، تتضح لنا بعض الحقائق التي سنبني عليها تشخيص وتحليل ما نرمي إليه في هذا المقال وما سنصل إليه من استنتاجات في النهاية:
- مؤكد أن الرب أو الخالق (عز وجل) عندما خلق الإنسان خلقه مكتملاً، وكان العقل هو المكون الرئيسي والمميز له عن باقي المخلوقات والكائنات الأخرى من حيوانات وجمادات وغيرها. ومن هنا برز استخدامه في التفكير والتدبر والحكمة والتفريق بين الخير والشر في حياته الدنيوية، ومن قبل أن يرسل لهم الرسل والأنبياء (العصور السابقة) لاختيار الطرق المثلى للخلافة في الأرض.
- خلق الله الناس أو البشر ومنحهم العديد من الصفات سواء الجسدية أو الفكرية والعقلية. فمنهم الحكماء والعلماء، ومنهم الفسقة والمجرمون (إما قد وُلدوا بها أو تدربوا عليها لاحقًا). والشيء الذي نلاحظه في الفلاسفة السابقين سواء كانوا عربًا/مسلمين أو من اليونان القديمة أو من بيزنطة هو أنهم كانوا على قدر عالٍ من استخدام العقل (Brain) في تحليل الأمور واستنباطها (بالأدلة والبراهين). وقد برعوا جميعًا في تلك الأدوات التي تؤدي إلى ذلك ومنها علوم الرياضيات (Mathematics). ولقد شهدنا ذلك في كل من فيثاغورث وأرسطو وأفلاطون وسقراط، وكذلك علماء المسلمين مثل الرازي وابن سينا وابن الهيثم والكندي وجابر بن حيان والفارابي وغيرهم. وتجد معظمهم قد ألموا بكل العلوم؛ فتجد الواحد منهم قد اشتغل وبرز في القضاء والفقه والرياضيات والفلك والطب والفيزياء وغيرها.
- بعدما انتهى المسلمون الأوائل من غزواتهم وحروبهم مع الآخرين وتوسعت دولتهم في المشرق والمغرب، بدأوا بالتعرف على حضارات الدول الأوروبية مثل الحضارة اليونانية والرومانية والفارسية وغيرها. وبعدما تُرجمت أعمالهم، قام جزء كبير منهم (العلماء أو الحكماء أو الباحثون وطلاب العلوم) بالتعمق في أفكار وآراء رواد الفكر العقلي والفلسفي، وتعرفوا على فلسفتهم ونظرياتهم وعلومهم وإنجازاتهم العلمية (الخطأ والصواب) والفكرية والفلسفية على مختلف العصور.
- كان الغطاء الديني بالنسبة للفلاسفة دائمًا هو العقبة الوحيدة التي تحد من استخدام العقل واستثماره في تفسير أمور الخلق والمعيشة والأخلاق والمعرفة وتفسير مجريات الكون. وقد انتبه عامة الناس لذلك، خاصة الطبقة الحاكمة ومن تبعهم من رجال السلطان والكنيسة أو المسجد والمعبد حسب الديانات الموجودة في مختلف العصور (بوذية/سريانية/بابلية/آشورية وغيرها)، والتي عادة ما تكون توجهاتهم أقرب للسياسة والأمن والسلطة. ومن هنا قام البعض من هؤلاء (إما حسدًا أو جهلًا أو دسائس) باتهام بعض الفلاسفة بالهرطقة والزندقة (وهي تغيير في عقيدة أو منظومة معتقدات مستقرة، خاصة الدين، بإدخال معتقدات جديدة عليها أو إنكار أجزاء أساسية منها مما يجعلها بعد التغيير غير متوافقة مع المعتقد المبدئي الذي نشأت منه هذه الهرطقة). الأمر الذي أدى إلى تكفير البعض والدعوة لإحراقهم أو سجنهم أو إعدامهم.
وبناءً على ذلك نأتي إلى صلب الموضوع في المقال واستكمالًا للنقاش، وبعد استعراض مقولات لأحد فلاسفة المسلمين الأوائل وربما أشهرهم على الصعيد الفلسفي (ابن رشد):
- الله لا يمكن أن يعطينا عقولًا ويعطينا شرائع مخالفة لها.
- التجارة بالأديان هي تجارة رابحة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل.
- إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني.
- الجهل يؤدي إلى الخوف، والخوف يؤدي إلى الكراهية
التحليل والمناقشة:
- نحن اليوم نتكلم عن ماضي وحاضر ومستقبل الشعوب منذ أن خُلِقَت وتألفت في المجتمعات، والخير والشر موجودان وقد يغلب أحدهما على الآخر. والمعادلة الكونية مكونة من الخالق والمخلوق وما حولهما (الطبيعة). وعندما أرسل الخالق الرسل والأنبياء إنما لتنظيم أمور البشر وتصرفهم بالشكل السليم بينهم وبينهم وبين الطبيعة. ومن هنا بدأ الناس الأوائل في التفكر والتدبر في كثير من الأمور مثل الخلق والكون والغيبيات والموجودات وكثير من قضايا الأشياء المحسوسة وغير المحسوسة. وقد تنافس الناس وبالذات المبدعون في علوم المعرفة (الرياضيات والفلك والفيزياء وما وراءها واللغات وغيرها) لاستخدام العقل والمنطق، إضافة إلى الاستنباط والبراهين والأدلة لإثبات وترسيخ نظرياتهم وأفكارهم في إجراء الدراسات والأبحاث النظرية والعملية (تجارب الصح والخطأ – trials and errors). ومن هنا نشأ علم أو مفهوم (الفلسفة) كما سمي في تلك الحقبة من الزمان، وبرع فيه العديد من فلاسفة أو علماء اليونان والرومان وغيرهم من الأوروبيين.
- وفي الفترات التي ساد فيها توسع الدولة الإسلامية (بعد الفتوحات) وزيادة رقعتها وحكمها، كان لابد أن يتصلوا بالحضارات الأخرى للتعرف على كثير من الإيجابيات والإنجازات والتقدم الحاصل بها، وخاصة النواحي العلمية. وقاموا بترجمة أعمال الفلاسفة منهم وبالذات القدماء منهم مثل أرسطو وأفلاطون وسقراط وغيرهم. وسرعان ما أدركوا بأن كلمة (الحكمة) قد تكون مرادفة للفلسفة وأكثر انسجامًا مع التوافق الديني (الشريعة الإسلامية) والفكر الغربي اللامحدود. إذ كان هناك دوما ما يحصل اختلافات في الرأي والتفسير بين رجال الدين والكنيسة والمعبد والمسجد مع رجال العلم والفلسفة والحكمة في أمور الموجودات والغيبيات وما شابه، وقد ينتج عن ذلك بعض المصادمات بينهما، وغالبًا ما تكون الغلبة لرجال الدين والسلطان. وينتهي الأمر إما بحرق الكتب والأعمال أو الطرد (كما حصل مع العلامة أو الفقيه الفيلسوف ابن رشد) وعقوبات السجن أو النفي وربما الإعدام.
- وبالنظر إلى أعمال وإنجازات العلماء المسلمين من الحكماء والمفكرين والذين تأثروا كثيرًا بأعمال الفلاسفة اليونانيين مع حفظ الثوابت الشرعية في الديانات وخصوصًا في العلوم المجردة، والتي أبدعوا فيها، ومعظمهم قد أجادوا وأثروا المكتبات الأوروبية والغربية في علوم الرياضيات والفلك والفيزياء والطب والبصريات والكيمياء والجبر والخوارزميات وغيرها. وهناك شواهد كثيرة على فضل هؤلاء العلماء أو الحكماء (الفلاسفة المسلمون/والعرب).
- وحقيقة الأمر عند النظر وبتعمق لهذه المسألة الشائكة نوعًا ما (عند البعض)، يتضح أن هناك صراعًا بين الجهل والمرض والتخلف (مع تأييد من السلطة نوعًا ما) مقابل الفكر العلمي المحافظ لدوافع نابعة من الحقد والحسد والغيرة ووضع المكائد والدسائس بين الطرفين أو الفريقين ولأغراض شخصية بحتة.
- والخلاصة هي أن الله سبحانه وتعالى قد أكد بأن خلق الإنسان وكرمه بزينة العقل ولم يخلق العقل هذا إلا للتفكر والتدبر في مخلوقات الله، ومن ضمن الثوابت الدينية المشروعة والتي لا تتنافى مع إمكانيات وسعة العقل البشري. وأن البشر، سواء كانوا من أوائل الإغريق أو اليونان والرومان أو من علماء المسلمين، قد اجتهدوا والبعض منهم أصاب والبعض الآخر قد أخطأ. ولا يلزمنا أو غيرنا أن نكفرهم (أو نذندقهم) أو نقيم عليهم الحد أو القصاص، وخصوصًا بعد أن نجردهم من فلسفة الكون والزمان والمكان لنبقي على فلسفة العلوم الطبيعية. وبغض النظر عن بعض هفوات الفلاسفة المسلمين، فلا شك بأنهم قد أثروا الحضارات الغربية، والتي ما زال تأثيرهم قويًا (في العلوم) حتى يومنا هذا.
- الموضوع شائك وجدلي لعدة سنوات طويلة، وقد برز مؤخرًا في المحافل سواء الدينية أو الفلسفية أو غيرها، ومنهم من أيد ومنهم من عارض. وربما كان لكل فريق ما يستند إليه من أدلة وإثباتات وبراهين، وعموماً تظل في النهاية وجهات نظر تحترم. والله المستعان.
رابط النشر- https://arabsaustralia.com/?p=40358